هل أكلت الأديان أرواحنا أم أحيتها؟!
منذ أن وعى الإنسان وجوده وهو يمارس أنواعًا مُختلفة من النشاط غير المفُسر ماديًا، يرسم ويصلي، يصنع العبادات والأساطير، يعتنق المعتقدات وينصب الأوثان، يُعد طقوسًا وأنماطًا من السلوك تتعلق بمعاناته الأصلية، يبحث في دأب عن الشعائر ليؤديها. يَنقبُ الأرض بحثًا عن الخافية وسر الوجود، عن الخالق. يروي ظمئًا خفيًا، يُدعى الروح. عجزوا عن تصوره بالمعنى الملموس حتى في نظر أقرب الاتجاهات العلمية للنفس البشرية، ومن هنا كانت النطفة في رحم نقد الأديان.
يزعم “نيتشه” أن أفكار الدينيين كانت نتاجًا لأفكار المُمددين على أحجار مذابح الضعف والمتأخرين في سلسلة الافتراس الغريزي المميز للإنسان. كما يُلخص “ماركس” نظرته المعارضة في المأثورة الشهيرة “الدين أفيون الشعوب” متقاربًا بها مع “فرويد” في نقده للأديان حيث اعتبرها محاولات ذهنية لاستحضار وهم لقوى تعضده في صراعه الدائم مع الطبيعه الأرقى والأكثر تطورًا ووحشية. أو بشكل آخر، احتياج طفولي للرعاية وإيجاد الأب المجهول. بالنهاية، اتفقوا جميعًا على كون الدين فُلكًا يخوض بحارًا من الروحانيات غير الملموسة والتي تؤثر تأثيرا مباشرًا في وجود الإنسان بغض النظر عن فرضية حقيقتها أو اعتبارها وهمًا في عقول المُعتقدين.
*****
العبادة غاية أم وسيلة؟
تطورت أشكال السلوك التعبدي بتطور الإنسان الروحي، وإنطوت في جوهرها على خلاف جذري يدور حول حقيقتها. انتهى لجدلية تدور في دائرة مٌغلقة تبدأ بقوله تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” وتنتهي بقوله: “اعبد ربك حتى يأتيك اليقين“.
هل خُلقنا كآلات منتجه للعبادة كما يقول الفاروقي في كتابه التوحيد:
||فهذه المهمة الجليلة هي علة خلق الإنسان، وهي الغاية النهائية للوجود الإنساني، وهي جوهر تعريف مفهوم الإنسان، ومعنى حياته ووجوده على هذه الأرض. وبمقتضاها يضطلع الإنسان بوظيفة كونية بالغة الأهمية. وما كان الكون ذاته ليكون على ما هو عليه||
أم أن هنالك شئ خفي يدعى (اليقين). سماه القرطبي والطبري بالموت، ليقطعا الطريق أمام محاولات تضمين العبادة لوسيلة والاكتفاء بطرح الوحي في قوله تعالى: “ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم“. بقدر أهمية المسألة الا أنها لم تشغل حيزاً فكرياً كبيراً وأجمع المفسرون الأصوليون على أن العبادة غاية وقد تكون وسيلة على وجه أخر يختص بجلب الرضا الإلهي، حيث تتحول العبادة لقيمة تجارية، ينال بها صاحبها خيراً. لم يتطرق أحد إلى التأثير التعبدي الذي يكون به الإنسان إنساناً، حيث يتجاوز وظيفة الوسيلة إلى غايتها، قد يُعتقد أن الأمر ليس هاماً لكن حينها فقط يمكن فهم منطلقات القاتل المستبد حين يحاذي قدميه في الصفوف الأولى للصلاة والدماء علي يديه لم تجف، وحينها نستطيع إدراك حقيقة الغاية وأنها متٌفردة لايمكن الوصول إليها إلا بإستثناءات.
يقول الزعيم والمفكر علي عزت بيجوفيتش:
||إننا نستطيع أن نميز بين نوعين من الأنشطة مُستقلين، منفصلين.. النوع الأول ينزع إلى تحقيق تَوقِ الإنسان الروحي الذي لا تفسير له إلى قيم الجمال بينما ينحو الثاني إلى مواجهة الإحتياجات الأساسية والمتطلبات المادية الوظيفية||
بهذا الشكل وفقط يمكن فهم العبادة كنسق فني له غاية، أصلها تحرير الروح وله وظيفة تسقط بها التكليفات. يُمكن رؤية حركات الصلاة كأنها انطباع للروح في الفراغ الماثل بين إنحدار الجسد بتلك الصورة الفنية والأرض المستوية كاللحد، أو رؤيتها جموداً كتلك التكليفات المحصورة في صورة أعداد تمثل تقويم الإنسان الملتزم الباحث عن النصر، والمجنون بالانجاز، الفاقد لروحه كلما ازداد انخراطاً في توظيف عبادته.
*****
الحركة الإسلامية والعبادة
||يمكن للدين أن يؤثر في العالم الدنيوي فقط إذا أصبح هو نفسه دنيوياً||
علي عزت بيجوفيتش
*****
يقول: “العبادة هي اسم جامع لكل ما يرضاه الرب من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة” (شيخ الإسلام ابن تيمية). يصمت برهة بعد إتمام وجبة العقيدة. تمر بعدها وريقة بيضاء فارغة الا من أسماء -يتحلق أصحابها- حول نقطة يرتكز فيها أحدهم، يملأها الجالسون باجابات تحمل نسباً طفيفة للخطأ تزداد أحياناً أو تقل وفقا للتدرج النسبي لأخواتها أو مقدرة الأخ على تجاوز مناطات الإحراج ثم تتعالى الهمسات بدعاء المجلس، إنتهى موعد رفع العبادات الشهرية المعتاد و إنصرف الأخْوان إلى دنياهم. يجلس وحيداً مُختلياً بنفسه، يسترجع ذلك الماضي القريب في بدايات عهده بأفكار الصحوة الإسلامية، يحاول جاهداً إستحضار مشاعره المُلتهبة فوق سجادة الصلاة، مشاعر المبتدئين الصادقة كما سماها، يهز صدره عسى أن تمر تلك الرعشة بين جنبيه، يفشل ويُنهي صلاته. باتت أفكاره حول الخشوع حجر عسره في طريقه للخشوع، ولا يعلم أين الخلل، فهو يجاهد وينتظر أن يتحقق الموعود الرباني “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا..” المؤسف أن ذلك لا يحدث. يتسائل مرة أخرى، أين الخلل؟
*****
استهلاك العبادة في صراع دنيوي تحت دعوى الحاكمية وسيادة الدين أو سعياً وراء مطالب مادية مشروعة فقهياً. يحول الدين برمته لمنتج إستهلاكي – ضُربت أسوار التعصب حوله – ليس ملكاً لأفراده، يحول العلاقة الفردية بين الإنسان وخالقة إلى شبكة مجتمعيه ومشاعاً للتنظيم، يقع هو في طرفها ويعترض الجمود باقيها. يصبح نقيب الأسرة ( الخلية البنيوية ) فيها المراقب والمقوم، يندثر مع الوقت المفهوم القابع خلف ورد المحاسبة ويصاب البصر المضروب على مدى خطوط العلاقة بالإجهاد، يكتفي البائس بوجود الواصله البشرية بينه وبين ربه بعد أن صنع حاجزاً على عينه، وهو المنغمس في عبادته إتماماً للدرج الصاعد نحو صرح الخلافة.
لا يدري هل أصبحت الخلافة صنماً يُعبد من دون الله!
هل صار العمل للدين منافياً لروح الدين، هل يفقد الإنسان إنسانيته ليكون إنساناً!
على الأرجح هو لا يدري، لذا هو لا ينقطع عن عبادته، يؤديها وينساها بإنتهائها. لم يفعل التنظيم سوى أن جعل عبادته روتيناً يومياً مميزاً، فهو يصادق سجادة المسجد ومحرابه عوضاً عن مناضد المقهى التي يتبناها رفاقه. علاقة أكثر سمواً بمفهومه الأخلاقي، لكنها نسخة أخرى من المُزيفات التي تملأ حياته. يتذكر متى أجهش بالبكاء عند تلك الآيه، مضى وقت طويل منذ أن حركت مدامعه وهو يسمع قوله ” ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ” ! هل حُرف المصحف أم نٌسخت تلك الآية ؟ أم أصيبت قنواته الدمعيه بالجفاف. يعُيدها مراراً وتكراراً وهو ينشد ” أراك عصي الدمع شيمتك الصبر .. أما للهوى نهي عليك ولا أمر “.
*****
يقول “روجيه كايو” في كتاب “الإنسان والمقدس” أنه إن يكن ثمة شئ يرجو المؤمن منه كل عون وتوفيق فهو المُقَدْس. إن الإحترام الذي يكنه له هو مزيج من الرعب والثقة، بدليل أنه يعزو مايتهدده من كوارث يسقط هو ضحيتها، وما يحققه أو يطمح إليه من إزدهار إلى عمل بعض المبادئ و القوى التي يبذل به مستطاعه من أجل ترويضها أو كبج جماحها. قلما تهم الطريقة التي يتصور بها المؤمن المصدر الأسمى للسراء والضراء”. تمثيل العبادة في فضاء الإسلاميين كأداة تقييم أو قناة إعداد، جعلهم يتصدون لطلقات المدافع الثقيلة بالتكبير، لا يدركون أنها عبرت أجسادهم مخلفة فجوات بعيارات مُختلفة إلا بانخفاض صدى صيحتهم. يتم أيضاً إعتبارالعبادة كوسيلة للتزكية المباشرة بمافيها العبادات التنظيمية الغيرمحققة شرعاً، والمأخوذة ظناً ثابتاً بالاجتهاد، لتصل بأحدهم إلى حافة قيادة كبرى الحركات الإسلامية ثم يخرج بعدها ليتحدث بصفاقة عن إرهاب المُنتمين وخداع الرؤوس المُطلة من فوهات المشانق، تلك التي تبادلت معه يوماً عبارة ” أخي في الله “!
*****
السلطة والعبادة:
على الوجه الأخرمن ظاهرة تحويل العبادة لمنتج إستهلاكي يُقيم طبقية دينيه على إعتبارات ظاهرية.تظل السلطة رائدة الإنتهاز وإن تنافى مع مآربها، تجد فيه سلاحاً آخر. يقول: “بيجوفيتش” في الإسلام بين الشرق والغرب:
||إن كلا من الدين والثورة يولدان في مخاض الألم والمعاناة، يحتضران في الرخاء والرفاهية والترف، يدومان بدوام النضال، حتى إذا تحققا. يبدأ الموت يتسرب إليهما. ففي مرحلة التحقق يُنتجان مؤسسات وأبنية وهذة المؤسسات نفسها هي التي تقضي عليهما في النهاية، فإذا وجدنا خصوماً للثورة في نطاق الدين فهوم خصوم ينتمون للدين الرسمي المؤسسي البيوقراطي الزائف||
*****
في مطلع خريف عام 1328 م، خيم الصمت المطبق على أرجاء قلعة دمشق. كعادته يجلس الشيخ الفاني بين أوراقه في إظلام تام، ضربات قلبة تتسارع على غير العادة ملبية نداء الحقيقة، يفقه لدنو الأجل رغم جدران زنزانته الموحشه. لم يرافقة المرض وحدته طويلاً ، لكن حركته بدأت في الخفوت، وبريق الحياة يتراقص في عينيه، يشق الليلَ صوتُ مؤذن الجامع، يسقط من أعلى برج المنارة يعلن عن رحيل الشيخ طريداً في سجن الحاكم بأمر الله.
*****
إن استحضار محنة شيخ الإسلام بن تيمية ومن قبلة الإمام أحمد بن حنبل بعيداً عن متواليات الإبتلاء والتمحيص وأنماط الثبات، يكشف بوضوح أن الحدثين كانا الأساس الفكري الذى أجلى علاقة الدين بالسلطة، بعد أن كان مُتخفيا بين نصوص فقهاء الإعتزال في العصور الأولى التالية الفتنة. فكما إختزلت الحركة الإسلامية حديثاً أشكال التعبد في توظيف أدواتي بالغ الجفاء من غير إعتبار للجنين المشوة، كانت السلطة تلتزم حرفياً بقانون رد الفعل وتنقل الصراع أحياناً إلى ساحات مذهبية، وتُقدم دائماً – في صدر جبهتها – الصورة النمطية للعابد المتصوف، حيث تؤسس الفروق الظاهرية أو السمت العام لأنماط أكثر قبولاً عند العامة، يتم بعدها الحشد المجنون، ليضغط ذلك الشاب الأمُي على زناد قومي أحمر يُشعل به فتيل الدماء وعبارة الشيخ تترد في رأسه ” من قتلهم كان أولى بالله منهم “. أصبح النظام الإجتماعي بعد أول رصاصة مختومة بحبات المسبحه على شفا جرف هار. يقول : “مالك بن نبي” في ميلاد مُجتمع:
||العلاقة الروحية بين الله وبين الإنسان هي التي تلد العلاقة الإجتماعية في صورة القيمة الأخلاقية وهي التي بدورها تربط بين الإنسان وأخية الإنسان، فعلى هذا يمكننا أن ننظر إلى العلاقة الإجتماعيه والعلاقة الدينية معا من الوجهة التاريخية على أنهما حدث، ومن الوجهه الكونية على أنهما عنوان على حركة تطور إجتماعي واحد، فالعلاقة الإجتماعية التي تربط الفرد بالمجتمع هي في الواقع ظل العلاقة الروحية في المجال الزمني||
*****
السلطة والفن كالزيت والماء لا يختلطان. فإذا إعتبرنا العبادة نسقاً فنياً له دقة المنحوتات الأصلية وفي نفس الحال لايمكن التفريق بينها وبين المُزيفات منهن، يُمكن فهم لماذا يختلط الزيت أحيانا بالماء، ذلك يحدث فقط إذا لم يكن أحدهما كما نعتقد. ما الذي يجعل لوحة الموناليزا رمزية يتم منعها وحجبها بينما تُحرّق أخريات بالآلاف في رائعة ( Kurt Wimmer ) “إكويليبريوم” (equilibrium). وتحاط تلك اللوحه المهترئة في الواقع بأسوار من الحراسه بينما المزيفات تملأن الأرصفه ولا يبتاعهن أحد. ذلك أن المخطوطة الأصلية نُسجت من أوبار الروح، تحمل أخطاءاً فنية وإنحرافات في أطرافها، لكنها تعبر عن النقص البشري وروعه عدم الكمال، تجُسد الفطرية والمشاعر بين شعيرات الفرشاة حين تنساب فوق فراغ اللوحه التي فطر الله النفس عليها. لا يمكن التمييز بين نمطين للعبادة، فهي خصوصية بشرية تنبع من الجوانية للإنسان. ولا يرى منها الناظر سوى حركات لا تنبئ عن داخله شئ. يقول تعالى: “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين“.