مدينة «حاتم علي»: رحلة البحث عن ظل «الأستاذ» الأخضر
في أواخر عام 2011، وخلال نهار أحد أيام تصوير مسلسل «عمر»، وقف المخرج حاتم علي، وطبع نظرة على جدران مدينته السينمائية التي بناها بالحب والصبر، على طريق درعا، وعلم بفراسته أنها قد تكون الأخيرة، مع اشتعال الأحداث في سوريا.. وقد كان.
مع مرور الذكرى الأولى على وفاة حاتم جراء نوبة قلبية، في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2020، ذُكرت المدينة ضمن الفيلم الوثائقي «الفصل الأخير»، الذي يحتفي بمسيرة المخرج السوري، لكن هذه المدينة لا وجود لها على محركات البحث، وحتى المواقع الفنية المتخصصة، من هنا نقترب وندخل إلى منطقة أخرى في عالم حاتم علي، تتعلق أكثر بجهوده في الفن كـ«صناعة»، يُحدثنا عنها نجله المخرج عمرو علي، ومهندس الديكور ناصر الجليلي.
البداية في 2007، عندما انتابت حاتم مشاعر قلق ممزوج بالتحدي، مع الاستعداد لتصوير مسلسل «الملك فاروق»، في أستوديوهات مدينة الإنتاج الإعلامي بمصر، قلق من ظروف تصوير مغايرة لما اعتاده، فكيف لموقع تصوير مُصنّع إقناع المشاهدين بروح العصر الملكي؟ بل كيف سيقتنع هو نفسه، وهو القادم من ثقافة فنية تتعامل مع الشارع والحارة والصحراء المفتوحة، باعتبارها أستوديوهات طبيعية؟ لكن المخاوف تبددت عندما رأى التنفيذ المتقن للديكور، والمزايا التي يوفرها الأستوديو، وتأكدت قناعاته بأهمية الأستوديو، مع إخراج فيلمه “سيلينا” داخل أستوديو الفارس الذهبي في دمشق.
خرج حاتم علي من تجربة العمل في مصر باستفادة متبادلة، أحدث نقلة في الدراما المصرية، بطريقة التصوير السينمائية التي انتهجها، وأضاف إلى صندوق أحلامه، حلمًا جديدًا بإنشاء مدينة سينمائية في سوريا، بحكم أن البنية التحتية هي أساس أي انطلاقة حقيقية للفن السوري، ولضخامة المشروع، توجه حاتم لعرض الفكرة على الدولة السورية أولًا، لكن الأمور لم تصل إلى الوجهة التي يرغب بها، فقرر بدء تحقيق حلمه بنفسه، ووضع أول حجر بالمدينة عام 2010، بحسب ما أوضح لنا مهندس الديكور ناصر الجليلي.
المدينة مكونة من مجموعة أستوديوهات تحمل اسم «أستوديوهات صورة» نسبة إلى شركة صورة للإنتاج والتوزيع الفني التي أسّسها المخرج السوري عام 2007 كما ، أو «أستوديوهات دير علي»، نسبة إلى موقعها في منطقة دير علي، بين محافظتي دمشق ودرعا بالقرب من بلدة الكسوة.
يتحدث الجليلي عن نقطة انطلاق المشروع:
تم بدء بناء مدينة كاملة، من خدمات طرق وزراعة وورش نجارة وخياطة وغيرها، كلها نُفذت باحترافية، كما تم بناء شارع 75 مترًا وهو أمر صعب، إضافة إلى مدينة القدس والمدينة المنورة وقصر كسرى ومبان للفترة الرومانية”، كما يوضح الجليلي، وهي المواقع التي ظهرت في مسلسل عمر.
في كتاب «الاستبداد المفرح» لفجر يعقوب، وهو عبارة عن سلسلة حوارات أجراها مع حاتم علي، قال المخرج السوري، إن عدم وجود أستوديوهات في سوريا دفع السوري مكرهًا إلى الشارع، فتحولت النقيصة إلى ميزة، ومع تجربة العمل في مصر، علم أهمية الأستوديو مرة أخرى، وكيف يمنح المخرج السيطرة على كل عناصر العمل سواء الطبيعية أو العناصر الفنية.
ينقلنا ذلك إلى حديث المخرج عمرو علي، نجل حاتم علي، وكيف حرص والده على بناء مدينة متكاملة الخدمات، سعيًا لهذه «السيطرة» التي يطمح إليها المخرج: «أسست الأستوديوهات بشكل أساسي لخدمة المسلسلات التاريخية والبدوية حيث تضم عدّة ساحات– معبد روماني– شارع روماني– منازل حجرية وطينية.. إضافة إلى أربعة هنغارات (أستوديوهات داخلية مغلقة) لتصوير البرامج أو مسلسلات السيت كوم إلى جانب المرافق الخدمية الثابتة مثل المطعم– غرف المكياج والملابس والإدارة– فندق مؤلف من اثني عشر غرفة– كراج للسيَّارات– إسطبل للخيول– مستودعات للملابس والإكسسوار وغير ذلك…».
يعود الجليلي، الذي عرف حاتم علي منذ عام 2000، ليتذكر أدق التفاصيل، حتى عدد النخلات التي زرعوها داخل وحول المدينة: «زرعنا 70 نخلة عاش منها 64 نخلة.. وعلى أطرافها زُرعت 165 نخلة، وأشجار زيتون وأخرى مثمرة، كما حفرنا بئرًا ضخمة للسقاية، وكرفانات وأماكن للمبيت ومكاتب إدارية وكافيتريا».
لا يتحدث الجليلي عن صديقه إلا بالمضارع: «حاتم يهتم بالتفاصيل، يُحب التحرك بحرية، يُقدّر التخصص»، يصف كيف أن للمكان أهمية كبيرة في عمله: «حاتم يمتاز إن ما عنده قوالب إخراجية جاهزة.. والمكان يلعب دورًا كبيرًا عنده»، يُضيف الجليلي: «يتحرك على 4 جهات ويحتاج حرية في الحركة والمساحات وهو ما أعطيته إياه وبُنيت بيننا ثقة بعد عملنا بمسلسل صلاح الدين الأيوبي».
كانت فترة تصوير مسلسل «عمر» الأغنى والألمع في تاريخ المدينة الصغير، فالبناء المرحلي المبني على الحاجة الفنية، تطلب إنشاء ورشة داخل المدينة لصناعة الإكسسوارات، قام عليها فريق عمل إيراني من 18 شخصًا، يُقربنا الجليلي إلى مدى اهتمام فريق المسلسل بالتفاصيل:
تحوي المدينة كمًا هائلًا من الإكسسوارات والملابس، صُنعت في المغرب ودمشق، يقول الجليلي:
خلال السنوات التي غادر حاتم فيها سوريا، لم ينقطع عن متابعة أحوال المدينة، يقول نجله عمرو: كان يتابع أخبار الأستوديوهات بشكل يومي كما قمت شخصيًا بإدارة الأستوديوهات بعد إعادة افتتاحها في عام 2018، وهو العام الذي شهد اتفاق المصالحة في محافظة درعا واستتباب الأمن في المنطقة، حتى أن حاتم علي كان ينوي العودة إلى سوريا كما أوضح نجله: كان ينوي العودة ليصور جزءًا سوريا من مسلسل سفر برلك «بس ما لحقش للأسف».
تركت الحرب في سوريا بصماتها المؤلمة على كل شيء، ونالت المدينة نصيبها أيضًا «حاتم كان كتير زعلان لأن المدينة أهملت وقت الحرب»، كما يذكر الجليلي، الذي زار الأستوديوهات قبل 6 أشهر عندما كان في سوريا، تغيرت المدينة وتحتاج إلى ترميم، فعلى الرغم من أن العمليات العسكرية لم تطل المدينة فإن الإهمال ترك بصماته عليها بشكل كبير.
المدينة السينمائية التي أقامها حاتم علي في سوريا، هي مشروع تتباهى به الدول، فلماذا لم يكن للمدينة صيت سوريًا وعربيًا، رغم أنها استقبلت بالفعل أعمالًا لمخرجين غير حاتم، يُذكر منها على سبيل المثال مسلسلي «إمام الفقهاء 2012»، و«المهلب بن أبي صفرة 2018»، و«مقامات العشق 2019»، إلى جانب بعض «الفيديو كليبات» اللبنانية والعراقية، والبرامج التلفزيونية.
يطرح «بشر النجار»، مُعد ومنتج الفيلم الوثائقي «الفصل الأخير» عن مسيرة حاتم علي، تفسيرًا لهذا الظل الذي بقيت المدينة واقعة تحته، «نحنا بسوريا ما عنا هالزخم الإعلامي الكبير وما كان عنا بسوريا إلا قناتين بس حتى 2013.. وكمان ما كان مهتم يعملها دعاية كان عم يبنيها لحتى يستفيد منها بالمستقبل»، لكن حتى وإن توارت المدينة في الظل، تستقبل في صمت المجذوبين بحب الفن، فستظل «ظل أخضر»، كقلب صاحبها حاتم.