في عام 1840 تحالفت أربعة جيوش أوروبية بقيادة إنجلترا ضد محمد علي، حاكم مصر، لإنقاذ رقبة السلطان العثماني من سيف ابنه إبراهيم قائد جيوشه، وقد رأت تلك البلدان أن سقوطه ربما يكون مقدمة لغزو قوات الباشا أوروبا. وبعد هزيمة محمد علي أمامهم، أُجبر على توقيع اتفاقية لندن التي تقضي بخروجه من الشام الكبير (فلسطين، سوريا، ولبنان) وإعادة الحكم العثماني عليه. وتلا ذلك مباشرة تبني إنجلترا فكرة لتحجيم طموحه وضمان عدم تكرار التجربة، وذلك بقطع الطريق الواصل بين مصر والشرق بأكمله، وهي الثغرة التي استخدمها أباطرة المال والسياسة والنفوذ اليهودي في أوروبا لتسويق مشروع الاستيطان في تلك المنطقة.

إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليست كافية، لأن هناك قوة جذب متبادلة بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهونة بإمكانيات اتصالهم واتحادهم. إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض فسنجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبقية العرب في آسيا، والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر لتكون بمثابة حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه. وبالهجرة اليهودية إلى فلسطين نستطيع نحن اليهود أن نقوم بهذا الدور، وليست تلك خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقًا للعهد القديم فقط، ولكنها أيضًا خدمة للإمبراطورية البريطانية ومخططاتها، وليس مما يخدم الإمبراطورية البريطانية أن تتكرر تجربة محمد علي سواء بقيام دولة قوية في مصر، أو بقيام اتصال بين مصر والعرب الآخرين.
«حديث المبادرة»، دار الشروق، ١٩٩٨، ص٧٠

أُرسلت هذه الرسالة عام 1841 من بين عشرات الرسائل المتبادلة بين وزير الخارجية البريطاني، لورد بالمرستون، وزعماء النفوذ اليهودي في أوروبا أمثال موسى مونتيجيوري وجيمس ماير دي روتشيلد، لإقناع بالمرستون بمشروع توطين اليهود في فلسطين لقطع أواصر العرب. ولم تكد تمضي بضعة أشهر على عودة السيادة العثمانية على الشام، حتى بدأت الضغوط الإنجليزية لتنفيذ المشروع، ونجح الملياردير مونتيجيوري في تعديل القوانين التي تمنع تملك اليهود للأراضي الفلسطينية بفرمان عثماني عام 1849.

إلا أن موجات الاستيطان المنظم للأراضي الفلسطينية بدأت عام 1882، وهو نفس العام الذي احتلت فيه القوات البريطانية أرض مصر. حيث تم إنشاء ثلاث مستوطنات يهودية هناك في العام نفسه وهي ريشون ليتسيون، زخرون يعقوب، وروش يبنا، تلاها مستوطنتا يسود همعليه وعفرون عام 1883، ومستوطنة جديرا عام 1884. وفي عام 1890، أُقيمت مستوطنات رحوبوت، ومشمار، هيارون. وبعد انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي الثاني عام 1898م، تم إقرار قانون المنظمة الصهيونية العالمية، وهي المنظمة التي تولت كافة الشئون المتعلقة بالاستيطان بعد أن وصل عدد المستوطنات الإسرائيلية إلى 22 مستوطنة.

تأكد الدور الوظيفي لإسرائيل في خدمة الاستعمار الغربي جليًّا في حرب السويس عام 1956، حيث مثلت إسرائيل خلالها رأس الحربة والذريعة للعدوان على مصر، وذلك بغزو سيناء وتهديد الملاحة في قناة السويس بعد ثلاثة أشهر من تأميمها وانتزاعها من أيدي بريطانيا، وهو ما أرادت لندن استخدامه كمبرر أمام العالم لإعادة احتلالها من جديد. ثم ساهمت تل أبيب في إقناع فرنسا بالاشتراك في تلك الخطة بعد جولات تحريض على مصر بسبب دعمها لثورة الجزائر، حتى قال رئيس وزراء إسرائيل قولته الشهيرة: «على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدِّروا أنَّ عبد الناصر الذي يهددنا في النقب، وفي عمق إسرائيل، هو نفسه العدو الذي يواجههم في الجزائر». وجدير بالذكر أنه بعد فشل العدوان بأشهر معدودة بدأت فرنسا بإنشاء أول مفاعل نووي إسرائيلي بالقرب من الحدود المصرية.

إن إعادة التذكير بما سلف من «وقائع» تاريخية يعد ضرورة الآن لوقف هوجة التنطع من «الجرابيع» الجدد – إذا ما استخدمنا مصطلحات محمد نعيم في كتابه «تاريخ العصامية والجربعة» (القاهرة: دار المحروسة، ٢٠٢١) – الداعين للتطبيع مع إسرائيل بدعوى المصلحة القومية المصرية، محاولين تصوير القضية الفلسطينية مانعًا أمام تلك المصلحة الكبرى، وذلك إما جهلًا، بوقوعهم فريسة للأكاذيب والشائعات قصيرة النغمة، كثيرة التكرار، كثيفة التردد – التي نشهد بنجاح ساحق للدعاية الإسرائيلية في ترويجها على نطاق واسع – وإما عمدًا لمصالح شخصية مع دولة الاحتلال، وهي بلا شك تضرب المصلحة القومية المصرية بشكل مباشر عكس ما يروج هؤلاء تمامًا.

إن مصر وحدها هي التي يحسب لها حساب في المنطقة، فهي التي تقدر إذا واتتها الظروف الملائمة على توحيد العرب، لكنها أشبه ما تكون بزجاجة، وعنق الزجاجة سيناء، وإسرائيل تقوم بدور «الغطاء» الذي يمكن كبسه في عنق الزجاجة، فيحكم إغلاقه وختمه وحبس الخطر داخل قمقم لا يخرج منه.

هذا ليس «كلام قومجي» كما يحب أن يسميه دعاة الفهلوة السياسية، بل هو مقطع من يوميات دايفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل ومؤسسها الفعلي.

لقد كان تصوير وتسويق علاقة مصر بالوجود الإسرائيلي على أنه قضية تضامن مع الشعب الفلسطيني فحسب، خطأً وخطيئة لطالما استغلها الاحتلال في ترويج خطاب التطبيع الذي استتبع خطابًا يعمل على تصوير القضية الفلسطينية كعائق أمام نهضة مصر ومصالحها المرتبطة بالتقارب مع الاحتلال، وهو ما أصبح كذبًا رائجًا تلوكه ألسن دعاة التطبيع.

ربما نسي – أو تناسى – هؤلاء وهم يساقون خلف الدعاية الإسرائيلية، محاولات خنق مصر التي لا تتوقف منذ قرابة قرنين من الزمان، وحتى هذه اللحظة بعد وصول العلاقات مع تل أبيب إلى الحميمية بشكل غير مسبوق تاريخيًّا. فعلى سبيل المثال، لا تزال المشاريع الإسرائيلية البديلة لقناة السويس – أهم مصادر الدخل القومي المصري – تجري على قدم وساق، من أهمها خط نفط إيلات–عسقلان الذي يضرب مصالح مصر في مقتل بشهادة من الفريق أسامة ربيع رئيس هيئة قناة السويس، وهو الخط الذي تم تشغيله بموجب عقد بين شركة (EAPC) الحكومية الإسرائيلية وشركة (MED-RED Land Bridge Ltd) في الإمارات بهدف نقل النفط الخام والمنتجات النفطية الخليجية إلى محطة إيلات على البحر الأحمر، ومنها عبر خط الأنابيب إلى ميناء عسقلان على البحر المتوسط ثم إلى الأسواق الغربية دون المرور عبر قناة السويس. ووفق التقديرات، فإن حركة البترول عبر القناة تمثل نسبة 27% من إجمالي الحركة فيها. وقد توقف هذا المشروع بعد قصفه بصواريخ فلسطينية انطلقت من قطاع غزة.

وخلال الحملة الإسرائيلية الضخمة ضد البرنامج النووي الإيراني لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي، تحت ذريعة حق إسرائيل في حفظ أمنها من هذا البرنامج الذي يبعد ألفي كيلومتر عنها، وهي الحملة التي جرفت معها أصوات كثير من المتنطعين بالوطنية الكاذبة، لم يخطر ببالهم الحديث عن الترسانة النووية الإسرائيلية الملاصقة للحدود المصرية التي ترفض دولة الاحتلال إخضاعها للرقابة الدولية من الأساس أو الإشارة إلى الخطر الداهم من وجود مفاعل نووي اسمه ديمونا يبعد عن مصر عدة كيلومترات، وأن هذا المفاعل كان يحتوي منذ 35 عامًا على ترسانة فتاكة تقدر بنحو 100 أو 200 رأس نووي وفق ما كشفه مردخاي فعنونو عام 1986.

إن الجهود المبذولة في حصر الصراع مع إسرائيل في القضية الفلسطينية هي محض تدليس وكذب وافتراء. والغريب أن هؤلاء قد روجوا لخطاب معاكس تمامًا تجاه ما يحدث في ليبيا على سبيل المثال، على الرغم من أن الحد الشرقي لمصر هو ثاني أهم المحاور الاستراتيجية بعد الجنوب حيث منابع النيل، وهو الذي لم يسلم أيضًا من المؤامرات والتدخلات الإسرائيلية ضد المصالح المصرية.

ولو أن المتنطعين بالوطنية المصرية الذين تنتابهم التشنجات بمجرد ذكر اسم فلسطين أرادوا مصلحة مصر حقًّا لأدركوا أنها خط الدفاع الأول عن القاهرة من أكثر الجهات خطرًا، تاريخيًّا وجغرافيًّا، وهو ما يجعل بعض الفلسطينيين أكثر مصرية من هؤلاء الأنطاع وفق مقولة إبراهيم باشا الذي عندما سُئل عن حربه ضد العثمانيين على الرغم من أنه قد ولد في تركيا، رد قائلًا: «أنا لست تركيًّا، إني جئت إلى مصر صبيًّا، ومن ذلك الحين مصرتني شمسها وغيرت دمي».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.