حسن أوريد: مشارب متعددة وهدف واحد
بهذه الكلمات يُبرِّر أستاذ العلوم السياسية والمفكر المغربي، «حسن أوريد»، إصداره الأخير الذي حمل عنوان «نحو ثورة ثقافية في المغرب»، والذي حاول فيه الوقوف على التوجهات الكبرى التي يجب اعتمادها من أجل طموحٍ جماعي لتحقيق إصلاح جذري في العملية التربوية، إيمانًا منه أن التربي هو الخطوة الأولى لتحقيق نهضة أي أمة.
خطوةٌ أخرى في مسار أوريد الفكري، مسارٌ تنقّل فيه بين الترجمة، والرواية، والسيرة الذاتية، والشعر، والفكر، ونقد التوجهات الفكرية السائدة.
رحلةٌ طويلة بدأها بمولِدهِ في قرية قصر السوق الصحراوية -الواقعة جنوب شرق المغرب- في ديسمبر 1962، لأم أمازيغية وأب عربي. خصوصية مكان وزمان نشأته كان لها بالغ الأثر في تكوينه، فالقرية التي يجمع سكانها بين العرب والأمازيغ، سَلَّمَت لأوريد هُويّتين ولهجتي حديثٍ مختلفتين؛ فهو عربيٌّ أمازيغي، وكذا قُربها من حدود المغرب مع الجزائر -التي كانت حديثة عهد بالاستقلال-؛ جعله يشهد مُخلفات الحرب الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وأهّلَه ليكون شاهدًا على حركة المتمردين المغاربة الذين احتضنتهم الجزائر في بداية السبعينيات من القرن الماضي.
المرء نتاج تجربته
عام 1973 أثقل ذاكرة أوريد بما سينعكس على شخصيته وحياته بعد ذلك، حتى ولو لم يفهمه بوضوح في ذلك الوقت، فالصدام المُسلح بين المتمردين المغاربة والجيش المغربي لم يكن بعيدًا عن مكان إقامته، صدامٌ أنزل الآلة الأمنية الباطشة على سكان منطقة الأمازيغ بالأساس.
في العام نفسه سيتابع مع أهله عبر المذياع انتصار العرب في حرب رمضان، أكتوبر 73، مما ملأه بنشوة عارمة حينها، وتسرب إلى ذهنه الحديث عن القومية العربية. حدثان تعرض لهما وهو بعد لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، إلا أنهما سيؤثران في حياته بالغ الأثر بعد سنوات.
نبوغه الدراسي في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، أهّلَه ليتم اختياره للدراسة مع ولي العهد المغربي آنذاك «محمد السادس»، لينتقل إلى الرباط في يناير عام 1977، انتقال لم يشمل فقط المكان، وإنما كان ارتحالًا من كَنَفِ أسرةٍ محافظة أنشأته على حفظ القرآن الكريم والتشرب بقيم الإسلام، إلى مجتمعٍ منفتح، صدمةٌ يصفها بقولِه: «انتقلت من مجتمع محافظ بسيط تقليدي، إلى مجتمع آخر، منفتح مُتغرِّب. الفرنسية هي لغة تخاطبه، بينما كانت لغتي الفرنسية بسيطة، فأصبحت تُثير سخرية زملائي، صدمة دفعتني لترسيخ بُعدي الديني والحفاظ عليه من خلال الفرائض والمواظبة على الصلاة».
صدمةٌ سيتجاوزها مع تلقيه واحدة أخرى بعد تجاوزه لمرحلة البكالوريا والتحاقه بكلية الحقوق والعلوم السياسية، صدمة جديدة تتعلق بالشك في كل موروثه الثقافي، في ظل تصاعد الفكر اليساري وخطاب القومية العربية، إذ يقول:
إلا أن انهيار الاتحاد السوفييتي وضع أوريد أمام مأزق معتنقه اليساري، فيقول:
من السياسة إلى الفكر
بهذه الكلمات يُبرر أوريد عزوفه عن السياسة التي أَلِفَها لأعوام، لحساب تفرغه لصياغة مشروع فكري، يقوم على تفكيك الواقع وقراءته ونقده في سبيل فهمه ومحاولة إصلاحه وتأطيره. فأوريد الذي تبوأ منصب المتحدث باسم القصر الملكي مع اعتلاء الملك محمد السادس للعرش عام 1999، ثم واليًا لجهة مكناس، ثم مؤرخًا للمملكة، فضّل تقديم طلب لإعفائه من منصبه الأخير مُتخليًا بذلك عن وضعه والعديد من الامتيازات. عزوفٌ نتج عن استشعاره أن البنيات أقوى من الإرادات، وأنه ينبغي تفكيك البنيات عوض محاولة الإصلاح من الداخل. الأمر باء بالفشل من جانبه حيث يقول:
الغرب والحداثة
مع التحاق أوريد بالجامعة وانفتاحه على التوجهات الفكرية السائدة آنذاك، آمن بفكرة أن «الغرب هو النموذج»، إيمان لم يَسع الشاب «المتمرد على الموروث» –كما يصف نفسه- إلا أن يُراجعه ويُعيد التفكير فيه مع اجتياح الكويت، ثم مع الغزو الأمريكي للعراق، فازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، كما يصفها أوريد، أوقفته على واقع الهالة الغربية.
وكما تمرد سابقًا على موروثه، فلم يجد حرجًا من أن يُعيد التفكير في النموذج الغربي، ليخلص إلى أن الغرب ما هو إلا نتاج تجربة، ولا ينبغي علينا أن نطبقها كما هي. فيقول:
العدالة الغائبة
الأمازيغ، الأندلس، الموريسكيون، المنفيّون، قضايا وأحداث وشخصيات تحضر في أعمال أوريد الروائية. يرتحل بعيدًا في «سيرة حمار» ليروي سيرة زمنٍ أمازيغي خالص، يمزج فيها بين الاجتماعي والسياسي، لينتقل إلى ازدهار الأندلس في «ربيع قرطبة»، حيث تختلط عظمة الحضارة بصراعات السلطة، ومن العظمة إلى الخزي والضياع؛ يصل إلى مآسي ما بعد سقوط الأندلس في «الموريسكي»، لِيَحُط الرحال مع العائدين من المنفى والخارجين من غياهب السجون، أو الذين كان من حقهم أن يعيشوا ربيع أعمارهم في «صبوة في خريف العمر».
حسن أوريد- رواية «صبوة في خريف العمر»
رحلاتٌ -وإن اختلفت في الزمان والمكان- يجمعها خيطٌ ناظم. كلمة السر في أعمال أوريد هي المأساة الإنسانية، في الخذلان والضعف ومكر السياسة ومآلاتها، آمال تتفتح وأخرى تتلاشى، تجارب يصفها بأنها: «حيوات أشخاص ظُلموا، وعانوا، ونحن إذ نبحث عن العدالة، فلا يجب أن نتنكر لهم».
هوية مُركّبة
فحضور اللغتين العربية والأمازيغية في أعمال أوريد الروائية: في (الحديث والشجن، الموريسكي، صبوة في خريف العمر، الأجمة، سيرة حمار، رَواء مكة، ربيع قرطبة)، والفكرية في: (الإسلام والغرب والعولمة، مرآة الغرب المنكسرة، تلك الأحداث، مأزق الإسلام السياسي، أفول الغرب، من أجل ثورة ثقافية في المغرب)، والشعرية في: (يوميات مصطاف، فيروز المحيط، زفرة الموريسكي، صرخة تين هينان) يخبر القارئ أنه أمام لغة متجذرة، دقيقة وعميقة في مصطلحها ومعناها.
امتلاكه ناصية اللغتين يرجع كما يقول أوريد إلى نشأته: «في سنوات تعليمي الأولى حرص والدي على تحفيظي القرآن الكريم وتلقيني قواعد اللغة العربية، وهو ما مكنني منها لاحقًا وأكسَبني القدرة على تطويعِها، ثم انتقلت لأعيش مع أخوالي في منطقةٍ أمازيغية خلال دراستي الابتدائية، ومنهم تشربت اللغة الأمازيغية».
اهتمامٌ باللغتين نابعٌ من إيمانه بأن اللغة هي مستودع لروحِ الأُمةِ وحضارتها وثقافتها، وما تحمله من ذاكرة.