حسن نصر الله: المقاوم الذي سفك دماء قومه
يعد حسن نصر الله، أحد أشهر الرموز السياسية في العالم العربي، وهو الرجل الأول في إدارة النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، فقد ارتبط اسمه بالمعارك والحروب، بدايةً من المقاومة العسكرية ضد إسرائيل في جنوب لبنان، وصولًا إلى التورط في المجازر الطائفية ضد العرب السنة في سوريا، كما ارتبط ذكره بالأزمات السياسية التي لا تنتهي في لبنان بصفته الشخصية الأكثر نفوذًا في هذا البلد الصغير.
ولد حسن عبد الكريم نصر الله في حي الكرنتينا الفقير بالضاحية الشرقية لبيروت في نهاية أغسطس/ آب عام 1960، لأسرة شيعية غير متدينة أصلها من قرية البازورية بجنوب لبنان، لثلاثة أشقاء وخمس شقيقات، وكان يساعد والده في بيع الخضار والفواكه.
وعند اندلاع الحرب الأهلية وهو في سن الخامسة عشرة، عادت أسرته إلى القرية حيث التحق بالمدرسة الثانوية، وهناك انضم وشقيقه حسين إلى حركة أمل، وتم تعيينه مسئولًا للحركة في البازورية، وتعرف على الإمام الشيعي بمدينة صور، محمد الغروي، الذي ساعده على الالتحاق بحوزة النجف في العراق عام 1976، وأوصى به الإمام محمد باقر الصدر، وعهد به الأخير إلى تلميذه اللبناني، عباس موسوي (رفعت سيد أحمد، حسن نصر الله ثائر من الجنوب، دار الكتاب العربي، القاهرة، 2006، ص 13).
وفي النجف ارتبط نصر الله بالموسوي كثيرًا وتأثر بشخصيته، ويصفه بأنه كان يتشدد معهم في الدروس وينجز معهم في شهر واحد ما ينجزه غيره في أشهر طويلة ولم يكن يسمح لطلابه بأجازات كثيرة بل كانوا يدرسون بلا توقف، ويقول عن تلك الفترة: «نحن بالنسبة للسيد عباس بالنجف الأشرف كنا أولاده.. يربّينا ويتفقدنا ويسأل عن صحتنا في حال مرض أحد منا.. في حال كان أحد ليس معه مال».
ولكن لم تطل الإقامة في العراق لأكثر من عامين بسبب التوترات بين نظام حزب البعث وقادة الطائفة الشيعية، فتعرض العديد من أتباعهم للملاحقة. وفي عام 1978، اشتدت القبضة الأمنية فغادر موسوي البلاد، وكذلك فعل تلميذه الذي تعرض مكان سكنه في النجف لمداهمة أمنية واعتقل زملاؤه في غيابه، فغادر عائدًا إلى لبنان، ولم يكن اسمه على قائمة المنع من السفر.
أسس موسوي بعد عودته حوزة «الإمام المنتظر» في بعلبك شرق لبنان، ليجمع بها الطلاب والمعلمين اللبنانيين العائدين معه من النجف، يقول نصر الله:
وفي نفس العام، تزوج الشاب اللبناني من فاطمة ياسين، وهي فتاة من قرية قريبة من قريته في الجنوب – أنجب منها لاحقًا زينب وهادي ومحمد مهدي ومحمد جواد ومحمد علي – كما عاود نشاطه في صفوف حركة أمل وأصبح مندوبها السياسي في البقاع سنة 1982، وعضوًا في المكتب السياسي المركزي.
في «حزب الله»
شهد عام 1982 الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ودخلت القوات الصهيونية بيروت، وتشكّلت «جبهة الإنقاذ الوطني»، وأراد نبيه بري، رئيس حركة أمل، أن يشارك فيها، ولكن المتدينين في الحركة عارضوه، لأنّ الجبهة تهدف إلى إيصال بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، وهو مؤيد للتطبيع مع تل أبيب.
ولما وصلت قوات الحرس الثوري الإيراني إلى لبنان لتدريب الشيعة على القتال وتكوين منظمة مسلحة تتبع إيران، انشق المتدينون في حركة أمل وانضموا إلى الميليشيا التي أطلق عليها في ما بعد «حزب الله»، وحل «حزب الدعوة الإسلامية» نفسه وانضمت كوادره للحزب الجديد تحت شعار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وانشق حسن مع من انشقوا تاركًا شقيقه حسين (الشهير بجهاد الحسيني) في حركة أمل، وما زال بها حتى اليوم.
مع انضمام حسن إلى حزب الله تلقى التدريب العسكري اللازم، وواصل الدراسة بحوزة بعلبك إلى عام 1985 حين غادر إلى العاصمة ليكون نائبًا لإبراهيم أمين السيد، مسؤول منطقة بيروت، ويقول عن هذه الأيام:
ولما قرر الحزب فصل الوظائف السياسية عن الميدانية، تولى نصر الله مسؤولية منطقة بيروت بعد تصعيد سلفه إلى الجناح السياسي، ولما استُحدث منصب المسؤول التنفيذي العام المكلّف بتطبيق قرارات مجلس شورى القرار، شغله نصر الله عام 1987، بجوار عضويته في مجلس الشورى الذي يعد أعلى هيئة قيادية في الحزب (رفعت سيد أحمد، حسن نصر الله ثائر من الجنوب، دار الكتاب العربي، القاهرة، 2006، ص 13) ولم يكن منصب الأمين العام تم استحداثه في ذلك الوقت.
وشهد عام 1987، قتالًا ضاريًا بين حزب الله وحركة أمل، وتمكن الأول من السيطرة على مواقع الثانية في الضاحية الجنوبية لبيروت، وبينما كان حسن في جبهة الحزب، كان شقيقه حسين يقاتل في جبهة الأعداء. وفي العام التالي، سافر نصر الله إلى مدينة قُم الإيرانية المقدسة لدى الشيعة لدراسة علوم المذهب ليعود بعد عام واحد إلى لبنان، ليقاتل ضد حركة أمل من جديد ويقال إنه أصيب هو وشقيقه حسين أيضًا في تلك المواجهات، لكن بعد عودته من قُم لم يكن له مهمة محددة، فقد شغل نعيم قاسم منصبه عند غيابه، وعند انتخاب عباس موسوي أمينًا عامًا عام 1991,، اتخذ قاسم نائبًا له، فعاد نصر الله إلى موقعه.
وفي لقاء متلفز له يحكي نصر الله أن زعيمي الحزب السابقين، صبحي الطفيلي، وعباس موسوي، ضغطًا عليه ليكون أول أمين عام للحزب لكنه رفض، فتولى الأول المنصب، وبعد عامين ضغطا عليه مرة أخرى وظل الضغط عدة أيام لكنه رفض، فتولاه موسوي، لمدة تسعة أشهر إلى أن تم اغتياله في 16 فبراير/شباط 1992، عندما استهدف الطيران الإسرائيلي موكبه لدى عودته من فعاليات الذكرى السنوية لرحيل القيادي بالحزب، راغب حرب.
وشارك وفد إيراني في اجتماع مجلس شورى حزب الله الذي يضم 12 عضوًا، وأعلن المجلس قراره بتعيين حسن نصر الله خلفًا لموسوي وهو في عمر 32 عامًا.
الأمانة العامة
وقع الاختيار على نصر الله، على الرغم من صغر سنه مقارنة مع أعضاء القيادة الآخرين، وعدم كونه نائبًا للأمين العام، لكن الإيرانيين أيدوه، وتم اختياره بالإجماع، وبقي أعضاء مجلس شورى القرار يؤيدون استمراره أمينًا عامًا حتى اليوم، وتم تغيير النظام الأساسي للحزب لالغاء تحديد مدة أو عدد دورات معين لشغل المنصب، ليظل في موقعه منذ 1992 إلى اليوم لمدة 30 سنة من دون تغيير.
وقد واجه نصر الله نزاعًا على الزعامة داخل الحزب، وصل إلى أوجه عام 1998، حين نظم أنصار صبحي الطفيلي احتجاجات غاضبة في الضاحية الجنوبية والبقاع ونادوا به رئيسًا للحزب بدلًا من نصر الله، الذي وجهت له أصابع الاتهام باغتيال الشيخ خضر طليس المقرب من الطفيلي، ووقعت اشتباكات مسلحة بين الطرفين، تدخل فيها الجيش اللبناني، وعارض الطفيلي دخول الحزب في المجلس النيابي تحت خدمةً للنظام السوري ووجه تهمة الخيانة إلى نصر الله بسبب تفاهماته مع إسرائيل، لكن تم فصل الطفيلي واحتواء الموقف.
وقد تعلم نصر الله الدرس من اغتيال سلفه، عباس موسوي، فعاش تحت إجراءات أمنية مشددة، حتى إن بعض من يقابلوه يتعرضون لإجراءات أمنية مشددة ويقومون بالتنقل يبن 5 أو 6 سيارات حتى يصلوا إلى مخبئه، رغم أنه يحكي أنه يخرج كثيرًا إلى الشارع ويشاهد الناس عن قرب، لكن بشكل سري، خشية استهدافه من إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة على غرار قاسم سليماني، فاسمه مدرج على لوائح الإرهاب الأمريكية أيضًا.
وقد شهد حزب الله والمشروع الإيراني في المنطقة عصره الذهبي في عهد نصر الله بسبب بلاغته وتمتعه بالكاريزما، وزادت مصداقيته لدى جماهيره بعد استشهاد نجله هادي في مواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1997، رغم ما لاقته هذه الرواية من تشكيك من خصومه، ويتم نشر صورة هادي من حين لآخر أو التذكير بقصته ونشر مواد إعلامية عنه للرد على اتهام البعض لزعيم الحزب بإشعال المواجهات مع إسرائيل لخدمة أجندة إيران، وهو جالس في مخبئه الآمن بينما يدفع المواطنون العاديون الثمن من أرواحهم وأمنهم.
كما أن وجوده على ساحة المقاومة المسلحة طوال التسعينيات وصولًا إلى الانسحاب الإسرائيلي من الشريط الجنوبي عام 2000، أدى إلى ارتفاع شعبيته خارج حدود لبنان، ووصلت هذه الشعبية ذروتها خلال حرب تموز 2006، حين كان يطل على الفضائيات بخطاباته النارية ضد إسرائيل في ظل سياق إقليمي مخالف تمامًا لهذا الجو النفسي الذي اجتذب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وظهر كبطل قومي عربي معبر عن طموحات الشعوب المقهورة، وليس كزعيم طائفي لبناني، وشبهه البعض، بالفاتح الإسلامي، صلاح الدين الأيوبي.
اشتهرت عبارات نصر الله الحماسية التي كان يقولها بلهجته البنانية ولكنته المميزة مثل «ما بعد حيفا» التي رددها حين قصفت صواريخه مناطق أبعد من مدينة حيفا الفلسطينية عام 2006، وصاغ على شاكلتها عبارة «ما بعد كاريش» مؤخرًا في إشارة تهديد لإسرائيل إن استخرجت الغاز من حقل كاريش البحري، وكذلك عبارة «سنكون حيث يجب أن نكون» التي برر بها تدخله في سوريا، وتحولت إلى أغنية وكلمة افتتاحية تستخدم للشحن المعنوي في إصدارات الإعلام الحربي لحزب الله التي تضفي هالة التقديس على زعيمه بشكل مبالغ فيه، إذ كثيرًا ما أثبتت ماكينة الحزب الدعائية أنها لا تقل قوة عن ماكينته العسكرية، إن لم تتفوق عليها.
وانقشعت الهالة المضيئة للرجل حين وجه سلاحه إلى اللبنانيين المختلفين معه سياسيًا وتبدلت خطاباته إلى لهجة التهديد لشركاء الوطن خصوصًا من تيار المستقبل السني وجبهة 14 آذار المعارضة، وأصبح اسمه مقترنًا حتى اليوم بالمجازر الطائفية في سوريا التي أنكر في البداية التدخل بها، ثم اعترف لاحقًا علنًا عندما بدأت توابيت أتباعه تتوافد من ساحات القتال في سوريا، وأشرف على التدخل العسكري الإيراني هناك بالمخالفة لسياسة الدولة اللبنانية «النأي بالنفس»، مصداقًا لقوله إن مشروعه «أن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني» وحينها ثارت المخاوف من امتداد لهيب النزاع السوري إلى لبنان، لأن عددًا من مواطنيه السُنة حاربوا مع الفصائل التي تقاتل نظام الأسد وحزب الله في سوريا.
ومع انطلاق المظاهرات الشعبية اللبنانية ومن ضمنهم الشيعة ضد فساد الطبقة السياسية، هتفت الجماهير: «كِلُّن يعني كلن، نصرالله واحد مِنُّن»، لكن القائد الأوحد الذي لم يُطق سماع نقد يكشف وجود أصوات رافضة له داخل طائفته التي يستمد شرعيته من تمثيلها، فأحضر هؤلاء المعارضين أمام الشاشات وهم في حالة خضوع وانكسار يقدمون اعتذارهم وأسفهم لـ«سماحة السيد حسن نصر الله سيد المقاومة» بعبارات مذلة ومهينة، وهاجم أتباعه ميادين الاحتجاجات أكثر من مرة في عدة مدن عام 2019 واعتدوا على المحتجين بكل عنف.
وبينما يظهر نصر الله كثيرًا يتغنى ببطولة الحسين، رضي الله عنه، في وجه الظلم والظالمين ويجهش بالبكاء عند ذكره، خرجت الاحتجاجات في بلاده تتهمه بالتجبر وأن من يقف في وجه ظلم حزب الله وتجبره على اللبنانيين والسوريين فهو أحق برفع الراية الحسينية، لكن الأمين العام للحزب رد قائلًا، إن الاحتجاجات الشعبية لا تطرح قضية أو شعارات محقة ولا قيادة واضحة ولذا لا تستحق الانتساب إلى الحسين الذي ذهب إلى العراق «ليكون إماماً وحاكماً وحكومةً»، في قراءة جديدة لموقف الحسين الذي اعتُبرت سيرته عبر القرون رمزًا للثورة والثائرين.