حسن حنفي: الساعي إلى الحقيقة عبر «تنظيف المداخن»
فارقت روحُ حسن حنفي جِسمَه الجَسيم، بعد صراع طويل ودموي مع المرض، كولادة متعسرة، صاعدًا إلى سمائه الخاصة، وذاق الموتة الأولَى، والموتة الأخيرة. فارق الحياة، ولكن لا كأيّ مفارقة. هناك مفارقة كمية، ينتهي الكم فلا يبقى منه شيء، وهناك مفارقة كيفية، يغادر فيها وجود الإنسان حالة معينة، ليندرج في حالة أخرى. ومفارقة حنفي لجسده من النوع الثاني، مفارقة كيفية، انتقل فيها من جسدٍ مفكِّر، إلى فكرة بلا جسد. سافرَ من الجسد إلى الكلمة، ليبقى كلمةً خالصة. هكذا فارق حسن حنفي جسدَه.
التقيته للمرة الأولى على صفحات كتابه (قضايا معاصرة- في فكرنا العربي المعاصر). وكان لقاءً حرك شيئًا غائرًا في أعماقي. للمرة الأولى رأيت مفكرًا عربيًا معاصرًا في الأكاديمية المصرية، يهتم بقضايا المجتمع والسياسة، ويوظف في سبيل حلها كل أدواته الفلسفية، ومعرفته الشاسعة بالفلسفة العربية والغربية، وينذر نفسَه لقضية التغيير، ولا يكتفي بالتنظير. كنت وقتها في السنة الثانية بقسم الفلسفة، وبحثت عن هذا الرجل، ولم أره إلا مرة واحدة -في تلك السنة- وهو يلتقي المرحوم عاطف العراقي بردهة القسم، فيحضن كل منهما الآخَر في ترحاب، ضاربينَ مثلاً -عن عمد- للطلاب والباحثين، وربما الأساتذة، في التسامح الفكري، وسلامة الوُدّ من القضية.
ثم رأيته في المحاضرة الأولى وأنا بالسنة الرابعة، في مادة (علم أصول الفقه). بدأ المحاضرة، التي كانت محاضرة تمهيدية، بالحديث عن دور المفكر، ودور أستاذ الجامعة، ودور الفلسفة في الحياة. فسألته: وماذا إذا كُفِّرَ المفكرُ، أو سُجنَ، أو أُعدِمَ؟ فنظر لي لحظة، ثم بكى حسن حنفي في المدرج!
نعم، بكى أمامنا -نحن طلاب السنة الرابعة- احتقن وجهه، وغالب الرجفةَ، ثم هطلت دموعه، وارتعد كل جسده. فعرفتُ هنا أنني أمام صاحب قضية. عرفت أنني للمرة الأولى أرى فيلسوفًا «حقيقيًا».
نحو حقيقة الفلسفة
الفيلسوف الحقيقي في نظري هو صاحب الحلم، صاحب الرؤية. والحالمون نوعان: نوع يبني قصوره في السماء، ونوع يحفر الأرض بيديه. نوع يبلغ السماء طولاً، ونوع يخرق الأرض. ليس الفيلسوف الحقيقي في نظري مَن يجلس على مكتبه في هدوء هائل، ويصوغ نظريات المعرفة والوجود والقيمة، ويتأمل النجوم ككانط، ويعتكف في «الغابة السوداء» كهيدجر، أو يصعد الجبال وحده كزرادشت نيتشه.
الفلسفة مهنة كأي مهنة، وهي أقرب إلى مهنة تنظيف المداخن، أو تمهيد الطرق، أو تصليح أساسات البيوت. إنها مهنة ملوثة، إنها ملوثة بالعرَق والدم، عرق الفيلسوف، ودمه. إنها انخراط في الخليقة، وهبوط من السماء إلى الأرض، هبوط هو أقرب إلى سقوط لوسيفر، أمير البهاء، من الملكوت. هبوط هو إلى حياة الخوف، والترقب، واليأس أحيانًا، والنهوض، والمقاومة، في اختبار شامل للإرادة، في معركة حقيقية، لا تكتفي بحبر الأقلام، بل تمتلئ على الأغلب بنزيف الشرايين. وليست الغاية هي تحقيق التغيير، بل الغاية الأساسية هي المعركة ذاتها؛ فالنجاح غير مضمون، بل فلنقل إن النجاح في هذه المعركة ليس تحقيق هدفها، بل الصمود فيها. وكان حنفي هو ذلك الجندي الذي صمد إلى النهاية، حتى لم تعد قدماه تحملانه، فهوَى وضرب له الجميع تعظيم السلام، ليس لأنه حقق ما أراد، بل لأنه ثبتَ على أرضه حتى نهايته.
وكان حنفي -من النظرة الأولى- هو حبّي الأول في الجامعة. اهتم زملائي الشباب بنيل رضا الفتيات، ولم يكن في طويتي سوى معرفة رأيه فيما أكتب وأقول. وبعد تعييني بالجامعة معيدًا، وانضمامي إلى الجمعية الفلسفية عضوًا، رآني ذات مرة وأنا أشرب شايًا في ردهة القسم، بينما يدور في المدرج المجاور مؤتمر من مؤتمرات الجمعية الفلسفية. رآني أتغيب لدقائق عن فعاليات الندوة، فنهرني، وقال: أنت بهذا تضرب مثلاً سيئًا. فبكيتُ. كما بكى أمامي بكيتُ أمامه، وهكذا صرنا متعادلين!
وقررت التخصص في الفلسفة الإسلامية، لا حبًا فيها بل إيمانًا بضرورة التغيير، والتغيير لا بد وأن يواجه الثقافة السائدة، التي هي عربية-إسلامية في مجتمعنا. قررت التخصص فيها تحت إشرافه، ليس بعد التعيين، بل أثناء تدريسه لي في السنة الرابعة. وفي السنة الرابعة وقع حدث هام في مدرج الفلسفة: لقد سخر منّي حنفي أمام زملائي، وأهانني بدون قصد. ولم يكن أمامي سوى أن أرد عليه أمام الزملاء لاسترداد الحق. وكما علمنا حنفي تكلمت بالعربية الفصحى، وهتفت بصوتٍ عالٍ في المدرج: «هذا ليس من حقك». فاعتذرَ لي، وانسحب من المدرج. وهنا عرفت للمرة الثانية أنني أمام شخصية فريدة، قوية الثقة بنفسها إلى حد الاعتذار لطالب أمام الطلاب.
وفي عام 2008 قدمت لحنفي خطة مبدئية لدراسة نظرية الحق في علم أصول الفقه، كانت الخطة تبدأ بدراسة البنية، ثم تنتقل إلى التاريخ. فرفض حنفي هذه الإستراتيجية رفضًا قاطعًا، وقال لي لو أنك بدأت بالبنية، ثم التاريخ، فسوف تفرض وجهات نظرك على التاريخ. ابدأ بالتاريخ ثم استنبِطْ منه البنية.
كانت المشكلة في البحث أن نظرية الحق غير قائمة صراحة في أصول الفقه الإسلامي، فكيف نستخرجها من تاريخ العلم؟ فقال لي: لو أن مجرد لفظ الحق عند الأصوليين غير موجود، أو غير موجود بمعناه في بحثكَ، فإن البحث ككل مُزَيَّف. وقد كانت الكلمة الأخيرة في العبارة الأخيرة كضربة مطرقة، ليس من صراحتها، بل من حقيقتها، واقتنعتُ بما قال، وبدأت رحلة شاقة في المصادر القديمة للأصوليين من اللفظ، إلى المعنى، إلى المفهوم، إلى النظرية، إلى النسق، إلى الأنساق.
وكان هذا هو لقائي الرابع بحنفي، بعد موقف بكائه في المدرج، وموقف نهره لي وأنا أضيع وقت الندوة، وموقف اعتذاره لي. وهنا عرفت دور المشرف: أن يوجه البحثَ منهجيًا، ولا يتدخل بوجهات نظره الخاصة، ويسمح للطالب بحرية اختيار الموضوع، وحرية إبداء رأيه، ولكن بشرط دقة المنهجية، وشمول المصادر، وتماسُك البحث.
وفي عام 2011 انتهيتُ من الباب الأول في رسالة الماجستير، وحين قرأه حنفي فاجأني بقوله: أنا كنت فاكر نفسي أنا اللي عملت الكلام دا! وكنت في ضائقة مادية واجتماعية ونفسية قاسية، ومزمنة في تلك الفترة، لا يعرف عنها حنفي شيئًا، لكن هذا الكلام رفعني حقًا إلى السماء، فرأيتُ كل مشاكلي على الأرض صغيرة وتافهة. أنقذني حنفي بدون قصد من قبضة الأرض، ولكن لأعود لها مرة أخرى أقوى وأفضل.
وفي عام 2012 كانت مناقشة الماجستير، وقد طلبتُ منه قبلها ألا يناقشني الدكتور علي مبروك بسبب خلاف شخصي كبير وقع بيننا، لكن حنفي التقى مبروك بحضوري، وقال لنا: «نحن عددنا قليل، وأعداؤنا كُثُر، وعليكما أن تتماسكا أمام قضايا أهم وأكبر وأخطر»، فلم أستطع أن أتكلم بعدما تكلم، وتمت المناقشة بوجود مبروك مناقشًا.
وفي ذلك العام أيضًا -بعد حصولي على درجة الماجستير- اتصلت ذات ظهيرة يومٍ بحنفي، وقلت له إنني لن أُعِدّ الدكتوراه تحت إشرافه، وإنني أبحث عن فرصة للدراسة في ألمانيا بالذات، ألمانيا التي ارتبطتُ بها شعرًا وموسيقى وعلومًا وفلسفةً منذ مراهقتي، فدعم قراري وهو حزين، لا أدري مدى حزنه، ولكن قلبي كان يتمزق وأنا أنفصل عن هذا الرحم المكين.
وفي عام 2017، وأثناء دراستي في ألمانيا، تلك الفترة التي أعتبرها الأقسى والأبرد والأشد رهبة والأكبر خطورة في حياتي، داهمني مرضٌ رئويّ قاتل، وتلوثَ خشبُ مكتبي بالدماء. فعرف حنفي، لا أدري من أخبره، بهذا، وأرسل لي رسالة على البريد الإلكتروني، يطمئن على حالتي، ويتأكد من انتظام سير مشروعي للدكتوراه. وكنت خارجًا للتو من العناية المركزة، بعد إجراء دورتين من الغسيل الرئوي، وتحت تأثير كمٍّ هائل من المنومات والمهدئات لتخفيف الألم الساحق. لكنني خفت أن يعرف بالتفاصيل، بالضبط كما خفت أن تعرفها أمي، فقلت له إنني بخير، وإنني على الطريق. وغبت في أثير الغيبوبة.
وفي عام 2018 عدت بشهادة الدكتوراه من ألمانيا، فطلب لقائي في بيته، وطلب الاستماع إلى ملخص للرسالة، ثم طلب مني رؤيتي لتطوير المبحث فيما بعد الدكتوراه. وحين انتهيتُ من الكلام قال لي: نريد ندوة عن رؤيتك الجديدة لعلم الأصول، ومشاركة بهذا الموضوع في المؤتمر السنوي للجمعية الفلسفية، فاعتذرتُ؛ لأنني لا يمكن أن أزعم أن رؤيتي جديدة، بل الناس هي التي تحكم على ذلك. فغضب حسن حنفي، وقال: أنت جئتَ من ألمانيا لتضع رأسك برأسي.
ساءني أن يحكم بهذه السرعة على تلاميذه من الزاوية الخُلُقية، واستشعرتُ في هذا ظلمًا، وربما اندهشتُ؛ لأن المتوقَّع من مثل هذه الشخصيات الإستراتيجية ليس كذلك. لكنني احتفظت له دائمًا بمكان رفيع في نفسي، وفي ذكرياتي.
ملاحظات حول مشروعه
كتبَ عني في مذكراته أنني ذلك الذي بحث بجهده الخاص عن منحة دراسية، وعاد ليضع رأسه برأسي، وانقطع عن المشاركة في الحياة الثقافية. وقد ظلمني، فلم أنقطع لحظة عن المشاركة، وحتى أثناء وجودي في ألمانيا أصدرت كتابين في مصر، وكتبت في صحف مصرية وعربية عشرات المقالات.
على أية حال هذا هو ما كتبه عني في مذكراته. أما أنا فكتبتُ في مذكراتي أنّ بهذين الموقفين: حين اعتذر لي أمام زملائي، وحين وجهني منهجيًا في الماجستير توجيهًا حاسمًا، يكون حنفي من أكمل من رأيتُ من أساتذة شرقًا وغربًا، فقد أشرف إشرافًا أستاذيًا على رسالتي للماجستير، يتجاوز كمًا وكيفًا ما أنفقه أساتذتي الألمان الأربعة مجتمعينَ في إشرافهم على رسالتي للدكتوراه، وهي حقيقة لا شك عندي فيها.
نقدتُ مشروعه منذ عام 2007، وقلت له إن به اعتمادًا أكثر من اللازم على الثقافة القارة عند الجمهور، وأن به ديماجوجية أكيدة، فرد عليّ: أنت من جيل جديد، جيل نصر ومبروك، وأنا من جيل عبد الناصر، أنتم تبحثون عن العِلم، وأنا أعمل في العالَم. رأيت فيه عدم دقة أحيانًا، فقال إن هذا صحيح، ولكنه لا يخلّ بالجوهر.
قلت له إن محاولته لتجديد علم الأصول بحيث نبدأ من الاجتهاد صعودًا إلى الكتاب والسنة، الشكل المعكوس للأصول، سوف يقضي أصلاً على عِلم الأصول، فقال إن الهدف ليس تجديد العلم، بل إنارة العقل؛ بحيث يدرك أن التغيير باليد يبدأ من تغيير الذهن.
قلت له إن اعتماده الكبير على التاريخ يوقعنا في خطر عدم دقة المعرفة التاريخية، وبناء نماذج افتراضية، قد تكون وهمية، للشافعي، وابن حزم، والأشعري، والغزالي، والشاطبي، وابن تيمية، فقال لي إن ثقافة الجمهور لو لم تكن دقيقة تاريخيًا، وهي فعلاً كذلك، فهذا هو ما يترتب عليها.
قلت له إن الأوفَر في الوقت والجهد هو التركيز على المفاهيم المركزية، والمناهج، والنظريات المحورية، بدلاً من استهداف كل دقائق العلم، ولا مُنقسماته، عبر سنوات من العمل المرهق، فقال لي: افعل أنتَ ذلك؛ ليس للتغيير طريقٌ واحد.
قلت له إن الجابري، والطيب تيزيني، وأدونيس، ونصر أبو زيد، كلهم يؤسسون معرفة، أو يحاولون ذلك، فقال لي: صحيح، ولكنْ أنا شيخ طريقة!
وفي عام 2018 كان حنفي جالسًا بحجرة القسم، ووجدت جوار الحجرة صديقًا قديمًا سالكًا في طريقة صوفية، قال لي: أريد مقابلة حنفي. قالها بإحراج، وتوتر. فاستغربتُ، وقلت له: فلتدخل عليه، فقال لي: للدخول على الشيخ آداب. سألته مندهشًا: شيخ؟! فقال لي: هذا هو «مولانا» حنفي. فعرفت أن حنفي لم يكن يبالغ.
وفي عام 2021 قررتْ الحركة العلمانية المصرية زيارة حنفي، وتقديم درع تذكاري له، وكان عليّ أن أتواصل معه لتحديد موعد. وفي تلك الفترة الأخيرة من حياته لم يكن لقاء حنفي سهلاً قَطّ، صار شديد العصبية، تحت ضغط المرض، والشعور بدنو الأجل. ولهذا اندهشتُ، حين قابلَ حنفي -في الهاتف- هذا الاقتراح بالترحاب، وقال إن بيتي مفتوح للجميع. وذهبنا لزيارته، ومكثنا ساعتين نتحدث في أمور الدين والسياسة والفلسفة والفن، وحكى لنا كيف أرسل عبد الناصر طائرة من مصر للطيران خصيصًا لاستعادة مكتبته -مكتبة حنفي- من باريس، وحكى لنا كيف حصل على منحته بجهده الخاص، ولماذا عاد إلى الوطن، وما معنى الوطن، وما معنى أن نحيا فيه، وأن نموت من أجله. فعرفتُ أنها المرة الأخيرة التي أراه فيها.
ولأنها المرة الأخيرة فقد بقيت بعد انصراف كل الزملاء، ووضعت يدي على كتفه المرتجف مرضًا وألمًا، وقلت له كلماتي الأخيرة: أنت باقٍ بتلاميذك، مهما حدث. فرد عليّ: هذه آخر أمنياتي يا أستاذ. ولأن عصبيته كانت تجرحني بعمق بالغ، وهو لا يدري، ولا يقصد، فلم أتواصل مباشرةً معه بعدها حتى وفاته، لكني كنت أستعلم من الجمعية الفلسفية عما إذا كان يقرأ أبحاثي، وكان يَقرؤها.
وفي أكتوبر، شهر انتصار مصر، علمت بخبر وفاته، فاندهشتُ بشدة. لم أندهش من وقع الخبر، أو من المفاجأة، فلم تكن مفاجأة بالضبط. فقبيل وفاته ببضعة أيام، رأيتُ في منامي أنني في بيته بمدينة نصر، وأنني لم أجده، بحثت عنه في الحجرات ولم أجده، وقال لي السكرتير: لقد خرجَ. فخرجتُ من البيت، ولكني لم أجد الشوارع كالشوارع، ولا الناس كالناس، وجدت فقط سحابًا قاتمًا كأنه العاصفة، ورأيته يبدو من السحاب، يزداد ظهورًا وجلاءً، يدنو مني، وهو ضخم جدًا لا أكاد أعرف أبعادَه، وكان يقول لي: ألن تأتيَ يا أستاذ؟ كان يقولها بحنين، وبِلَوْمٍ، ولم أعرف كيف أرد عليه في المنام.
لكنني أعرف الرد في اليقظة: سوف آتي ولكنْ من الطريق نفسه، وهذا الطريق مَديد، مَديدٌ ومُخيف. سآتي يومًا ما فقط عندما يحين الأجل.