هل بدأت المرحلة الأخيرة من حكم بوتين الطويل لروسيا؟
أعاد تمرد بريغوجين الحديث عن انقسام النخب في روسيا إلى الواجهة مجدداً، فمنذ بداية الحرب أشار عدد من السياسيين المعارضين الروس مثل المعارض ديمتري جودكوف إلى احتمالات حدوث «انقسام النخب» الروسية، بعض التحليلات توقعت انقسامها إلى معسكرين، الأول يمثله فريق محافظ يدفع تجاه مزيد من التصعيد، والفريق الثاني الواقعيون الذين يعتقدون أن روسيا لا تستطيع أن تكسب الحرب الآن، لذا فمن الضروري أخذ استراحة من أجل استعادة الجيش والاقتصاد، وكذلك تحديث النظام السياسي، بالنسبة لهولاء، كانت بداية الحرب خطأً ناجماً عن تقدير مشوه لقدرات البلاد الفعلية.
فالحملة العسكرية الواسعة لم تكن نزهة حرب كما ظن الكرملين لدرجة أنه أطلق عليها اسم عملية عسكرية خاصة، تكشفت الحقائق الصادمة بانقضاء الأسبوع الأول من الحرب، فالعملية العسكرية الخاصة كانت حرباً متسرعة، خُطط لها بالاستناد إلى تقديرات خاطئة كانت أشبه بأوهام رغائبية، كما ظهر الجيش الروسي بأرتاله الطويلة عاجزاً أمام مقاومة يدعمها شعب ظن كثر في روسيا أنه ينتظر من يخلصه، ولم تستسلم القيادة الأوكرانية، ولم يتخلَّ الغرب عن أوكرانيا كما فعل في 2014 لدى احتلال بوتين للقرم، وبدلاً من انتصار خاطف، تحتم على روسيا أن تخوض حرباً طويلة وتواجه تسونامي من العقوبات الاقتصادية استهدفت معظم جوانب الحياة في روسيا، بما فيها المصالح الاقتصادية لنخبة السلطة.
انقسام النخب
صاغ كل من غييرمو أودونيل وفيليب شميتير مصطلح انقسام النخب في دراستهما ذائعة الصيت «الانتقال من الحكم السلطوي»، الدراسة تناولت تجارب التحول السياسي في دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وأحد افتراضات الدراسة أن عملية التحول من النظام السلطوي يمكن أن تبدأ إما نتيجة لاحتجاجات شعبية عارمة أو حدوث أزمة كبرى تؤدي إلى حدوث انشقاق في نخب السلطة يطلق ديناميكية تقود في نهاية المطاف إلى انهيار النظام السياسي أو تغييره.
يذهب أستاذ العلوم السياسية الروسي فلاديمير جيلمان إلى القول إن إمكانية حدوث انشقاق في نخب الأنظمة السلطوية يتطلب أن تُحكم هذه الأنظمة من خلال قيادة جماعية، مدللاً على رأيه بأن العديد من الأنظمة التي حلل أودونيل وشميتر انهيارها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كانت تحكمها قيادة جماعية، مما أتاح برأيه حدوث مساومات غير رسمية بين الأعضاء الرئيسيين في تلك القيادة، ويسوق مثالين من تاريخ الاتحاد السوفييتي، الأول هو الانقسام في المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي في مرحلة خروشوف بين 1957- 1964 الذي جاء بخروشوف إلى السلطة بعد وفاة ستالين وأخرجه منها، والمثال الآخر هو مساومات غورباتشوف مع معارضي سياسات البيرسترويكا داخل المكتب السياسي في الفترة بين 1987- 1990 التي انتهت فعلياً بانقلاب آب 1991 وأدت الى انهيار الاتحاد السوفييتي.
يلاحظ جيلمان أن القيادة الجماعية ليست النموذج الروسي الحالي، ولا يوافق على إطلاق وصف المكتب السياسي – بوليتبيرو 2.0 على الدائرة الضيقة لبوتين، فطبيعة تفاعلات بوتين مع أعضاء النخبة لا تشبه قيادة المكتب السياسي في عهد غورباتشوف.
نظام روسيا البوتينية
أبرز اجتماع مجلس الأمن الروسي عشية غزو أوكرانيا فبراير 2022 بشكل واضح طريقة إدارة السلطة في روسيا البوتينية، كان الاجتماع بمثابة طقس نموذجي لإثبات موافقة أعضاء النخبة الحاكمة على قرار بوتين، في ذلك الاجتماع تعامل بوتين بصلف مع الأعضاء الذين تلعثموا أو أشاروا إلى الحلول الدبلوماسية.
يشبه نظام بوتين النظام الشمسي، حيث تدور الكواكب في مدارات مختلفة حول الشمس، المركز هو بوتين والكواكب هي عشائر السلطة التي تمثل النخبة الحاكمة، وكل عشيرة لها مدارها الخاص، وتمثل المدارات مجالات السيطرة التي تتمتع بها تلك العشيرة و فيها تزاوج ما بين النفوذ السياسي واستخدام موارد البلاد لخدمة مصالحها ورعاية شبكاتها في مداراتها، هذه العشائر مستقلة عن بعضها، لا يجمعها سوى ارتباطها ببوتين، لذلك تظل العشائر في حالة تنافس على مواقع السلطة وامتيازاتها داخل نظام مركزه بوتين، وما يحفظ استقرار النظام هو استمرار التضامن بينها على مركزية بوتين، ما يمنحه مساحة للمناورة والتصرف كحكم بين عشائر السلطة، والقدرة على الإقصاء والاستبعاد.
إن الإقرار بمركزية بوتين، واستمرار تمتعه بشعبية معقولة، وغياب آليات واضحة ورسمية للإسهام في صنع القرار على مستوى القيادة أو أي شكل آخر من القيادة الجماعية، إلى جانب استمرار القدرة على التمتع بمزايا السلطة والثروة بالإضافة إلى انعدام حافز التنافس على منصب الرئاسة، نتيجة التعديلات الدستورية التي دفع بها بوتين في عام 2020، كلها عوامل بمجموعها تتآزر في الإسهام لتتجنب حدوث انقسام النخب وتحافظ على استقرار النظام، على الرغم مما قد يطفو بين الحين والآخر من اختلافات، لكنها تبقى دون مرحلة الانقسام.
اليوم الطويل
تعرضت عوامل تجنب حدوث انقسام النخب إلى اختبار غير مسبوق عندما قام يفغيني بريغوجين بتمرده وزحف بأرتال مقاتلي فاغنر ليحتل روستوف في ساعات ودون مقاومة، ثم يرسل رتلاً من مقاتليه مع المركبات العسكرية المدججة بالسلاح تجتاح البلاد دون عوائق تقريباً وتصل تقريباً إلى موسكو.
تمرد بريغوجين لم يستمر أكثر من يوم، لكنه كان كافياً لإحداث صدمة كبيرة لدى الجميع في روسيا وخارجها، مظهراً بوتين ضعيفاً ومهزوزاً في لحظة صعبة تخوض فيها البلاد حرباً ذات أهداف غامضة ودون أن يكون هناك أفق لنهايتها، كذلك التسوية غير التقليدية التي أمنت لبريغوجين الإفلات من قبضة بوتين رغم تجاوزه محرمات مثل التهديد بدخول موسكو، والقيام بإسقاط مروحيات الجيش ومقتل طواقمها زادت من ضعف موقف بوتين، وكذلك مشاهد احتفاء مواطنين روس بمقاتلي فاغنر شوارع روستوف بينما انتقدوا قوات الأمن التي اختفت من الشوراع في أعقاب دخول فاغنر إلى قلب المدينة واحتلالهم مبنى الإدارة العسكرية للمنطقة الجنوبية في الجيش الروسي.
ليس مستغرباً أن ينهمك بوتين في معالجة الأضرار التي تسبب بها تمرد بريغوجين، فأطلق حملة علاقات عامة تستهدف إثبات أن الشعب الروسي لا يزال ملتفاً حوله، ودعا كبار أعضاء النخبة من قادة الأجهزة الأمنية إلى اجتماع في الكرملين كان مختلفاً عن اجتماع فبراير، كذلك أمر بتزويد الحرس الوطني الموالي له بالدبابات وزيادة تسليحه، وتبني خطاب إعلامي يحاول بيع الداخل الروسي الخوف من الحرب الأهلية، و للخارج فكرة أن بديل بوتين سيكون قومياً متطرفاً يقود دولة شاسعة تمتلك أسلحة نووية.
بداية نهاية البوتينية
الفخ الذي يقع فيه بوتين هو إخفاقه في إدراك أن الأساس الذي يقوم عليه النظام لم يعد صالحاً، والعديد في موسكو بدؤوا يدركون أنه لم تعد هناك فائدة للتجديف بقوة للإبقاء على سفينة النظام، فالنظام استنفد كثيراً من طاقته في الحفاظ على التوازن داخله وفي معالجة تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن المشكوك فيه أن يكون في مقدوره القيام بالكثير مما تتطلبه إعادة التوازن أو القيام بتحديث النظام السياسي.
لذا من المعقول جداً القول إن المرحلة الأخيرة من حكم بوتين الطويل لروسيا قد بدأت، ولن تكون سهلة على الجميع بمن فيهم بوتين نفسه، وهذا له تأثيره على حسابات النخب، ما قد يعجل في اقتراب هذه النهاية حدوث صدمة كبيرة مثل استخدام الأسلحة النووية أو حدوث انهيار عسكري كبير في الحرب الروسية على أوكرانيا، عندئذٍ سيكون حسم مرحلة ما بعد بوتين أمراً مطروحاً على أجندة العشائر المتنافسة التي ليس بالضرورة أن تنقسم.