«هاري بوتر» أو كيف نهزم وحوشنا الداخلية بسحر الاستعارة؟
في مُنتصف التسعينيات عادت جي كي رولينج من البرتغال بعد زيجة فاشلة، كانت ثمرتها الوحيدة طفلتها «جيسيكا»، لتجد نفسها في سن الثلاثين، أم عزباء مُصابة بالاكتئاب السريري، تحيا على الإعانة الحكومية في منزل أختها بـ «إدنبرة».
كانت رولينج تتأرجح في ذلك الوقت مثل بندول قلق بين «الفشل» الذي يصم حياتها الخارجية، و«الاكتئاب» الذي ينهش حياتها الداخلية. انتهى هذا التأرجح حسب وصفها بالسقوط المُدوي في قاع الهاوية. لم تجد في القاع سوى آلة كاتبة قديمة الطراز وفكرة سحرية وابنة تتطلّع إليها من علٍ، تنتظر أمها لتُقاتل عائدة لها.
في عوالم هاري بوتر توجد تعويذة «وينغارديوم ليفيوسا»، لو امتلكت رولينج العصا السحرية خاصتها، يُمكنها بتلك التعويذة أن تطفو عكس الجاذبية خارج هاويتها النفسية، لكنها أدركت أن السحر لا يوجد في العالم الحقيقي، والعصا السحرية هي مُجرد غُصن خشبي يغدو مُضحكًا عندما نُهدِّد به مخاوفنا، لكنها شرعت في كتابة قصتها في الهاوية صُحبة وحوشها الداخلية، لتُمرِّر لنا سحرًا آخر، سحر الاستعارة أو قوة المرء على تخيل مخاوفه وتمريرها في الاستعارة المُناسبة، فتفقد تلك المخاوف سطوتها على أرواحنا.
«إكسبكتو باترونام» أو كيف تهزم كلبك الأسود؟
في عوالم هاري بوتر مرّرت رولينج اكتئابها السريري في استعارة وحوش «الديمينتورس»، وحوش ظلامية تُنبِئ البرودة عن قدومها، يتغذوّن على روح المُضيف وذكرياته السعيدة، ولا يتركون روحه إلا حُطامًا خالية من أي شعور.
جعلت رولينج تلك الوحوش هي سُلطة العقاب في سجن أزكابان، السجن الذي يضم كل القتلة والمذنبين في عالم السحر، لم تخلق الكاتبة لعقابهم مقصلة أو سوطًا، بل جعلت الاكتئاب السريري أو «الكلب الأسود» كما يسميه الأطباء هو السُلطة العقابية في عالم السحر، والتي يرتعد منها كل امرئ قبل أن يرتكب جرمًا، كي لا يسقط في هوتها.
ومثلما مرّرت اكتئابها في استعارة، كان لا بد أن تخلق انتصارها عليه في استعارة، هي تعويذة «إكسبكتو باترونام».
على الساحر أن يستحضر كل ذكرياته السعيدة التي شعر فيها أنه حي، مُستحِق للعيش، جميل وآمن، يستدعيها كجنود للروح، حتى تتحد وتتبلور في ذكرى واحدة تأخذ شكلًا جماليًا مُتعلقًا بجمال يخصه مثل غزالة أو عنقاء، تلك الذكرى تخرج من عصا الساحر كضوء باهر يُغشي الديمينتورس فيبتعدوا.
تلك التعويذة هي المجاز الأدبي البديع الذي اختارته رولينج لابنتها «جيسيكا»، الوجه الوحيد خارج الهوة الذي لأجله كتبت روايتها في ذلك الوقت العصيب من حياتها. ففي مُقابلة مع «أوبرا وينفري»، تتحدث رولينج عن هذا الوقت لتقول إن وحوشها جعلوها عارية من كل شيء إلا شيئين: أنها لا زالت حية، وأن ابنتها لا زالت تنتظرها.
تلك كانت التعويذة الخاصة التي حشدتها رولينج كضوء باهر في وجه اكتئابها، ثم سلّحت كل شخوصها في الكتب ليحشدوا تلك القوة الداخلية في الروح في وجه الديمنتورس.
«ريديكلاس» أو كيف يصير الخوف المهيب أضحوكة؟
مرّرت رولينج الفشل في استعارة فريدة من نوعها، هناك وحش «البوغارت»، وهو كينونة بلا جسد، تتمظهر للإنسان بأسوأ مخاوفه، يُمكن أن يظهر البوغارت لثلاثة سحرة فيبدو لأحدهم كعناكب، ويبدو لآخر كمُدرِّسه الذي يخشاه، ويبدو للأخير كوجه من يُحبه وهو يموت. لا أحد يعرف أبدًا الشكل الحقيقي للبوغارت، لأنه لا يتمظهر إلا بمخاوف الناظر له.
لا يوجد تعريف مُحدَّد للفشل، ولا يُعبِّر الفشل عن نفسه إلا بمخاوفنا من حدوثه، مثلًا الكتاب الأول من سلسلة هاري بوتر رفضته دور النشر واصفةً إياه بأنه طويل جدًا، وغريب جدًا، يحمل عبقًا قديمًا جدًا، وتلك أسباب فشله في نيل القبول. لم تتبقّ سوى «دار بلومزبري» التي تقدمت لها رولينج بالكتاب.
ذات أمسية عاد «نيجل نيوتن»، رئيس الدار بمخطوطة الفصل الأول لمنزله، التقطتها ابنته «أليس» ذات الثمانية أعوام، عندما غيّر الأب ثيابه وذهب ليتفقدها وجدها مُنغمسة في الأوراق، وبوجه مُتهللٍ أخبرته أن هذا أفضل شيء قرأته على الإطلاق، وصدّعته طوال الأيام التالية ليحضر لها مزيدًا من الفصول، تلك الفتاة كانت السبب الوحيد لقبول نيجل المغامرة ومنح كتب هاري بوتر شهادة الوجود.
طفلة عمرها ثمانية أعوام وجدت في القديم، الطويل، المُمل، أسبابًا للنجاح لا الفشل، لأنها نظرت له بعين بكرٍ، خالية من كل المخاوف، فوجدته جمالاً طازجًا، ولولاها لما ظهرت للعالم سلسلة ستنحت مُخيِّلة الأطفال بجمالياتها للأبد.
في السلسلة تخلق رولينج جوار البوغارت استعارة للنجاة من الفشل، هي «ريديكلاس»، وهي أن يُوجِّه الساحر عصاته لكينونة البوغارت، ويحاول تخيل أشرس مخاوفه في شكل مُضحك، فيسلب بذلك البوغارت سلاحه، وهو قدرته على الإرعاب، عندها، يفر البوغارت كي لا يرى أبدًا كينونته الهشة الحقيقية.
تلك الحيلة السحرية استخدمها الحُلفاء في مواجهة نازية هتلر، عندما كان الجنود يرتعدون من وحشية النازيين، وجنون قائدهم، صنع «تشارلي تشابلن» فيلمه «الديكتاتور العظيم» عام 1940، وفيه رأينا رجلاً تافهًا يلعب بمُجسَّم للكرة الأرضية. قلّد الناس مشية تشابلن وجن جنون النازيين، لأن حركات هتلر ولغة جسده صارت تحضر للذهن للأبد بتقاسيم تشابلن المضحكة، وامتلك الجنود بعدها الشجاعة ليروا النازيين على حقيقتهم كمهرجين مثيرين للشفقة.
يُمكننا أن نرتدي معاطف من صوف بلا أكمام نختبئ بداخلها من مشهد يخيفنا وفشل مُحتمل ويُمكننا أن نصنع أكمامًا، فتحات نرى من خلالها بعيون طازجة بكر كعيون طفلة في عمر الثمانية، رأت مكان الفشل المؤكد فرصة لجمال خلّاب.
في نهاية السلسلة، نجد الشكل الحقيقي الذي آل له فولدمورت بعدما سمّم روحه وقسّمها لينال الخلود، مجرد مسخ جنيني يرتعش، تلك سخرية جوان الأخيرة، أن الوحش الذي مهّدت له عبر أجزاء كاملة كان الجميع فيها يخشى حتى من ذكر اسمه، لا يعدو في كينونته أن يكون جنينًا مسكينًا بدون عباءة، هيبته لا تثير سوى الشفقة.
«هوركروكس» أو كيف يهزم الحب الخلود؟
صنعت رولينج حبكة السلسلة بحيث تنعقد صلة تشابه تكاد تصل حد التطابق بين البطل والشرير، هاري بوتر وفولدمورت، كليهما ساحر نابغة مُولع بكسر القوانين، يملكان من سعة الحيلة الكثير، وفي محاولة فولدمورت لقتل هاري وضع بداخله جزءًا من روحه، لذا يصير الصراع الأساسي لبطل السلسلة هو تعريف نفسه.
هل كل تلك التشابهات تجعله طيبًا أم شريرًا؟
عندما ينظر هاري للمرآة، كثيرًا ما يرى فولدمورت، حضور شبحي يُعكِّر كل رؤية صافية لذاته، هل هي قدراته التي يتشاركها مع عدوه؟
يُخبر دمبلدور هاري أن خياراتنا هي ما تحدد كينونتنا وليس قُدراتنا، يُخبره كذلك أن المقابلة بينه وبين فولدمورت هي مقابلة بين عيش اختبارنا الوجودي بطريقة صائبة أو محاولة الغش وعيشه بطريقة سهلة.
جعلت رولينج بطلها هاري، حالة مُعبرة عن الظرف الإنساني بأكمله، يختبر الفشل والاكتئاب والفقد، ويختبر كذلك ظلامه الداخلي في مواجهة شرير يتحايل على الموت بالخلود، وعلى الخير والمساواة التي تمنح الفرصة للجميع بالقوة وعنصرية العرق التي تجعل الوصول لمن يملكهم وحسب. وعلى الصداقة بالأتباع الخائفين. هاري بوتر هو شجاعة الإنسان في تقبل ظرفه الإنساني، وفولدمورت هو تاريخ محاولات الإنسان لمقاومة هذا الظرف والتي لا تثمر سوى تعاسات.
رسمت رولينج فولدمورت كساعٍ للخلود بأكثر طرق السحر شرًا، وهي سحر الهوركروكس الأسود، السحر الأسود في عوالم رولينج هو كل حيلة يلجأ لها الإنسان لمُغالبة ظرفه الوجودي بالغش، فيسعى فولدمورت لأن يكون خالدًا ويخدع الموت بتقسيم روحه لأجزاء مُخبأة بعناية، بحيث لو تعرّض للموت يجد طريقه للعودة، لكن لكي تنجح تعويذة الهوركروكس لا بد أن يقتل صاحبها عامدًا روح بريئة، لأن القتل وحده الفعل المُزلزل الذي به تتشظّى الروح، ويمكن عندئذ تنفيذ التعويذة.
المقابلة بين فولدمورت وهاري هو انحياز رولينج الإنساني، بين أن نتقبّل ظرفنا الإنساني بكل الألم فيه، والفقد والفشل والاكتئاب وعدم الخلود، لأن أي محاولة لرفض أجزاء من إنسانيتنا تعني تشظي روحنا للأبد مثل الهوركروكس.
فلو كانت تلك المشاعر الداخلية هي التي تنتظرنا عندما نحاول أن نحيا، فالحُب وكل الخيارات التي نجترحها لمغالبتها هي ما يجعلنا بشرًا، وبالتخلي عن ساحة المعركة تلك نصير وحوشًا، وهذا خيار فولدمورت وكل المنضمين له، التخلي عن ساحة الجهاد الإنساني لحالة غير إنسانية تضمن الخلود لكنه خلود موحش ثمنه فادح، مثل صفقة «فاوست» التي باع فيها أحدهم روحه للشيطان مقابل الخلود في أدب «غوتة».
كل ما نقمعه في إنسانيتنا بهشاشتها وجمالها وحزنها سندفع ثمنه، تخلق جوان من تلك القاعدة في قصصها التالية وحش «الأوبسكيورس»، وهو طاقة ظلامية تُولد في الساحر صغير السن عندما يُقمع سحره بداخله بعنف من الخارج، عندما يتعرّض لاستلاب ويُحدِّد له الآخرون كينونته، عندها تولد تلك الطاقة بداخله وتتغذى عليه وتقتله في النهاية.
لو لم تكتب رولينج روايتها لما خرجت ربما من تلك الهوة للأبد، كان ظلامها سيقتات عليها حتى يقتلها في النهاية مثل «الأوبسيكيورس»، أو كان فشلها ليُجمِّدها أمام مخاوفها مثل «البوغارت»، أو كان اكتئابها ليمتص كل سعادة حظيت بها يومًا مثل «الديمينتورس».
عبر استعارات سحرية، تُثمِّن رولينج القوة بداخلنا، التي تكفي بدون أي سحر لنحيا ظرفنا الإنساني بالموحش فيه والجميل، نحيا فقط على الحب والصداقة كطاقة كافية للنجاة كل مرة مثلما كان وجه ابنتها المطل على هوتها كافيًا للخروج منها، فقط علينا ألا نخشى هشاشتنا أو كما همس «دمبلدور»: