كلنا حنظلة: «صبى الكبريتيك» الذي أنقذنا من الصحراء
منذ اندلاع الحرب في غزة شاع بين لاعبي كرة القدم المصريين الاحتفال بأهدافهم خلال المباريات على طريقة «حنظلة» الشخصية الكاريكاتيرية الشهيرة.
أبدع تلك الشخصية الرسام ناجي العالي لصبي في العاشرة من عمره يقف ويعقد كفيه خلف ظهره مبديًا سخطه على الأوضاع السياسية التي يراقبها في صمتٍ وعجز.
نال «حنظلة» شهرةً فاقت جميع أعمال ناجي العلي الأخرى، بل فاقت ناجي نفسه، والآن تحولت إلى أيقونة تلخص الأزمة الفلسطينية، وباتت رمزًا واضحًا لا خلاف عليه لمعاناة الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي.
ابن النكبات
هو صنيعة ناجي العلي ابن قرية الشجرة الذي لم يُكتب له استنشاق طِيب وطنه إلا عشر سنوات أنفقها في اللعب بشوارع قرية الشجرة الفلسطينية، التي كانت واحدة من ضحايا نكبة 1948 التي أجبرت سكان القرية ومعهم آل العلي على الرحيل سريعًا.
ودَّع ابن العاشرة قريته على وعدٍ بعودة سريعة إليها حينما تهدأ الأوضاع، دون أن يدري أنها لن تهدأ، وأنه لن يعود، فأوقف عقارب الساعة عند لحظة وداعه الأخير لبيوت «الشجرة»، واعتبر أن كل ما بعدها نسيًا منسيًا، ومن وحي تلك المأساة خرج بفكرة «حنظلة» الذي عرف النور في 13 يوليو 1969 بعدما ابتُلي العلي بنكبة أخرى لا تقل قسوة في 1967.
الرحيل عن فلسطين لم يمنح العلي الخلاص ولا السلام بعدما عاش محاصرًا في مخيم عين الحلوة، وهو مكان كئيب ضيق يعيش تحت أسنة الشتات والجوع والهوية المؤقتة، والأهم والأقسى.. إطلالة بعيدة على الوطن الذي غدر به الجميع حتى لُفظ عنه أهله تاركين أراضيهم لألد الأعداء يمزقون هويتها ثم يعيدون تركيبها وفقًا لأبعاد نجمة داود.
الوقع كان مؤسفًا على الصبي المنحدر من عائلة عمَّدت زيتون فلسطين بدمها منذ شارك أجداده الأوائل في الثورة العربية الأولى، فكان عليه أن يجد وسيلة يُفرغ بها طاقة الغضب التي ملأت أعماقه وإلا جُن.
في لقاءٍ له مع الأديبة المصرية الراحلة رضوى عاشور كشف لها قبسًا من تلك اللحظات الجنونية فقال:
فن المخيمات
نتيجة تلك التداعيات حُرم الصبي الفلسطيني من استكمال تعليمه الدراسي، إلا أن الله عوضه بخيرٍ من ذلك بعدما اكتشف في نفسه موهبة الرسم، فصرف جُل وقته لتعليم نفسه وصقل مهاراته حتى أصبح مدرسًا للفن بـ «الكلية الجعفرية» في صور، وحتى هذه اللحظة لم يكن ناجي يعرف أن قدره سيتعلَّق بالكاريكاتير وحده.
يحكي: «في البداية كان همي أن أعبر عن ذاتي بالرسم، وكان همي أن يكون الفن التشكيلي وسيلة وصولي إلى مستوى هذا التعبير، واكتشفت فيما بعد أنني أستجيب أكثر للرسم الكاريكاتيري، أو بتعبيرٍ آخر توصلت إلى قناعة مفادها: أن أحفر مجرى لحياتي من خلال رسم الكاريكاتير، ووجدتُ فيه سلاحي الجديد».
على عكس الشائع فإن ناجي لم يصل إلى الفن من وسط الصحافة أو العمل الأكاديمي، وإنما من جدران المخيم. اعتاد ناجي أن يرسم سلسلة لوحات يعلقها على جدران الشوارع وبيوت المخيم، لوحة فاثنتين حققتا نجاحًا بين الناس حتى شعر أن «جسرًا تكوَّن بينه وبين الناس» على حد قوله، فبدأ يرسم كالمحموم يتمنى لو يستطيع تحويل أعوام البؤس إلى فنٍ يعيش أضعاف أضعاف عُمره، يحكي العلي: «تمنيتُ أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى بعشرين يدًا، وبكلٍّ ريشة ترسم وتحكي ما بالقلب».
إحدى هذه اللوحات كانت لوحة «خيمة على هيئة بركان» التي لعبت دورًا تاريخيًّا في حياته بعدما تلقفها فنان «مخيمي آخر» هو غسان كنفاني الذي نشر تلك اللوحة في مجلة الحرية في 25 سبتمبر 1961م، وعلق عليها قائلًا:
منذ 1963 أكثَر ناجي من رسوماته الكاريكاتيرية، تنقَّل خلالها بين أكثر من رمز ليجعله نزيلًا أساسيًّا لرسوماته، أهمها الصليب الذي اعتبره رمزًا للفداء والتضحية، وفي 1969 عثر العلي حين قدَّم شخصية حنظلة للمرة الأولى.
يقول قادري حيدر في بحثه «ناجي العلي: الوطن والفن في الممارسة السياسية» : «مع حنظلة الطفل اكتملت بصورة نهائية صورة ناجي العلي الفنان والمثقف، ذلك المثقف العضوي النقدي الصارم والصادق الذي يقول ما لديه دفعة واحدة، دون تقسيط، إنها الحالة التي تبلورت ملامحها طيلة سنوات تكوينه الأولى (سنوات النكبة، المخيم، اللجوء، المنفى، الشتات، الاجتياح، الاغتيال)».
حنظلة: مش حَدا
يحكي ناجي العلي أنه أراد من حنظلة أن يكون «بطلًا يوميًّا في لوحاتي ليبقى بمثابة ذاكرة دائمة لي تحذرني من الانجراف في آلية المجتمع الاستهلاكي».
ويضيف: «اعتدتُ أن أرسم تلك الشخصية صباح كل يوم حتى أصون روحي من التشرذم في تلك الصحراء، خفت أن أتوه، أن تجرفني الأمواج بعيدًا عن مربط فرسي.. فلسطين».
رسومات غاية في البساطة، لا تحمل الكثير من الأيقونات والرموز ولا الكثير من الألوان فيكفي الأبيض والأسود، وحتى الكلمات كان ناجي يكتفي بعبارة قصيرة واحدة إن كتبها، رغم ذلك فإنها كانت تصل بالرسالة كاملة وبالمعاني واضحة أبلغ من خطبة عصماء تبارَى الأدباء في الإعداد لها لأيامٍ طويلة.
وهو ما دفع الشاعر الفلسطيني البارز سميح القاسم للتأكيد على أن «ناجي العلي الظاهرة الأكثر سخونة وإرباكًا في فن الكاريكاتير العربي على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، وسيكون شرفًا عظيمًا للأمم المتحدة أو اليونيسكو أن تطلق اسم ناجي العلي على أكثر من معلم من معالم العرب والعالم»، أما الشاعر محمود درويش فمنحه وصفًا بليغًا غريبًا قال فيه: «هذا الفنان قليل الاكتراث بالفن، لا يبدو لي أن الفن يعنيه، لأن الفن يسيل من أطراف أصابعه ولأنه ممتلئ بالناس الذين لا ينضبون».
عبْر حنظلة وجَّه العلي انتقاده العنيف لكل شيء، وكأنه تقمَّص فلسفة صديقه درويش حين قال يومًا «لا شيء يعجبني».. عاصَر العلي المسار المتهاوي الذي تساقطت إليه القضية الفلسطينية، والتي لم تنقذها منها حرب أكتوبر التي انتزعت لمصر سيناء فقط سامحة لإسرائيل بأن تواصل قضم الفلسطينيين على مهل.
مرارًا عبَّر العلي عن عدم تبعيته لأي مؤسسة سياسية أو تنظيم فكري مُحدد، يقول: «الكاريكاتير ضمير أمة، وأنا منطقة محررة، ليست مجيرة لأي مؤسسة أو نظام، وأنا لستُ حزبيًّا ولن أحشر القارئ وأدفعه لتبني موقف السياسي والأيديولوجي، فالمعركة واضحة جدًّا».
هاجمت رسومات العلي السادات وأمراء الخليج وقادة الدول الأوروبية والسلطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وحتى الصديق محمود درويش قال عنه «محمود خيبتنا الأخيرة» بعدما أيد اتفاق أوسلو، لم يرحم كلٌّ من حنظلة وناجي العلي أحدًا.. كانت كاريكاتيراته نارًا حارقة على الجميع، حتى إن مجلة «التايمز» أعدت تقريرًا عنه وصفته فيه بأنه «يرسم بحمض الكبريتيك».
لاحقًا سيتبين لدرويش صِدق حدس ناجي حين فتح نار ريشته على الكثيرين، فكتب عنه مستغربًا: «من دلَّه على هذا العدد الكبير من الأعداء الذين سينهمرون من كل الجهات ومن كل الأيام وحتى تحت الجلد أحيانًا».
طيلة رحلته حاول العلي أن يوسِّع اتجاهاته الفنية فنفَّذ أعمالًا تشكيلية عالية الجودة نحت فيها التماثيل ورسم بالزيت، لكنها جميعًا كُتب عليها العيش في ظِل أكثر من 40 ألف رسمة كاريكاتير نفَّذها طيلة حياته استأثرت بناجي وبصورته أمام الناس باعتباره فنان كاريكاتير فقط خلافًا للحقيقة.
في 22 تموز 1987 انتهت مسيرة الإبداع على يد رصاصة غادرة «مجهولة» أُطلقت عليه في لندن وقادته إلى مستشفى «تشارلنغ كروس»، حيث بُذلت جهود لإنقاذ صاحب حنظلة لم تُكلل بالنجاح ومات بعد شهرٍ داخلها، دون أن تنجح الجهات الأمنية البريطانية في التوصل لهوية القاتل.
الرواية الكلاسيكية بأن عميلًا ما من الموساد اغتاله غدرًا مثلما فعلوا من قبل مع غسان كنفاني وماجد أبو شرار وغيرهما، إلا أن القصة هنا تختلف قليلًا، فالآخرون كان لهم عدو واحد هو إسرائيل، أما ناجي العلي فكان له ألف عدو؛ الموساد، أجهزة أمنية عربية، أجهزة السلطة الفلسطينية التي لطالما نكَّل بقادتها على الورق.
أيًّا كان القاتل المجهول فلقد نجحت مهمة وكفَّت يد «صاحب حنظلة» عن الرسم، قبل وفاته تمنى ناجي العلي أن يعود جثمانه إلى حيث بدأت رحلته، إلى مخيم «عين الحلوة» ليكون مستقرًّا أخيرًا له بدلًا من أرض «الشجرة» التي فرق اليهود الصلة بينهما للأبد، لكن حتى العودة إلى لبنان كانت عصية عليه، فدُفن في «البروك وود» اللندنية غريبًا وسط غرباء لتكون النهاية الدرامية المثالية التي عاشها ناجي منذ خرج إلى الدنيا.
ربما كان هذا من حُسن حظه حتى لا يصل إلى أسماعه بعض بني وطني وهم ينتزعون تمثالًا معدنيًّا صغيرًا أُقيم له في عين الحلوة، أطلق على التمثال النار ثم دُفن في مكانٍ مجهول حتى اليوم كطريقة مثيرة للدهشة عن هوس الانتقام الذي يمتلكه بعض الناس الذين يسعون لتصفية ذكرى أعدائهم ولو عبر اغتيال الحديد!
نهاية لم يُمكن لـ «حنظلة» أن يخبر الناس عنها للأسف، لأن الريشة التي كانت ترسمه لم تعد موجودة، أما «حنظلة» نفسه فستجده في كل مكان؛ على الجدران، والشاشات، وأوراق الصحف وفي الملاعب رافعًا إصبعيه إلى السماء.. فتلك ذكرى لا تُمحَى بالقنابل لسوء حظ إسرائيل.