سينما «هاني أبو أسعد»: يهوذا في الحكاية الفلسطينية
محاكمة المسيح بعيون يهوذا
في خضم احتفالات «الضفة الغربية» بعودة الأسرى خلال صفقات المبادلة مع حكومة الاحتلال، ظهر في كادر جانبي، يكاد يكون هامشيًا، مشهدًا غرائبيًا للمئات من سكان «طولكرم» يرفعون هواتفهم الخلوية لتصوير عامود كهرباء…. ببعض الاقتراب، نُدرك المُثير بشأن العامود تحديدًا، جثتان مُشوهتان ومُعلقتان عليه بشكل مٌذل!
فيما بعد ستتداول الأخبار قصة عميلين فلسطينيين قدما معلومات أسهمت في اغتيال بعض قادة المقاومة، وبعد ظهورهما في مقاطع اعترافية تداولتها وسائط التواصل، كانت نهايتهما في هذا المشهد الطقسي عند مدخل مخيم «طولكرم».
تتصاعد ظاهرة إعدام العملاء خلال المعارك الكُبرى التي يُمثل فيها العميل أهمية قصوى للمحتل لجمع المعلومات، وسرطانًا قاتلًا في جسم المقاومة قد يفجرها من الداخل، لذلك انتشرت الظاهرة خلال الانتفاضة الأولى 1987، وخلال حروب غزة، حيث تم إعدام أكثر من 18 فلسطينيًا في حرب 2014 لاتهامات العمالة.
على بعد أميال من «طولكرم» تقع «الناصرة»، مدينة المسيح الذي أسرت قصته العالم أجمع، بينما تحققت مشهديته الأخيرة على يد خائن هو «يهوذا الاسخريوطي»، خيانة خلدت المسيح كأيقونة ومُخلص ونبي ورمز. لا أحد يتذكر «يهوذا»، الذي يحتل من كادر الملحمة هامشًا يكاد لا يُرى رغم محورية دوره.
في «الناصرة» ولد المُخرج الفلسطيني «هاني أبو أسعد»، الذي يُبرز مفارقة موطنه الذي استضاف قصة المسيح وقصة الاحتلال الصهيوني في أحد كادرات فيلمه «صالون هُدى» حيث تظهر أم فلسطينية مُلتاعة وهي تحتضن طفلها بينما تستند للجدار العازل الذي تُزينه صورة العذراء وهي تحتضن المسيح، وبدلًا من هالة التقديس على رأسها توجد هالة من الأسلاك الشائكة.
ولد «هاني» في داخل فلسطيني مُحاصر، المرء فيه دومًا مُدان على مذبح مُحاكمة قد تحدث في أي لحظة مثل المسيح، قداسة قضيته تُقوضها وحشية حصاره، لذلك الفلسطيني دومًا انعكاس لحكاية المسيح، ما فتن «هاني» في الحكايتين المسيحية والفلسطينية، لم يكن تحديدًا أبطالها، إنما الخائن، الشخصية المُثقلة بالخزي والتي تُحرك التاريخ من هامشها.
يُحاول المقال تحليل أشهر أفلام «هاني أبو أسعد» والتي دارت حول الخائن في السردية الفلسطينية. الذي يقفز في تلك الأفلام من الهامش للمتن ليتسيد الحكاية كأننا نُتابع محاكمة المسيح بعيون يهوذا.
الخيانة حبكة أكثر خلودًا
يتذكر «هاني» افتتانه الطفولي بفكرة المقاوم الفلسطيني الذي يحمل سلاحه دفاعًا عن أرضه، افتتان روضه أبواه بالرفض خوفًا على حياته.
التمس صبي مدينة «الناصرة» ساحة المقاومة الأولى له في سينما «ديانا» التى أدمن زيارتها منذ سن الخامسة، حافظت الأفلام المصرية القديمة التي عُرضت هناك على عروبة لسانه وثقافته بحد تعبيره. أخبرته أن هناك عربيًا في بلدان أخرى حُرًا من الاحتلال والحصار. يحيا الحُب والانتصار بصور شتى على شاشة السينما.
يقول «هاني» إن السينما تحولت لديه من مهرب إلى مصير ترك لأجله «هندسة الطيران» عندما شاهد الفيلم الأمريكي one flew over cuckoo’s nest الذي يدور حول المحارب «راندال ماكميرفي» الذي يودع في مصحة عقلية تحكمها مُمرضة مُستبدة تُدعى «راتشيد»، يُصدم «راندال» عندما يعرف أن النُزلاء محتجزون بإرادتهم وأنهم تنازلوا عن حُريتهم لصالح سُلطة المستشفى التي تسلب إرادتهم وتُمرضهم بشكل متعمد.
يقوم «راندال» بتثوير المرضى بأفعال بطيئة مثل تهريبهم خارج المصحة للبحر، تحفيزهم لتخيل مُباراة تلفزيونية يُمنع عليهم رؤيتها، لتحرير خيالهم من ضموره، ينتهي الأمر بالمستشفى لإخضاعه بجراحة «بضع الفص» التي تُدمر وظائف الإدراك والحُرية بالفص الجبهي ليتحول «راندال» إلى دُمية مُستلبة الإرادة كما أراده المشفى، عندها يقتله أحد أصدقائه مُحررًا إياه من المصير الذي حاربه طوال حياته.
يستمد اسم الفيلم رمزيته من طائر الوقواق الذي يزرع بيضه في أعشاش الطيور الأخرى، لتقوم برعاية صغيره وسط بيضها، يكبر صغير الوقواق سريعًا ليطرد بيض الطيور خارج العش ويستولي عليه، ويُجبر الطيور الراعية على تغذيته حتى يكبر سريعًا ليطردها هي الأخرى. لا أحد يطير فوق عش الوقواق أو ينجو، لذلك تبدو نجاة «راندال» من الامتثال برمزيته وروحه الثائرة فريدة وثمينة.
لم يحتج «هاني» طويلًا ليرى جوانب الشبه بين خبرته كفلسطيني والفيلم، فرمزية الاحتلال حاضرة، يتسلل أولًا مثل فرخ الوقواق ثم يُسيطر على العش سريعًا ويطرد أصحابه، لكن الأكثر رعبًا في الحكاية هو امتثال بعض الطيور له وتغذيته بإرادتها ليكبر أكثر.
يقول «هاني» إن أفلامه لا تُركز على ثنائية الاحتلال والمقاومة لأنه يوقن أن الاحتلال وضع شاذ سيزول، ما يُثيره هو قرار البعض بالامتثال له ومُساعدته مثلما تُعاون بعض الطيور مُستسلمة فرخ الوقواق ليكبر، مثلما صُدم «راندال» من تسليم النزلاء إرادتهم للمشفى. مثلما اختار أحد حواريي المسيح خيانته.
يحضر كبديل في عالم «هاني أبو أسعد» عن المشفى أو المؤسسة النظامية التي تستلب إرادة أفرادها، مؤسسة الأمن الداخلي الإسرائيلية «الشاباك»، يقول «هاني» إنه لا يوجد فلسطيني بالضفة لم يتعرض لاستجواب الشاباك.
في الفيلم تقوم الممرضة «راتشيد» بإخضاع مرضاها عبر تحكمها في تفسير قصص مرضهم، تبتزهم بمواطن ضعفهم النفسية، تُعيد تأويل حكاياتهم ليصيروا فيها دومًا ضعفاء، يستسلمون لتفسيرها، فتُحكم سيطرتها عليهم أكثر.
لا يحتاج «الشاباك» كذراع سلطة احتلال لامتلاك كثير من مفاتيح الإكراه، في روايات بعض العُملاء الفلسطينيين، يتم تجنيدهم لاحتياجهم تصاريح عمل يومية أو سفر للعلاج من أمراض قاتلة، أو بتهديد مُباشر باستهداف عوائلهم، كل صور العيش مادة للابتزاز والمفاوضة للتجنيد من المُحتل.
يقول «هاني أبو أسعد»:
أكبر جريمة يصنعها الاحتلال بنظري هي خلق العملاء
يرى «هاني» إن الاحتلال بتلك الطريقة لا يستحوذ على إرادة إنسان ومصيره وحسب إنما يتلاعب بنسيج مُجتمع كامل باستعداء بعضه على بعض وتفكيكه من داخله.
يقول «هاني» إن أفلامه لا تدور حول الاحتلال لأنها لو كانت كذلك، ستموت وتتحول ذكرى تاريخية بزوال الاحتلال، إنما تدور حول فكرة الاستلاب لإرادة أحدهم، مثلما ألهمه فيلم one flew over cuckoo’s nest ليغير دراسته لأنه لا يدور عن أمريكا ما بعد حرب فيتنام إنما يدور حول فكرة عالمية وهي كيف يُستنبت يهوذا في حكاية مُقدسة؟ وكيف يولد الخائن لإرادته في سردية مُقاومة؟
الجنة الآن: أن يحاول المسيح إنقاذ يهوذا
يدور«الجنة الآن» حول الصديقان «سعيد» و«خالد»، بينما يبدو «خالد» أكثر حيوية وحُبًا للحياة، يظهر سعيد باعتباره سرًا مُغلقًا على ذاته، لا تُفلت منه تفصيلة ولو في صورة ابتسامة، ينهره المصور في بداية الفيلم ليبتسم كي تبدو صورته جيدة، يرفض بإصرار لتكون الصورة الشاهدة عن كينونته باهتة، صماء، لا تكشف عنه شيئًا.
تُشبهه امرأة تُحبه بأنه مُعادل بشري لأفلام المينمالست، فيلم يتخفف في عرض حكايته من كل التفاصيل، زاهدًا وعاريًا في بساطته من كل زخرف. عري لا يكشفه إنما يُزيده غموضًا.
تختار المقاومة الصديقان لتنفيذ عملية استشهادية، يقف «خالد» أمام الكاميرا ليُلقي بيانه الاستشهادي، يُحاول التماسك والتظاهر بالقوة، لكن تخونه عينه وتختلس نظرة لكيس الشطائر الذي أعدته أمه له وهي تظنه ذاهبًا لعمله اليومي
يرتجف «خالد»، يُجرده كيس شطائر مصنوع بُحب من هالته البطولية ويُعيده طفلًا يشتاق لأمه وحسب ويخاف من أثر موته عليها، ينسى بيانه ووعيده ويقول:
أخبروا أمي أن تُغير خزان المياه، وأن تذهب لفلان لأنه يبيع الخزانات بسعر أفضل.
يستغرب قادة العملية ويسألونه، هل حقًا تلك الوصية الأخيرة من مُقاتل، مُجرد نصيحة ستُخفف عن أمه أعباء المنزل اليومية؟!
لا يحدث الأمر ذاته لسعيد الذي لا ينم ثباته عن رباطة جأش إو إيمان أقوى من صديقه إنما كونه مُنفصلًا تمامًا عن الحدث كأنه يحدث لشخصً آخر.
عندما تتعقد العملية يتفرق الصديقان ويعود «سعيد» لمدينته بحزام ناسف يلتف حول جسده، تشك المقاومة بخيانته ويجوب صديقه وحبيبته شوارع المدينة بحثًا عنه، ليجدوه في النهاية متكومًا في وضع جنيني عند قبر والده.
نُدرك أن «سعيد» هو ابن عميل فلسطيني تمت تصفيته، يحيا عاره كخطيئة أصلية لا فكاك منها في مدينة تسليتها الوحيدة هي عرض شرائط مُهربة لخطب المقاومة تُجاورها شرائط تصفية العملاء، تبيعها المحال وتؤجرها بإفراط ليتشرب أبناء المدينة شرف المقاومة وخزي العمالة.
لا تجعل تلك الشرائط خيانة الأب حدثًا من الماضي إنما حدث مُستديم ومُستعاد لا ينتهي أبدًا، يحاول «سعيد» أن يكون مسيحًا يضحي بنفسه لتطهير اسم والده من خطيئته. لذلك ينام بقنبلته جوار القبر، عسى لو انفجرت أن تُزيل شاهد والده وذكراه المُخزية لكنه يحتضن القبر في الآن ذاته في شفقة على إنسان تم تقويض إنسانيته باستغلال الاحتلال لضعفه واحتياجه.
يحاول «سعيد» باغترابه وبروده الانفعالي إعادة تدوير ضعف أبيه الذي ربما تم تجنيده بتهديده بابنه نفسه أو بأسرته، لا يعلم «سعيد» الكثير، فقط تخبره أمه أن أباه لم يكن شخصًا سيئًا.
يهرب من عيون حبيبته وهي تُحاول إثناءه عن مصيره، تنتمي حبيبته لعائلة من المقاومين، إرث معنوي يجعل المدينة بأكملها تحترمها، بينما ينتمي هو لإرث شيطاني يطبع مصيره بالخزي قبل أن يكتب سطرًا واحدًا في قصته.
بقدر ما تبدو العمليات الاستشهادية سياق عام قام به مئات الفلسطينيين ضد المُحتل، يحول «هاني أبو أسعد» القصة لسياق شديد الشخصانية، فيه فتى يُحاول أن يكون مسيحًا لانقاذ يهوذا، لا يُقاوم لأجل قضية كبرى، بقدر ما يقاوم لإزالة ثأر ووصمة شخصية.
لا يجعل هذا السياق «سعيد» منفصلًا أو غريبًا عن السردية الفلسطينية إنما يضعه في قلبها، في الواقع الفلسطيني توجد أسر كاملة تم وصمها للأبد بخيانة أحد أفرادها لوطنه.
ينتهي الفيلم بعينيه العازمتين تنظران للكاميرا ويده تلمس زر التفجير وهو يجلس في حافلة إسرائيلية مُزدحمة، لا يعلم «سعيد» هل توجد جنة على الضفة الأخرى تُطهره من خطيئة والده أم لا؟ لكنه يوقن أن الجنة التي يتخيلها في رأسه أخف وطأة من الجحيم الذي عاش فيه.
عُمر: الخيانة لغتها صورة شعرية وحُلم
في فيلمه «عُمر» يتخفف المخرج كثيرًا من الخطابية والمباشرة التي كست فيلمه «الجنة الآن»، لا يتحدث الأبطال كثيرًا عن فظاعة الإحتلال إنما يُظهرها شريط السينما، عبر رحلة «عُمر» اليومية لزيارة حبيبته، والتي تبدو رحلة رومانسية لبطل شاعري يتسلق لمحبوبته، لكن تُخبرنا الكاميرا أن هذا ليس جدارًا لقلعة في قصة «سندريلا» إنما جدار عازل بُني بشكل عنصري لحصار الفلسطينيين كحيوانات، وأن عبوره اليومي ليس آمنًا، في كل مرة تُطارد «عمر» زخات رصاص، يٌفلت منها بأعجوبة
حتى لو نجح «عمر» في مجاوزة الجدار العازل، يظل الموت روتينًا يوميًا، يُمكن لدورية بسيطة إيقافه وإذلاله لساعات قبل التفكير بقتله أو إطلاق سراحه.
بعد عملية قنص يتم القبض على «عُمر»، ويتعرض للتعذيب ثم لمُحاولة تجنيده، يواصل «عُمر» تحويله بشكل شعري لكل كادرات حصاره إلى جزء من رحلته للوصول لحبيبته، حد تحويل أسراب النمل في زنزانته العفنة إلى رسل حُب يبعثون له برسائل طمأنة من حبيبته.
عندما يخرج «عمر» من السجن يتحول السرد السينمائي بأكمله لحالة من البارانويا أو جنون الارتياب، تشتبه المقاومة أن «عمر» تم تجنيده، ويطمئن ضابطه أنه نجح في تجنيده، وتشك حبيبته في تجنيده. تتحول حالة الارتياب من شك صغير إلى إعصار جنوني يعصف بكل أفراد الحكاية.
لا يُحاول المخرج التدخل لإنقاذ أبطاله، إنما يُظهر الوجه الآخر لبطولية مُجتمع يقاوم في كل لحظة حصاره، ضريبة المقاومة هي الشك المُستمر والارتياب الذي يجعل كل شخص في أي لحظة عميلًا محتملًا، والذي يجعل أكذوبة أو شائعة صغيرة قادرة على اغتيال الفلسطيني معنويًا للأبد في مجتمعه المحلي، يتحول الشك إلى شبكة عنكبوت تتغذى على أفرادها حتى النهاية.
تُكسب المقاومة المجتمع الفلسطيني قوته وتوحده على هدف واحد لكن في مناخ يتغذى فيه الاحتلال على لحظة ضعف تنسل من أحد أفراده، يصير الضعف الإنساني ذاته خطيئة تستوجب التبرؤ منها، يتحول الفلسطيني عنوة إلى كائن فوق بشري لا يتسامح مع الضعف بداخله أو بظهوره على الآخرين لأن مجرد إبرازه يستدعي العدو لتجنيد صاحبه.
لذلك يُسهم المحتل بشكل غير مباشر في أسطرة الفلسطيني وتحويله إما لمقاوم أسطوري أو خائن، يصعب أن تحيا إنسانًا عاديًا وحسب في مُجتمع يهندسه الاحتلال كشبكة عنكبوت تتغذى على بشرية أفراده وهشاشتهم
في أحد مشاهد الفيلم قبل إعدام خائن، يسألونه عن سبب خيانته فيقول:
وعدوني بفيزا لنيوزيلندا، هناك بحر، البحر على بعد 15 كم من هون عمري ما شفته
بينما يُحول عمر رحلته اليومية لمغازلة حبيبته التي يشوشها نقاط التفتيش والجدار العازل، إلى صور شعرية لا تخيف، كذلك يحول أسراب النمل في زنزانة إعدام إلى رسل من المحبوبة، يُحول العميل خيانته إلى صورة شعرية لبحر يتوق لرؤيته.
لا يحاول المخرج توريطك هنا في التعاطف مع عميل تسبب في مقتل رفاقه إنما في أنسنته وحسب. الأحلام في كل مكان مدخل لأنسنة وتعقيد أصحابها أما في بلد محتل هي مدخل لتجنيد الإنسان وبيع روحه للأبد. الحلم ذاته قد يُكسب صاحبه هشاشة تجعله يعقد صفقة مع الشيطان.
مثل «الجنة الآن» ينتهي الفيلم بالبطل وهو يُصوب سلاحه للمحتل، يصوبه هنا «عمر» إلى ضابط تجنيده ليقوم بتصفيته، بعد أن صنع له كمينًا من الثقة والإغراء مثل الكمائن التي صنعها الاحتلال لكل أبطال الحكاية، لا تُغادر «عمر» الصور الشعرية أبدًا فيخبر ضابطه قبل قتله أنه اصطاده كما يصطاد الأفارقة قرود الغابات، بحيلة وبعض العسل.
صالون هُدى: مُحاكمة من دون حضور الجاني
لا يُعتبر «صالون هدى» أفضل أفلام «هاني أبو أسعد» لكنه أكثرها إثارة للجدل، أصدرت وزارة الثقافة الفلسطينية بيانًا يرفض الفيلم ويتهمه بتشويه صورة المرأة الفلسطينية وخدش الحياء.
يدور الفيلم حول «هدى» التي تُدير شبكة إسرائيلية لتجنيد الفلسطينيات عبر تخديرهن وتصويرهن في أوضاع مُخلة في صالونها ثم ابتزازهن، يستهل المخرج الفيلم بعبارة:
مستوحى من أحداث حقيقية
ليؤكد أن الحبكة على قسوتها تنتمي إلى المسكوت عنه في الداخل الفلسطيني، لا يهدف المقال هنا لتأكيد أو نفي تلك الوقائع إنما مناقشتها من منظور فني كحكاية سينمائية
تبعًا لهاني أبو أسعد، بينما يقوم الاحتلال باستلاب إرادة العُملاء بتصاريح العمل والعلاج والتهديد بالعوائل، يستلب إرادة العميلات بالنفاذ إلى المجتمع الفلسطيني كمجتمع ذكوري شرقي لا يتسامح مع مفاهيم الشرف والعار، ولا يُمكنه أبدًا أن يرى الأنثى ضحية فيها تستحق الغفران. لذلك تقول «هدى» إنها تختار الزوجات المُعنفات، المتزوجات برجال يُخفون ضعفهم بالعنف، رجال لن يترددوا أبدًا في التضحية بنسائهن لتطهير شرفهم المجتمعي
يتحول الفيلم بأكمله إلى محاورة مسرحية بين «هدى» وقائد المقاومة «حسن» الذي يحاول استجوابها لمعرفة أسماء عميلاتها لقتلهن، لأنه لا يُمكنه المخاطرة بترك عميلات في الداخل حتى لو كن ضحايا لعملية تجنيد قذرة.
في فيلم one flew over the cuckoo’s nest تُظهر الممرضة «راتشيد» ذكاء شريرًا في اختيار الممرضين والحُراس من سود البشرة، لأنهم الفئة المقموعة في المجتمع الأمريكي، التي تمتلك فائض من القهر يُمكن إعادة توجيهه لمرضاها بيض البشرة، تلعب «راتشيد» بذكاء على تناقضات مُجتمعها الأمريكي وعيوبه لاستخدام مُعاناة فئة مقهورة لقهر فئة أكثر بؤسًا مثل المرضى العقليين.
في «صالون هُدى» يؤطر «هاني أبو أسعد» قُدرة المُحتل على استغلال مفاهيم الذكورية المُتضخمة في مُجتمع مقهور ومُحتل يعمل على إذلال الرجال يوميًا، ليقوم بتجنيد السيدات عبر تحويل تلك المفاهيم إلى فوهة مصوبة لرؤوسهن فتصير العمالة أخف وطأة من مُصارحة امرأة لزوجها أنها تم تجنيدها في صالون للسيدات. لمجرد أنها شربت قهوة مُخدرة من مضيفتها
تتحول مُحاورة الاستجواب بين «هُدى» و«حسن» إلى جلسة اعتراف كنسية، تقول إنه تم تجنيدها لأنها خانت زوجها مع رجل تُحبه، ويقول إنه التحق بالمقاومة لأنه في طفولته أقنع صديقه المتردد بقذف الحجارة على دورية إسرائيلية، في المساء جاء الإسرائيليين إلى منزله، وأجبروه أن يشي بصديقه، وأردوه قتيلًا أمام عينيه. يُشبه «حسن» بطل «الجنة الآن»، لا يقاتل لأجل قضية عامة إنما يُحاول التكفير عن خطيئة أصلية وشخصية.
تُحاول المحاورة تحديد مصير «ريم» آخر ضحايا صالون هدى، التي لم تتورط بعد في العمالة، يقرر «حسن» قتلها، وتُدافع «هدى» عن مصيرها كقربان أخير لتطهير نفسها بإنقاذ آخر ضحاياها.
عندما تُصارح «ريم» زوجها بما حدث لها، يكون أضعف من قتلها بنفسه وأجبن من قدرته على إنقاذها، لذلك يتركها لمصيرها ويفر مع ابنته. لتصدق نظرة «هدى» في اختيارها لزوجات مُعنفات من رجال ذكوريتهم هشة ومُتضخمة.
يعقد «هاني أبو أسعد» في «صالون هُدى» مُحاكمة للاحتلال لا حضور له فيها، محاكمة منبع بؤسها أن الجاني والضحية، هم الفلسطينيون، فالعميل يجب قتله لأنه سرطان لا يُمكن تجاهله، بينما الضحايا هنا يستحققن مُحاكمة أكثر عدلًا لأن مجتمعهن قتلهن بمفاهيمه وثقافته، مفاهيم كانت هي الثغرة التي نفذ عبرها المُحتل.
لا توجد قصة للمسيح من دون يهوذا
في مشهد من فيلم it must be heaven يقوم المخرج الفلسطيني «إيليا سُليمان» بتقديم سيناريو لمنحة أوروبية، يُخبره موظف المنحة أن حكاية السيناريو ليست فلسطينية بما يكفي. يسخر «إيليا» من انتقادات توجه دومًا للسينما الفلسطينية بكونها لا تُعبر عن واقعها بينما في الحقيقة هي لا تُعبر عن صورة البعض الخيالية عن فلسطين.
تُتهم سينما «هاني أبو أسعد» أنها نُسخة مُصطنعة، يصبغ فيها المخرج قضيته الفلسطينية بصبغة هوليوودية لا تُخفى، يبتسم «هاني» ويقول إنه لا يُزعجه هذا الأتهام لأن جماهيرية أفلامه ووصولها لقطاع عريض من البشر أحد أهدافه.
في أحد اللقاءات يُحاصره المذيع بأسئلته حول هاجس «العمالة» الحاضر في أفلامه، الذي يتحول إلى شبكة مُريبة وإعصار من شكوك يُحاصر كل أبطاله، يبتسم «هاني» ويرد حكاياته من سياقها التاريخي لمنطقها السينمائي.
لا تسعى سينما «هاني أبو أسعد» لتبرير العمالة أو وصم بعضًا من شعبه بها إنما محاولة فهمها، وأنسنة الفلسطيني كمقاوم أو خائن أو ضحية لاحتلال شيطاني يستهدف تصفية روحه وكرامته الإنسانية قبل جسده، يحاول فهم ثغرات المُجتمع التي ينفذ عبرها المحتل لاستهداف الأضعف في شعب بعينه لتجنيده.
يرى «هاني أبو أسعد» أن أفلامه لا تشوه فكرة المقاومة إنما هي امتداد جمالي وسينمائي لها وتنويع عنها فبطله الأثير «ماكميرفي» لم يتوقف عن المقاومة أبدًا لكنه لم يستطع تثوير رفاقه إلا بفهمهم أولًا وأنسنتهم ثانيًا، ومثلما يحمل المقاوم سلاحه لقتال محتل، يُحاول «هاني أبو أسعد» تثوير السينما كسلاح ضد الامتثال والاستلاب الذي يكون دومًا مدخل الاحتلال لتجنيد عملاء ضد مجتمعهم نفسه.
في سينما «هاني أبو أسعد» الخيانة ليست وجهة نظر يُمكن تبريرها، إنما سرطان لا يُمكن التسامح معه، لكن لا يمكن الشفاء منه إلا بفهم كيف تتحول خلية بعينها وفية للجسد إلى أداة لإهلاكه، من دون هذا الفهم يظل الفلسطيني أسير الأسطرة والتقديس، كأنشودة مسيحية لا حضور ليهوذا فيها.