ربع قرن كرة يد: انتصارات هزيمة الدنمارك
انهمرت دموع الطفل الذي لم يكمل بعدُ عامه الثامن كبحرٍ يمدُّه من بعده سبعة أبحر، ولم ينفد حزن الصغيرِ الكبيرُ بعد. لقد انتهت إجازة أبيه المؤقتة، وآن أوان وداعٍ جديد لأشهر، يعود فيها الوالد الحبيب إلى عمله خارج البلاد.
حاولت الأم تسكين الطفل الملتاع بكل الطرق التقليدية، فلم تُجدِ نفعًا، واستمر البكاء السرمدي. لجأت إلى التلفاز الذي لم تكن تحب ترك طفلها أمامه كثيرًا، علَّها تجد بعض أفلام الكرتون أو برامج الأطفال التي قد تسلِّي الطفل عن أشجانه قليلًا، لكنها لم تجد ما تريد، إنما وجدت بثًّا مباشرًا عبر الأقمار الصناعية لمباراة في كأس العالم لكرة اليد. الولد يحب الكرة بجنون، لمَ لا أجرب؟
كانت المباراة بين منتخبي مصر والبرازيل في الدور التمهيدي لكأس العالم في اليابان عام 1997م. شعر الطفل بذهولٍ أذهله عن أحزانه، ولو مؤقتًا.
مصر، كأس العالم، البرازيل، إنه يعرف أن مصر تعاني من عقدة كأس العالم في كرة القدم التي يعرفها ويحب مشاهدتها ولعبها، لكن ها هي لعبة أخرى تلعب فيها مصر في كأس العالم، وليس ضد فريقٍ عادي، إنما البرازيل! التي عندما سمع الطفل الصغير اسمها برزت في ذهنه صورة منتخب كرة القدم البرازيلي الشهير، الذي ظنَّ نظيره في اليد بنفس القوة.
ابتلعت المباراة الطفل وأحزانه البريئة حتى الثمالة، لا سيَّما عندما أخذت الأهداف المصرية تمطر الشباك البرازيلية التي لا حول لها ولا قوة، لتنتهي المباراة الممتعة 32 – 11 للمنتخب المصري. شعر الطفل بنشوة – لم يقللها ما عرفه لاحقًا من أن منتخب اليد البرازيلي ليس قويًّا بالمرة – دفعته لمواصلة متابعة تلك البطولة بشغفٍ، ليحصل فيها المنتخب المصري على المركز السادس، ويقرر – وقد نفذ قراره – ألا يترك بطولة كبرى لهذا المنتخب إلا ويتابعها ثانية بثانية.
أخذت أسماء نجوم هذا الفريق تزاحم أسماء لاعبي كرة القدم في ذاكرته الغضة، جوهر نبيل، عائلة عواض، أحمد بلال، العطار، ومن بعدهم الكونكورد الطائر حسين زكي، وشريف مؤمن … إلخ. وقد أنصفته اللعبة كثيرًا وأسعدته في بطولة 2001م التي وصلت فيها مصر للمرة الأولى والأخيرة إلى المربع الذهبي؛ لتحصل على المركز الرابع بعد ظلمٍ تحكيمي شهير أبكاه في مباراة قبل النهائي ضد صاحب الأرض المنتخب الفرنسي، ثم وصل الإنصاف للذروة بفوز منتخب الناشئين بكأس العالم الفائت.
القصة السابقة حقيقية 100%، وهذا الطفل هو كاتب السطور الحالية، الذي ما زال على عهده مشجعًا لمنتخب كرة اليد طوال ما يقارب ربع قرن، وما زال ينتظر من منتخب اليد للكبار تحديدًا أن يحقق ما كان قريبًا من تحقيقه قبل 20 عامًا.
إيجابيات هزيمة الدانمارك التاريخية
يبدو العنوان السابق مستفزًّا للغاية، لا سيَّما للآلاف من حديثي التشجيع لمنتخب اليد، الذين تعلقوا بآمال الفوز أكثر من مرة خلال تلك المباراة الأسطورية، واحترقت أعصابهم مرارًا وتكرارًا حتى أصبحت رمادًا في دقائقها الثمانين الطويلة غير المعتادة لهم، ولا حتى للمتابعين المتمرِّسين.
اتفق العديد من المعلقين على المباراة على مواقع التواصل على أننا قد سئمنا جميعًا من تعزية النفس بالتمثيل المشرف، والخروج من البطولات بأقل الخسائر، وأن الأداء الاستثنائي الذي قدمه المنتخب المصري أمام الفايكنج أبطال العالم لا يغني شيئًا أمام حقيقتيْن مؤلمتيْن، لم تصل مصر للمربع الذهبي، كما أن النتائج القوية في تلك البطولة آلت آخر المطاف إلى حصول مصر على المركز السابع، الذي سبق أن حصلت على مثله وما هو أفضل منه قبل 20 عامًا، عدة مرات.
لكنني كعاشق لمتابعة المنتخب المصري لكرة اليد منذ نعومة أظفاري حرفيًّا أختلف مع هؤلاء كثيرًا، وأرى أن تلك المباراة فارقة فعلًا، وشهدت إيجابيات لم نعرفها من قبل مع منتخب الكبار، حتى مع جيل 2001م الذهبي، وأن البناء عليها سيحدث فارقًا كبيرًا في المنافسات الدولية القادمة، وسينتقل بالمنتخب المصري من مرحلة كونه من منتخبات الصف الثاني البارزة، إلى أن يصبح من القوى العظمى في اللعبة، والمنافس الأبرز للأوروبيين الذين يحتكرون الإنجاز فيها.
الفوز بالشوط الثاني
دائمًا وأبدًا كان المنتخب المصري يجيد في الشوط الأول، لكنه لا يلبث أن يتقهقر في الشوط الثاني لا سيَّما أمام فرق الصف الأول، كالدنمارك وفرنسا وإسبانيا والسويد، وتلك الأخيرة للأسف شهدنا في كأس العالم الحالية في مباراتها مع منتخب مصر نفس تلك الهزيمة في الشوط الثاني، والتي أضاعت على المنتخب المصري فوزًا ثمينًا كان في المتناول، وكان يمكن أن يجنبنا لقاء الدانمارك في دور الثمانية.
لكن في مباراة الدانمارك فوجئنا بالمنتخب المصري يقدم أداءً قويًّا في الشوط الثاني، ويعوض فارق الثلاثة الأهداف لصالح الدانمارك في الشوط الأول، ويكاد يحسم المباراة لولا الخطأ الغريب في التبديلات في الثواني الأخيرة، والذي كلفنا ضياع الهجمة الأخيرة التي كان يمكن أن تجلب الفوز. بل الأدهى من ذلك أن المنتخب المصري نجح في العودة مرة ثانية وتحقيق التعادل في الشوط الإضافي الثاني خلال نفس المباراة.
ولم يقتصر ذلك الأداء الجيد في الشوط الثاني هذه البطولة على تلك المباراة فحسب، إنما أيضًا في مباراة سلوفينيا الحاسمة التي سبقتها، والتي عوَّض فيها المنتخب تأخره بفارق خمسة أهداف ليحقق تعادلًا ضمن له الصعود لدور الثمانية. أي أن أفضل أداءات الشوط الثاني جاءت في أقوى مباراتيْن في البطولة، وأكثرها شدًّا للأعصاب.
وداعًا انهيار الربع الأخير من المباراة
على مدى أكثر من 20 عامًا لا أتذكر عدد المرات التي أصابني فيها المنتخب بالإحباط في مبارياته ضد الفرق الكبرى، والتي يبدؤها بندية شديدة، ويتبادل الأهداف مع الخصم، بل يتقدم عليه، حتى تأتي الدقيقة 45 – منتصف الشوط الثاني – وتبدأ اللياقتيْن البدنية والذهنية في الانهيار، لا سيَّما إن نجح الخصم في التقدم بفارق هدفيْن فأكثر، فتنفلت أعصابُ لاعبينا، ويعجزون عن تحقيق الريمونتادا، ويهرب الفوز، ونتلقى بدلًا منه هزيمة موجعة.
هذه المرة، لعب المنتخب 80 دقيقة كاملة ضد بطل العالم في لياقة استثنائية لم نعهدها من المنتخبات المصرية من قبل، في ندية كاملة مع المنتخب الدانماركي، ونجح في العودة من فارق هدفين وثلاثة، والتقدم عدة مرات. وشهدنا اللاعب المصري سند يحرز ضربة جزاءٍ قاتلة في الدقيقة 70 أعادت مصر إلى المباراة.
مواصفات بدنية متفوقة
دائمًا ما كنا كمشجعين ننظر بغبطة بل بحسد إلى بنية لاعبي الخصوم، لا سيَّما في القوى الأوروبية الكبرى، ومنها بالطبع الدنمارك.
في هذه البطولة، وفي مباراة الدانمارك على وجه التحديد، برز الاستعداد البدني المتميز لأكثر من لاعبٍ مصري مثل يحيى خالد فارع الطول، ويحيى الدرع المقاتل القوي، وأيضًا علي زين الجامع بين القوة والرشاقة، وكذلك المصري صخرة الدفاع … إلخ. المنتخب يملك إذًا عددًا من النجوم باللغة الدارجة (متأسسين صح) وليس مجرد طفرات غير مصقولة في الموهبة.
دفاع مصري فعَّال
دائمًا كانت مصر تعاني في الدفاع، رغم امتلاكها حراس مرمى ممتازين، لمشاكل في التمركز والبناء الخططي والاستيعاب والثبات الانفعالي، وكذلك اللياقتيْن البدنية والذهنية.
في هذه المباراة، نجح الدفاع المصري في أوقاتٍ كثيرة في تعطيل أبرز لاعبي الدانمارك يانسن، والذي دفعه الضغط الشديد الذي تعرَّض له طوال المباراة إلى الخطأ الساذج الذي تسبَّب في طرده واحتساب ركلة جزاء لمصر. ولولا الخطأ غير المبرر من المصري في الثواني الأخيرة من المباراة، والذي تسبب في ركلة جزاء للدانماركيين، لكانت تلك المباراة أيقونة للدفاع المصري في تاريخ منافسات كرة اليد للكبار.
إذًا، فعلى الرغم من استمرار بعض المشكلات القديمة المعروفة، فإن الكثير من التطورات الإيجابية قد فرضت نفسها أمام أعيننا، وعالجت بعض أبرز الأخطاء المزمنة التي حالت بين منتخبات كرة اليد المصرية للكبار وبين المراكز الأولى في المنافسات الحاسمة، وهذا يجعلنا أكثر ثقة من ذي قبل في رفع سقف طموحاتنا وتوقعاتنا في البطولات اللاحقة.
ويمكنني بثقة أن أقول إنه إذا كان جيل أواخر التسعينيات و 2001م هو الجيل الذهبي لكرة اليد المصرية، فالجيل الحالي أمامه فرصة استثنائية – وليست صعبة – لأن يصبح الجيل الماسي، وأن يحقق إنجازات عالمية انتظرناها بحرقة مع الجيل الماضي، بل إنه قادر على أن يغير في السنوات القادمة من خارطة الاهتمام الشعبي في الألعاب الجماعية، ويحدث طفرة بارزة في الطلب على تلك اللعبة المثيرة، لا سيَّما وأن أكثر نجومه ما يزالون تحت سن الثلاثين، أي أن أمامهم بضع سنوات من التألق إن حافظوا على منحنى التطور الحالي.
كرة اليد تستحق
لا أحب المبالغات وحالات الهوس التي تسيطر على ساحات التشجيع الرياضي في مصر عمومًا، والتي فاقمتها أجواء مواقع التواصل وترنداتها ومبالغاتها. لكنني أرى أن مباراة مصر والدانمارك النارية استحقت الحالة الاستثنائية من الفوران التي أحدثتها. هل نتذكر لعبة جماعية أخرى نجح فيها المنتخب المصري في إحراج أبطال العالم حتى الثانية الأخيرة؟
وفي العموم، إن كان المرء سيشجع في مصر رياضة جماعية، فكرة اليد والجيل الحالي من اللاعبين يستحقون منا – كمتابعين – الأولوية والاهتمام، وكثيرًا من الانفعال، وبعض الأعصاب المحترقة أيضًا.
أتحرق شوقًا إلى كأس العالم القادم لكرة اليد بعد عاميْن، ولا أسرف في المبالغة إن قلت إنني أنتظره أكثر من كأس العالم في كرة القدم 2022م، فعلى الأقل، وجود مصر فيه مضمون كعادتها المتصلة التي لم تنقطع منذ عام 1993م. وقبل ذلك أتمنى أن تُلعب أولمبياد طوكيو 2021م في موعدها في يوليو/تموز القادم، فأنا أشم رائحة ميدالية غالية منتظرة لكرة اليد المصرية، بشرط اللعب بنفس روح مباراة الدنمارك وأدائها، أو حتى أقل قليلًا.