من رابعة إلى سيناء: رحلة حنفي جمال ورفاقه المخضبة بالدم
أمام كاميرا رقمية ثُبتت على حامل ثلاثي غرست قوائمه في الرمال بعناية، وقف «أبو عمر الصعيدي» مرتديًا زيًا عسكريًا، ويستحضر في خاطره ما تبقى من آثار رحلة التحولات اللافتة للنظر وبعد برهة من الزمان لوح المصور بيديه معلنًا بدء تسجيل الإصدار.
بدا «أبو عمر» مستحضرًا جملة من مشاعر وذكريات متناقضة وداعبت تلك الحالة كيانه فأطلقت عنان لسانه لتنساب منه عبارات الرثاء والتهديد والوعيد، قائلًا: «كلما تذكرت أخي أبا بكر وحياة الترف والسلطة والمنصب التي يحلم بها (الكثيرون)، أتذكر المحن التي مر بها ليفر من ديار الكفر إلى ديار الإسلام ويقاتل تحت الراية العُقاب، لينزع سلطان من كان معهم سابقًا ويدمر ملكهم».
استمر الحديث لبضع دقائق، وحينما فرغ الشاب ذو الزي العسكري من حديثه، أطفأ المصور التسجيل وحمل أدواته وسار كل منهما إلى جوار الآخر عبر درب صحراوي تتخلله بقايا أوراق الأشجار المتساقطة في الخريف، وآثار قصف مركز دمر سيارة دفع رباعي لا يزال ما تبقى منها شاهدًا على ضراوة الحملة العسكرية الجديدة التي لا تشبه سابقتها.
خلال الأسابيع التالية، ظهرت لقطات معدودة من فيديو «أبو عمر» ضمن إصدار للمكتب الإعلامي لتنظيم ولاية سيناء- المدرج على قوائم الإرهاب- المسمى بـ«المجابهة الفاشلة»، المنشور في مارس/آذار 2018، في حين أُخفي جزء من ملامحه وذيل الإصدار المرئي بكلمة «قريبًا إن شاء الله»، ليعلن التنظيم عبر تلك الجملة أن هناك فيديو آخر سيخرج في غضون وقت قصير ويتضمن حكايات «أبو عمر ورفاقه».
مضت نحو 8 أشهر، ولم يخرج الإصدار المرتقب إلى النور، إذ كان التنظيم يعاني من وطأة الضربات التي تلقاها خلال العملية الشاملة «سيناء 2018»، وتسببت تلك الضربات في تقويض قاعدته العملياتية والإعلامية كما حيّدت عددًا من أبرز قادته وعناصره الفاعلين.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، بث المكتب الإعلامي لولاية سيناء إصدارًا مرئيًا بعنوان: «سبيل الرشاد.. من الظلمات إلى النور»، تضمن بعض اللقطات التي نشرت في الإصدار السابق لأبي عمر الصعيدي مصحوبةً باسمه الحقيقي «حنفي جمال محمود سلمان»، ومتبوعةً بدعاء «تقبله الله» الذي يستخدمه لرثاء قادته المقتولين، كما احتوى على صورة أخرى لجثمانه بعد موته.
بيد أن الإعلان عن مقتل «أبو عمر» ورفيقيه الآخرين «أبو علي وأبو بكر» لم يطوِ صفحة الضباط الثلاثة الذين شكلوا أحد أخطر الخلايا الإرهابية داخل مصر، خلال السنوات السبع الماضية، وسعوا لاغتيال قيادات سياسية وأمنية أبرزهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، وإنما أعاد تسليط الضوء عليهم تمامًا كما فعل مسلسل «الاختيار 2»، الذي يُتوقع أن يُسلط الضوء على بعض جوانب قصتهم وفقًا لما نشرته صحف مصرية في مقدمتها صحيفة «أخبار اليوم» الحكومية.
من رابعة لـ«الشروق»: رحلة التحولات الحرجة
تسلك خيوط القصة مسارات عديدة ومعقدة، لكنها تلتقي جميعًا داخل خيمة صغيرة بميدان رابعة العدوية في صيف العام 2013، فعلى وقع هتافات أنصار الرئيس الأسبق محمد مرسي ، جلس كريم حمدي، الضابط آنذاك بقطاع الأمن المركزي التابع لوزارة الداخلية المصرية، مع زميله المفصول أحمد حسنين، أحد الضباط الملتحين، وصديقه علي حسن، طبيب الأسنان سلفي التوجه، الذي روى الواقعة ضمن أقواله في التحقيقات بالقضية رقم 447 لسنة 2016 حصر أمن دولة عليا، والمعروفة إعلاميًا بقضية «ولاية سيناء»، ليتناقشوا في الأوضاع السياسية بعد «عزل مرسي»، قبل أن يفترقوا على وعدٍ بالالتقاء من جديد.
وفي مكان آخر داخل الميدان، وقف الرائد السابق محمد السيد الباكوتشي الذي فُصل من الخدمة أيضًا في عام 2012، لدعوته الضباط لاعتناق الأفكار المتشددة، وكوّن بعد ذلك خلية من الضباط لتنفيذ عمليات إرهابية، حسب نص التحقيقات في القضية 148 لسنة 2017 والمعروفة إعلاميًا بـ«محاولة اغتيال الرئيس السيسي»، منتظرًا صديقه حمدي، قبل أن يتلقى رسالة من أبو عمر، أحد أعضاء خليته، يخبره أن موعد فض الاعتصام تقرّر في 14 أغسطس 2013.
في هذه الفترة، كان «أبو عمر» أو حنفي جمال، أحد أعضاء خلية الباكوتشي السرية، ضمّت بحلول 2014، خمسة ضباط سابقين هم كريم حمدي، وخيرت السبكي، ومحمد جمال عبد الحميد، وإسلام وئام، وحنفي جمال، إضافةً لمدنيين اثنيين أحدهما علي حسن، طبيب أسنان، والآخر عصام العناني، محفظ قرآن، صاحب التوجهات الجهادية الذي مكث بضع سنوات في سجن وادي النطروان. مع ذلك، تلقى الجمّال تكليفًا من قبل وزارة الداخلية بالمشاركة في فض الاعتصام، مع زملاء آخرين له من بينهم كريم حمدي.
غير أن حنفي جمال استغل مشاركته في فض الاعتصام لتهريب عدد من أعضاء وأنصار جماعة الإخوان، حسب ما ذكرته أسبوعية «النبأ» الناطقة باسم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عددها الصادر بتاريخ 6 ديسمبر 2018، إذ كان متعاطفًا مع الجماعة في تلك الفترة.
مثّل فض رابعة نقطة التحول المفصلية في مسيرة خلية الضباط السرية، وأثّر مقتل زميلهم السابق أحمد حسنين فيهم بشكل خاص، ليسلكوا طريقًا جديدًا بدايته الالتزام الديني على الطريقة السلفية ويتلقوا دروسًا منهجية على أيدي بعض شيوخ السلفيين، قبل أن تكتشف وزارة الداخلية توجههم الجديد إثر مشاجرة حدثت بينهم وبين أحد ضباط المرور المكلفين بتأمين موكب الرئيس السابق عادلي منصور، لإصرارهم على المرور برفقة أحد أصدقائهم السلفيين أثناء عبور موكب منصور.
أبلغ ضابط المرور وزارة الداخلية بالواقعة، وأجرت بدورها تحقيقًا حول حنفي جمال وصديقيه محمد جمال وخيرت سامي السبكي، وأصدرت قرارات بنقلهم من إدارة العمليات الخاصة بقطاع الأمن المركزي إلى قطاع الأمن العام، وتوزيعهم على محافظات نائية، فنُقل الأول لأسوان، والثاني إلى سوهاج، بينما انتقل الأخير إلى محافظة الوادي الجديد.
استقطاب جهادي
مرت أسابيع قليلة على نقل الضباط الثلاثة إلى أماكن عملهم الجديدة، أمضوا أغلبها يتذكرون تلك المشاجرة التي أبعدتهم من إدارة العمليات الخاصة إلى غير رجعة، وعندما عادوا للقاهرة من جديد رتبوا للقاء زميلهم كريم حمدي الذي رتب لهم لقاءً مع صديقيه علي حسن وعصام العناني، ليدور حديث طويل عن فض اعتصام رابعة والموقف من الحكومة والسلطة السياسية.
وأثناء تلك الجلسة، التي تمت في أكتوبر 2015، نجح العناني، صاحب الأفكار الجهادية على ما يبدو، في استمالة الضباط الأربعة، وأقنعهم بضرورة الهرب من الخدمة بوزارة الداخلية، وتنفيذ هجمات إرهابية ضد القادة التنفيذيين ومقرات الأمن والجيش المصري، وهي نفس الأفكار التي تناقش فيها سابقًا مع الرائد المفصول محمد الباكوتشي الذي توفي جرّاء حادث سير في أبريل 2014، وذلك حسب نص التحقيقات في قضية ولاية سيناء، وصحيفة «النبأ» الأسبوعية.
استقطب العناني الضباط الأربعة بالطريقة الجهادية التقليدية المرتكزة على اللعب على وتر المظلومية، وإقناعهم بحاكمية الشريعة وتكفير الحكام والجيوش والشرط القائمين على حفظ الأمن والنظام، وحثهم على الهجرة إلى معاقل تنظيم الدولة الإسلامية.
وبحلول أواخر 2015، وأوائل عام 2016، سعى علي حسن لتسفير مجموعة الضباط للالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، غير أنه فشل في مسعاه إلى أن أُلقي القبض عليه في مارس من نفس العام.
أربك القبض على حسن حسابات خلية الضباط الذين انقطعوا عن الخدمة لأشهر، وأحسوا أن القبض عليهم صار وشيكًا، وهو ما دفعهم للتفكير في تنفيذ هجوم إرهابي ضد أحد المقرات الأمنية الكبيرة بشرق القاهرة، أو السفر للالتحاق بتنظيم ولاية سيناء، فرع تنظيم الدولة الإسلامية المحلي.
في نهاية المطاف، قرّر حنفي جمال ورفاقه السفر إلى سيناء والانضمام لفرع داعش السيناوي، عام 2016، فانتقلوا إلى مدينة العريش (مركز محافظة شمال سيناء)، ومنها إلى مدينة الشيخ زويد، حيث استقلوا سيارة صغيرة إلى قرية «المقاطعة»، معقل التنظيم داخل المدينة الحدودية، وبعد أن ساروا لمدة دقائق قليلة، أوقفهم أحد المسلحين، ورافقهم إلى مسجد صغير داخل القرية، بينما كان زميله الآخر يرسل نداءً عبر جهاز المخشير (اللا سلكي اليدوي)، باستخدام شفرات اتصالية محددة من قبل التنظيم.
تكشف التحقيقات في القضية رقم 447 لسنة 2016 حصر أمن دولة عليا أن العناصر التي تنضم للتنظيم من خارج سيناء، يتم نقلها إلى مأوى مؤقت يُعرف بـ«المحطة» حيث يخضعون لتدقيق أمني للتأكد من هويتهم وخلفياتهم الاجتماعية والدينية والتنظيمية عبر «أمنيي داعش» الذين يعقدون جلسات عديدة معهم، قبل أن ينقلوا لـ«المضيفة» التي تمثل هي الأخرى مقر إقامة غير دائم، ثم بعد ذلك يتم نقل العناصر المنضمة حديثًا للمعسكر ليتلقوا دورات شرعية وعسكرية، ثم يتم توزيعهم بعد انتهاء فترة المعسكر على مفارز وخلايا التنظيم حسب تخصصاتهم، وهو ما تم مع حنفي جمال الذي عُرف حركيًا بـ«أبي عمر الصعيدي»، ورفيقيه محمد جمال عبد الحميد (أبو بكر)، وخيرت السبكي (أبو علي المهاجر).
داخل مفارز داعش: التخطيط لهجوم البرث
عقب اجتياز فترة الاختبار الأمني وتلقي الدورات الشرعية الأساسية، عقد الضباط السابقون البيعة لأبي بكر البغدادي، أمير تنظيم الدولة الإسلامية في ذلك التوقيت، أمام أحد شرعيي ولاية سيناء، ونُقلوا للعمل ضمن مفارز داعش الأمنية، واختير أبو عمر ليعمل ضمن ما يُعرف بإدارة التخطيط العسكري وغرف العمليات، كما شارك في تدريب قيادات التنظيم الإرهابي نظرًا لخبرته السابقة كمدرب بمعهد العمليات الخاصة التابع لقطاع الأمن المركزي، في حين أُلحق خيرت السبكي/أبو علي ومحمد جمال/ أبوبكر بقطاع التدريب العسكري، وأشرفوا على تدريب انغماسيي التنظيم الذين يتقدمون الهجمات الإرهابية، وفقًا لإصدار «سبيل الرشاد» الصادر عن المكتب الإعلامي لتنظيم ولاية سيناء.
وقبل نهاية 2016، نجحت الطائرات الحربية المصرية في استهداف مجموعة من قيادات تنظيم ولاية سيناء، وأسفرت الغارة الجوية عن مقتل أبو بكر/محمد جمال عبد الحميد، وإصابة زميليه حنفي جمال وخيرت السبكي. وحينما تعافيا من إصابتهما، كُلّف حنفي جمال/أبو عمر الصعيدي بتخطيط وقيادة الهجوم على ارتكاز الكتيبة 103 صاعقة بقيادة المقدم -آنذاك- أحمد منسي، في منطقة «قصر راشد» بقرية البرث، كما قاد أبوعلي المهاجر/خيرت السبكي مفارز الإسناد التي تولت تدعيم العناصر الإرهابية المهاجمة، حسب ما جاء في إصدار «سبيل الرشاد».
ومع انقضاء عام 2017 الساخن وحلول شتاء العام الجديد، قررت قيادة التنظيم تسجيل إصدار مرئي يظهر فيه أبو عمر ومن تبقى من الضباط السابقين، لاستغلاله كأداة حرب إعلامية في مواجهة قوات الجيش والشرطة المصرية، وبالفعل سُجل الإصدار قبل بدء العملية الشاملة وبثت مقاطع منه في فيديو المجابهة الفاشلة مصحوبةً بوعد نشر إصدار آخر قريبًا.
لكن الإصدار المرتقب ظل حبيس أدراج ديوان الإعلام المركزي، الذراع الدعائية لتنظيم الدولة الإسلامية، في ظل اشتداد الحملة العسكرية المصرية على معاقل تنظيم ولاية سيناء الذي انهارت آلته الدعائية وفقد عددًا من أبرز قادته خلال العام 2018. وقبل أن يبث الإصدار، نجحت القوات الجوية المصرية في تصفية أبو عمر الصعيدي ورفيقه أبو علي المهاجر ليتساقط من تبقى من أمراء داعش البارزين كما تساقطت أوراق الأشجار الظاهرة خلفه في مقطعه المرئي الشهير.