حمس «الإخوانية»: 5 محطات بين قصور النظام والمعارضة
إن إفساد الشخصية الجزائرية ـ مهما كان القدر الحقيقي والواقعي لهذا الإفساد، هو إنجاز من إنجازات النظام السياسي القائم.هكذا يذهب «عبد الرازق مقري» رئيس حركة مجتمع السلم بالجزائر إلى بيان دور النظام السياسي الجزائري في إفساد الشخصية الجزائرية، مؤكدًا على أن التغيرات السلبية التي تلحق بالشعوب ما هي إلا نتاج سياسات الحكام.تأتي هذه التصريحات في ظل ما تشهده الساحة الجزائرية من تحولات سياسية، تغيرت فيها الأدوار فبالأمس القريب كان إخوان الجزائر ضمن التحالف الرئاسي الداعم للرئيس بوتفليقة، كما أن التنظيم بات في أحضان النظام لأكثر من عشرين عامًا، واليوم تبدل دوره وأصبح خارج المنظومة الحاكمة لينضم إلى خط المعارضة، فما الذي دفع إلى هذا التحول؟ وهل حقًا أصبح الإخوان معارضة؟ أم أنه صورة جديدة من صور نفعية الحركة؟
«1» من دولجة الدين إلى أسلمة السياسة:
تفاوتت درجة صراع أنظمة دولة الاستقلال والتي تأسست في ستينات القرن الماضي مع تيار قوى الإسلام السياسي الصاعد في المنطقة، وتماهت العلاقة بين الطرفين بين الترهيب تارة والترغيب تارة أخرى، وما إن سيطرت الاشتراكية اليسارية على الحكم فيما عُرف بثورة التصحيح 1956 بقيادة بومدين حتى اتخذ الصراع منحنًى متسارع الوتيرة خاصة في ظل السياسات الاشتراكية المتبعة من قبل النظام، ومحاولة الدولة السيطرة على الدين ونشاطه الدعوي، ومحاولة النظام الاشتراكي السيطرة على الحياة السياسية من خلال وحدوية المؤسسات ومنها الحزب الواحد وبالتالي لا ضرورة لوجود قوى شعبوية أخرى.ظهرت الحركة الإسلامية الجزائرية كرد فعل اجتماعي وديني على سياسات الاشتراكية المتبعة فقد مثلت سياسات التغريب وقانون الثورة الزراعية والتعليم الديني وقانون الأحوال الشخصية ودولجة الدين والحديث عن الإسلام البروليتاري وإسلام المستتضعفين لتأميم الدين أهم نقاط الصراع بين القوى الإسلامية والتي كانت في طور التشكل ونظام بومدين خاصة في السبعينات، واستفادت تلك الصحوة من تراث جميعة العلماء وأطروحات مالك بن نبي.وكان لصعود تيار السلفية الجهادية في الوطن العربي – مستفيدة من أفكار سيد قطب – تأثيره على الحركة الوليدة في الجزائر فقد حملت جماعة مصطفى بويعلي عملًا مسلحًا ضد النظام 1981 كرد فعل على سياسات بومدين، وقد شهدت الجزائر انتفاضة شعبية عام 1988 كرد فعل على سياسات التحرير الاقتصادي، وكان من نتاج الانتفاضة تراجع النظام عن سياساته وفتح المجال السياسي أمام التعددية الحزبية في دستور 1989، وجدت حينها الحركة الإسلامية الفرصة لشرعنة تحركها السياسي فتأسست عدة مجموعات إسلامية منها حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ 1989 بقيادة « عباس مدني»، وحركة مجتمع السلم 1991 بقيادة« محفوظ نحناح»، وحزب النهضة الإسلامية بقيادة «عبدالله جاب الله».
«2» حركة مجتمع السلم من السر إلى السلطة:
«إلى أين يا بومَدين؟» تحت هذا العنوان جاء بيان حركة الموحدين – التنظيم السري الذي أسسه كلٌّ من محفوظ نحناح ومحمد بوسليماني – ردًا على سياسات إقرار قوانين الاشتراكية والحديث عن شيوعية النظام الجزائري والحديث عن الإسلام البروليتاري وإسلام المستضعفين كتوجه للدولة الاشتراكية الجزائرية، وفي أعقاب مناقشة ميثاق 1976 توجه النظام إلى التنكيل بقيادات الحركة بعد أن طالبوا برفض نص الوثيقة والتمرد على النظام الحاكم والمطالبة بتطبيق الشريعة.خرج نحناح بعد أن قضى خمسة أعوام في السجن من الحكم الصادر عليه بالحبس خمسة عشر عامًا بعفو شامل من الرئيس الشاذلي بن جديد، وسعى إلى تشكيل جمعية الإرشاد والإصلاح تكفلت بالجانت الاجتماعي والدعوة والعمل الخيري في ظل صراع الصحوة الإسلامية والنظام في الثمانينات، حتى تم إصدار دستور 1989 توجه نحناح إلى إعلان تاسيس حزب سياسي حمل مسمى «حركة المجتمع الإسلامي» وتم عقد أول مؤتمر للحركة في 29 مايو1991.مثل الإسلام وبيان نوفمبر 1954 المؤسس للدولة الجزائرية ، وكذلك الدستور الجزائري وقوانين الجمهورية وتراث الحركة الوطنية وجمعية العلماء المسلمين وتجارب الحركات الإصلاحية وما وصل إليه الفكر الإنساني من قيم وإنجازات حضارية وكذلك الرصيد الفكري والسياسي والتاريخي للحركة أهم مرجعيات الحركة وفقا لقانونها الأساسي، كما حُددت ثلاث وظائف رئيسية للحركة هي: الوظيفة التربوية والدعوية، والوظيفة الفكرية والسياسية، وأخيرا الوظيفة الاجتماعية والمجتمعية.
«3» حمس والمشاركة السياسية:
خاض إخوان الجزائر كافة الاستحقاقات السياسية في الجزائر لمدة تزيد عن عشرين عامًا وكانت نتائجها متفاوتة.المشاركة السياسية بكل أشكالها والانضمام إلى التحالفات والتكتلات السياسية هي أهم آليات الحركة التي حددها القانوني الأساسي لتحقيق أهدافها ووظائفها، ومن ثم سعت الحركة إلى خوض جميع الاستحقاقات السياسية التي أجريت في الجزائر منذ تأسيسها رافضة أن يكون دورها هامشيًا.منذ تأسيسها اتجهت الحركة إلى تبني ضرورة المشاركة السياسية في ظل إطار قانوني ودستوري أعطى لها هذا الحق، ومن ثم فقد تبنت سياسات وقرارات براجماتية بحتة فهي سعت إلى التقارب مع النظام الحاكم ومغازلته أحيانا وتجنب الصدام معه حتى ولو خرجت من المشهد بأقل الخسائر ،عملت على رفض العنف ونبذ الفكر الجهادي الداعي إلى السيطرة على الحكم والذي تزعمته حركة جبهة الإنقاذ ومجموعة مصطفى بويعلي من قبلهم، وحاولت الحركة تمييز طابعها بوصفها أنها تعتمد على ثلاثة مرتكزات فكرية هي الاعتدال والمشاركة والمرحلية.ففي الوقت الذي تصاعدت فيه حدة الخلاف بين النظام السياسي وحركة جبهة الإنقاذ بعد فوزها في الانتخابات التشريعية لعام 1991 والتي ألغيت نتائجها في العام التالي، وبناءً عليها تم حظر جبهة الإنقاذ مما دفع إلى النفير والجهاد ضد السلطة واندلعت حرب أهلية استمرت سنوات في الجزائر، عملت حركة حمس على السير على نهجها التقاربي مع السلطة فشاركت في تأسيس المجلس الوطني الانتقالي بخمسة أعضاء في 1994 مما دفع التيار السلفي إلى استهداف قيادات الحركة ومن بينهم بوسليماني.ففي حين شن النظام السياسي حربًا بلا هوادة على جبهة الإنقاذ الإسلامية بعد فوزها الساحق في الانتخابات البرلمانية، سمح لمرشح حركة حمس بخوض الانتخابات الرئاسية 1995 ليحل بالمركز الثاني، ودليل هذا أن النظام أدرك قوة الإسلاميين وصعودهم في الجزائر ومن ثم أدرك ضرورة الانفتاح عليهم، حتى يكسب النظام الشرعية السياسية، ومن ثم وجد في الحركة النموذج الإسلامي الأمثل فهو مهادن قابل للتفاوض والمساومة من أجل الحصول على مكاسب سياسية.استمر الانفتاح السياسي على الحركة كفرع معتدل مساوم للتيار الإسلامي، مع تعاظم براجماتية الحركة ومن ثم شاركت في الحكومة الجزائرية بوزيرين 1996، ثم شاركت بسبعة وزارء في العام التالي، ولكن كان لهذا الانفتاح سقفه لا يجوز للحركة تجاوزه وخوفًا من تحقيق انتصار سياسي كبير عملت السلطة على عرقلة ترشح نحناح لانتخابات الرئاسة المبكرة 1999، ومع هذا استمرت براجماتية الحركة المتصاعدة ودعمت في إطار ائتلافي مكون من جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة النهضة مرشح التوافق عبدالعزيز بوتفليقة.خلال فترة التسعينات بجانب سياستها التشاركية في الاستحقاقات الانتخابية سعت الحركة إلى لعب دور الوسيط في حل الأزمة القائمة آنذاك بين جهادي الجزائر والنظام ودعمت كافة المبادرات التي أطلقها النظام للمصالحة، ولكن غاية الحركة من الصعود السياسي لم يتحقق بشكل متسارع فبدأت تتراجع شعبيًا حيث حصلت في انتخابات 2002 على المركز الرابع كونها ظهرت كطرف أساسي داعم للمنظومة الحاكمة وهو ما تأكد بصيرورة الحركة عضوًا رئيسيًا في التحالف الرئاسي المكون في 2004.
«4» بداية الانحسار والتحول للمعارضة:
مع بدء الألفية الجديدة واجهت الحركة العديد من المتغيرات الذاتية والمحلية أدت إلى تراجع شعبيتها في الشارع الجزائري وهو ما عبرت عنه الانتخابات البرلمانية والمحلية في 2002، ومن بين تلك العوامل أحداث 11 سبتمبر والتي غيرت من خريطة القوى السياسية في الشرق الأوسطن ومن ثم فقدان القوى الإسلامية خاصة الدعم الدولي في مواجهة الأنظمة، كما كان لوفاة مرشد الحركة محفوظ نحناح في عام 2003 واختيار الشيخ أبو جرة سلطاني خلفًا له والذي وعد بالسير على نهج سابقه – تأثير أعمق على الحركة.رحل نحناح عن الحركة في ظل ما شهده الوطن العربي من تغييرات بالتدخل الأمريكي في العراق 2003 وتفاقم الصراع العربي الإسرائيلي في غزة وجنوب لبنان، في ظل شهود الوطن العربي تفاوتا من حيث التسامح مع التيار الديني سواءً في مصر أو في بلاد المغرب، لكن تبقى مغالاة سلطاني في براجماتيته ودعمه الكامل للرئيس الجزائري أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى بدء تشوه الحركة بالانشقاقات والصراعات الداخلية.الانشقاقات الداخلية بالحركة بدأت مبكرة منذ قبول سلطاني دعم بوتفليقة في 2004، وكان لاستمرار سياسات ومواقف سلطاني الداعمة لبوتفليقة والتعديلات الدستورية التي سمحت للرئيس بتمديد فترته في 2008 إلى انسحاب عبد المجيد مناصرة وانشقاقه من الحزب ليكوِّن بذلك حزبًا جديدًا تحت مسمى «الدعوة والتغيير» في عام 2009.تماهت الحركة في غياهب السياسة وقصور الحكم، فانصاعت لبراجماتيتها على حساب خطها الفكري والأيديولوجي حتى بات الموروث الأيديولوجي والدعوي للحركة لا يذكر بقدر موقفها السياسية من قضايا الإصلاح السياسي والدستوري والهيكلة الاقتصادية وسبل مواجهة الفساد، كما كان لتموقعها في الائتلاف الرئاسي – فقد واجهت النقد ذاته الذي وُجه للنظام نتيجة قصوره في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.الربيع العربي كما كان له تأثير أكبر على الجارتين تونس والمغرب بصعود تيار الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، أملت حمس في أن يصيبها بعض من نفحات الربيع العربي فراهنت عليه، ولكن أتت انتخابات 2012 بما لا تشتهي الحركة فقد حصد الحزب 48 مقعدًا من أصل 462 في الانتخابات التشريعية، ولم يفز إلا ب10 بلديات من أصل 1541 بلدية في الانتخابات المحلية من نفس العام.
«5» التحول إلى خط المعارضة …النفعية الجديدة
نتائج انتخابات 2012 التشريعية والمحلية، وصعود التيار الإسلامي في الوطن العربي كأحد مخرجات الربيع العربي، وتفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية في الجزائر، خاصة بعد تدهور صحة الرئيس بوتفليقة وما تبعه من محاولات للمؤامة السياسية لاختيار خليفته، أدرك إخوان الجزائر متأخرًا حجم تراجعهم الميداني وخسارتهم القاعدية من الجمهور الإسلامي والجزائري، وأن السبب الرئيسي في ذلك تموقعهم في دوائر النظام الحاكم. ومن ثم اتجهت الحركة إلى مراجعة مواقفها السياسية، وقامت في 2013 بإحداث تغيير هيكلي أتى بقيادة ترفض الاندماج في مواقع السلطة والنفوذ لتفضل خط المعارضة بقيادة عبدالرزاق مقري الذي عمل على الانضمام إلى «التنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي» وقام بمقاطعة الانتخابات الرئاسية في 2014 داعيًا إلى عدم ترشح بوتفليقة لفترة رئاسة رابعة، يأتي هذا التحول كنتيجة للشفل الذي مُني به الحزب ومن أجل إعادة ثقة الجمهور خاصة في ظل الأزمة السياسية التي يعيشها الجزائر مما يمثل مبدئًا نفعيًا وتخطيطًا تكتيكيًا لا معارضة حقيقية.وفي نفس العام أصدرت الحركة وثيقة معنونة «خطوات إصلاح الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد لتجاوز الأزمة الراهنة ومخاطرها» دعت فيها إلى حل الحكومة الجزائرية وتشكيل حكومة وفاق وإجراء انتخابات رئاسية، ولكن هذا الخط لم يستمر في حدته كثيرا حيث هدأ خطاب الحركة في 2015 بتبني مقري الحوار مع النظام والمعارضة للخروج من الأزمة السياسية وهو ما يمثل أن المبدأ الأساسي للحركة هو النفعية.تحول الحركة إلى خط المعارضة كان له التأثير الأكبر في تصدع حمس، فسرعان ما ظهرت مجموعة بقيادة جرة سلطاني لمعارضة توجهات الحركة الجديدة متمردًا على قرارات القيادة الجديدة وعمل على تمثيل الحركة في أكثر من مناسبة دون استشارة قيادات الحركة وهو ما جعل الصراع يخرج للعلن، وإعلان سلطاني نيته الترشح لرئاسة الحركة من جديد.
سيناريوهات مستقبل حمس:
محاولات إعادة بناء ثقة الجماهير عملية معقدة ولا يتم كسبها من خلال خطاب متناقض ونفعي حتى وإن كان معارضا، ولكن تتم من خلال سياسات وتحركات فعلية ومواقف سياسية فارقة في ذاكرة التاريخ، وبالرغم من أن التيار الإسلامي ما زال يمتلك القواعد الانتخابية التي تمكنه من حسم معارك انتخابية، ولكن هذه الكتل الانتخابية مفرقة أيضًا على عدد مختلف من القوى الإسلامية المتناثرة والمتناحرة.في ظل هذه الأجواء وفي ظل تحكم المؤسسة العسكرية الجزائرية في مجريات الحياة السياسية يمكن رصد ثلاثة سيناريوهات لمستقبل تيار الاعتدال هم كالآتي:السيناريو الأول: العودة إلى التوافقية مع النظام السياسي وهو ما يمكن أن يتم إذا ما استطاع تيار سلطاني الوصول إلى قيادة الحركة مرة أخرى من أجل تحقيق مكاسب انتخابية وهو ما سيتوقف على طبيعة النظام آنذاك.السيناريو الثاني: الاستمرار في خط المعارضة للنظام لكسب قواعد جماهيرية مع القطيعة مع النظام، وهو ما يحتاج إلى إعادة ترميم الحركة ونشاطها من جديد.السيناريو الثالث: الاستمرار في خط المعارضة مع عدم القطيعة مع النظام، وبالتالي قد تكون المعارضة هنا دعائية للحزب، وبالرغم من أن هذا الاختيار هو الأقرب إلا أنه سيواجهه إشكالية كيفية إعادة ثقة الجمهور به ولم شمل الحركة الإسلامية.