استقالة حمدوك: ندم أم مؤامرة لتكرار النموذج الليبي؟
وقع رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك في 21 نوفمبر/تشرين الثاني اتفاقًا مع الجيش لإعادته للحكم بعد قرارات عبد الفتاح البرهان التي اتخذها بإعلان حالة الطوارئ في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كان هذا التوقيع من رئيس الوزراء هو تخلٍّ صريح عن أحزاب الحرية والتغيير التي رشحته لهذا المنصب بعد الاتفاق السياسي الذي تم توقيعه في 2019.
لقد شعرت أحزاب الحرية والتغيير، لا سيما أحزاب اليسار، بالغدر من حمدوك، وكانت قد ظنت أن الموظف الدولي سيظل متمسكًا بالخيار الثوري «الانتحاري» حتى النهاية، لكن الموظف الدولي اتخذ قرارًا واقعيًا فوقّع على هذه الصفقة بكل شجاعة باعتبار موازين القوى جميعها بيد الجيش، وأن الضغوط الدولية قد لا تغير من قناعات العسكريين بإجراء ما يسمونه «تصحيح المسار». هذا كان موقفه المعلن، لكنه كان، فيما يبدو، يخطط مع آخرين لمشروع آخر.
لم تكن تلك نهاية الأزمة، فرغم الترحيب الدولي والأممي بالاتفاق السياسي انطلقت أحزاب الحرية والتغيير بمحاولات تصعيد الغرض منها التصدي لهذا الاتفاق على أمل إعادة إنتاج الشراكة التي كانت قائمة مع العسكريين. وهذا التصدي والمقاومة من أحزاب الحرية والتغيير أحدث حالة من الندم من قبل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي تعرض لموجة واسعة من التخوين والشيطنة من قبل المتظاهرين جعلته يهدد أكثر من مرة خلال الأسبوعين الماضيين بالاستقالة. فقد وُصف حمدوك من قبل قيادات هذه الأحزاب بالخيانة وأنه انقلابي دبر مسرحية وتم الترويج لدعوى أنه لم يكن معتقلًا أصلاً، بل كان مقيمًا في منزل البرهان.
ورغم محاولات حمدوك إثبات أنه ما زال مع هذه الأحزاب بإقالة من قام عبد الفتاح البرهان بتعيينهم من ولاة ووكلاء وزارة ومدراء بنوك وتحرير المعتقلين من هذه الأحزاب والتمسك بإشراك أحزاب الحرية والتغيير في الحكومة القادمة تحت مسمى تعيين كفاءات تكنوقراط، إلا أن أحزاب الحرية والتغيير تصر على رفض صفقة البرهان وحمدوك وتتمسك بلاءات ثلاث: لا تفاوض.. لا مشاركة.. لا حوار .
ندم حمدوك كما يبدو على صفقته مع الجيش كما ندم فاوست على صفقته مع الشيطان، وانتهى به الأمر مستقيلًا بخطاب تلفزيوني في الثاني من يناير/كانون الثاني، مقدمًا تبريرات غير مقنعة للاستقالة تشبه إلى حد كبير التبريرات التي ساقها من قبل لتوقيع الاتفاق السياسي مع الجيش في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
فهل كانت اتفاقية حمدوك الأولى صفقة فاوست، أم أنها كانت خطة دولية لتدويل الملف السوداني؟
صفقة فاوست
يحفل الأدب الألماني بقصة لطيفة عن طبيب ولاهوتي في القرن السادس عشر، يعرف باسم الدكتور يوهان فاوست، اتخذ مسلكًا بعيدًا عن الدين المسيحي نحو التنجيم والشعوذة حتى وصل إلى تعويذة استطاع من خلالها استدعاء الجن أمامه، وبعد أن ظهر له عفريت من الجن، طلب منه فاوست أن يكون خاضعًا له، وأن يعلمه جميع العلوم التي يعرفها. لكن العفريت قال لفاوست إنه سيستأذن إبليس، زعيم الشياطين. ثم عاد إليه وقال له: إبليس وافق أن يكون هذا العفريت خاضعًا لفاوست لكن بشروط، أولها أن تكون روح فاوست تحت رحمة إبليس، وأن يكتب ورقة هذه الصفقة بدمه، وأن يكون عدوًا للمسيح والمسيحية، وأن لا يتوب أبدًا، وإذا حاول ذلك فإن إبليس سوف يخطف روحه.
وافق فاوست على ذلك ليستمتع فاوست بالمعرفة الكلية، فيسافر إلى أنحاء العالم، هنغاريا وإسطنبول والقاهرة والمغرب وروما ومدريد وباريس، ويعود مرة أخرى إلى ألمانيا ويبهر الجميع بتصرفاته الخارقة سواء كان سليمان القانوني أو شارلمان وبابا الفاتيكان أو ملك فرنسا وقراصنة الجزائر.
ثم يبحث فاوست عن المتعة الحسية فيطلب من الشيطان أن يحضر له هيلين التي قامت بسببها حرب طروادة، فيغرم بها وينجب منها ولدًا يسميه جاستس. لكن فاوست يمل من هذا الوضع الذي هو عليه ويتمنى العودة إلى عهده القديم قبل التعاون مع الشياطين. ثم يشعر إبليس بذلك فيأتي إلى فاوست فيخبره أنه سوف يقبض روحه لأن مدة العهد بينهما انتهت، وهي قد كانت 24 عامًا فقط، وتنتهي هذه الليلة فيسارع فاوست للصلاة والتوبة قبل نهاية الليلة عندما سيأتي الشيطان ليخطف روحه.
«الاغتصابات» تحرج حمدوك
بعد سلسلة من الإدانات الدولية التي نالها الفريق عبد الفتاح من قبل الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا والمبعوث الأممي في السودان فولكر بيرتس، فإن هذه الدول رحبت بالاتفاق الذي وقعه عبد الله حمدوك مع البرهان ونظرت إليه بصورة برغماتية أنه محاولة لإنقاذ المرحلة الانتقالية، وهو ما رفضته أحزاب الحرية والتغيير كما أسلفت، ونظرت إليه كتخلٍ من قبل المجتمع الدولي عنها بعد أن كان شاهدًا على اتفاق 2019.
لجأت هذه الأحزاب للمظاهرات والمواكب الاحتجاجية، ما عرّضها إلى قمع الأجهزة الأمنية، وهو ما جر إدانات دولية كبرى، ولكنها أتت هذه المرة بينما ما زال حمدوك شريكًا في السلطة.
وكان خبر اغتصاب مجموعة من الناشطات في مظاهرات يوم 19 ديسمبر الماضي الذي أكدته الأمم المتحدة، إحراجًا كبيرًا لحمدوك، ما جعله يسرب خبر استقالته عبر رويترز حتى دون أن يخرج ليواسي المصابات أو أن يعِد بلجنة تحقيق في هذه المزاعم كما كان يفعل في السنوات الماضية مع انتهاكات قوات الشرطة.
الولايات المتحدة تهدد بالعقوبات
في ديسمبر/كانون الأول 2021، ورغم اتفاق البرهان-حمدوك التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة فيه عبر مساعدة وزير الخارجية للشؤون الإفريقية مولي في، قام أعضاء في الكونغرس الأمريكي في لجان الشؤون الخارجية بتمرير مشاريع قوانين للعقوبات على مهددي التحول الديمقراطي في السودان، وهي عقوبات موجهة إلى الجيش وإلى حلفائه من الحركات الموقعة على اتفاقات السلام. كان هذا السلوك غريبًا من الأمريكيين، ولكنه فيما يبدو كان جزءًا من خطة لصناعة هراوة لتهديد العسكريين.
لقد كانت الولايات المتحدة بإشرافها على إعادة حمدوك ترتب لاستقالته من جديد، ثم خلق «حوار وطني» برعاية الأمم المتحدة على غرار حوار الأمم المتحدة في ليبيا الذي أفرز فايز السراج ثم عبد الحميد الدبيبة، كما أفرز حربًا أهلية لا تتوقف في ليبيا حيث إن المنتصر في الحرب يتم منعه من الحسم، فمنعت الأمم المتحدة قوات المؤتمر الوطني من الإجهاز على قوات حفتر بينما كانت تتجمع في مطار بنغازي العسكري عام 2014، كما أنها منعت قوات حفتر من هزيمة حكومة الوفاق في 2020 بعد أن وصلت قواته إلى جزيرة الفرناج في قلب العاصمة الليبية طرابلس.
الولايات المتحدة تريد مرحلة انتقالية لا نهائية لأنها لا تملك حلفاء موثوقين إذا ما تم إجراء الانتخابات، وهذا هو ما تخطط له الأمم المتحدة ومبعوثها الدولي فولكر، حيث إنه يريد صناعة مجموعة من الدمى تحت اسم حكومة وفاق وطني ومعه مجلس رئاسي، ولا يراد إجراء أي انتخابات في الفترة القادمة.
مقترح أممي أم مؤامرة؟
صباح السبت، الثامن من يناير/كانون الثاني، نشرت صفحة بعثة الأمم المتحدة في السودان UNMIS دعوة قدمها السيد فولكر بيرتس، المبعوث الأممي، لحوار سوداني بتسهيل من الأمم المتحدة. ولم تمر دقائق على هذه الدعوة حتى قامت الخارجية الأمريكية بالترحيب بها، ثم من بعد ذلك خرج ترحيب من الخارجية المصرية، وأعقب ذلك بيانات ترحيب من مختلف الدول المهتمة بالملف السوداني.
لم يعلق أي طرف سوداني على الدعوة حتى المساء، عندما خرج ترحيب من المجلس السيادي، وترحيب بتحفظ من أحزاب الحرية والتغيير-المجلس المركزي. بينما انقسمت القوى السياسية خارج الحرية والتغيير بين مندد ومتحفظ على استدعاء الأمم المتحدة، باعتبار أن تدويل الأزمة السودانية لن يأتي بخير، واستدعاء لتاريخ أسود للأمم المتحدة في السودان.
الأمم المتحدة في الثمانينيات من القرن الماضي وبحجة مواجهة الجفاف، أقنعت رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي بتوزيع الإغاثة في مناطق سيطرة المتمردين، وكان هذا مدخلاً لتوفير الدعم والتسليح لحركة التمرد، وتحويلها من عصابة إلى تنظيم ضخم، وخلق حاضنة شعبية لها وسط الأهالي. وأما في قضية دارفور، فقد أصرت الأمم المتحدة على عدم استخدام الموانئ السودانية لإدخال الإغاثة بحجة بعد المسافة، ولكن في الحقيقة كان الهدف هو عدم تفتيشها من قبل السلطات السودانية أو حتى مراقبة هذه الشحنات واستفادة الاقتصاد السوداني من عوائد تمريرها.
ومن هنا تظهر الأدوار السياسية الخطيرة التي نفذتها الأمم المتحدة في السودان، وأنها منظمة لا تتمتع بأي حياد بل هي أداة من أدوات الولايات المتحدة الأمريكية لتفكيك السودان.