ترسانة حماس: كيف تحولت «النفايات» إلى صواريخ فتاكة؟
عندما كانت حماس في أوج حاجتها للسلاح، لم يجد المهندس الفلسطيني الشهيد يحيى عيّاش، الذي بدأ ينشط مع صفوف القسّام إبان الانتفاضة الأولى، بُدًا من استخدام عقليته الفذّة والتفكير خارج الصندوق لكي يساعد المقاومة في الحصول على السلاح ومناهضة الاحتلال الإسرائيلي.
يقول عبد الحكيم حنيتي، وهو أهو مؤسسي كتائب عز الدين القسّام، في لقاء تلفزيوني عام 2015: إن المهندس عيّاش كان يبحث في مكتبة جامعته (بيرزيت) عن المتفجرات، وأثناء بحثه وجد بحثًا كاملًا عن كيفية صناعة البارود، فأخذ ذلك البحث وترجمه إلى العربية وأدرك أنه يستطيع صناعة المتفجرات.
وبمساعدة بعض المجاهدين، كان من ضمنهم الشهيد علي عاصي، تمكن عيّاش من صناعة أول عبوة ناسفة عام 1992. لم تكن تلك «العبوة الناسفة» سوى أنبوبة غاز صغيرة، أو جرّة غاز كما يسمّيها الفلسطينيون، موصَّلة بتيار كهربائي. عندما انفجرت، عمّت الفرحة الأجواء وعانق الجميع بعضهم البعض. وحقيقةً حُقَّ لهم أن يطيروا فرحًا، فالتحول من الحجارة إلى العبوات الناسفة هو إنجاز بكل المقاييس.
من «قسام 1» إلى «عياش 250»
عقب ذلك الاختراع المحلي، لم تألُ المقاومة جهدًا في تصنيع المزيد والمزيد من الأسلحة والقنابل البدائية -آنذاك- التي أطلقوا عليها اسم «الكوع». وفي أعقاب الانتفاضة الثانية (عام 2000)، وبالتحديد في أكتوبر من عام 2001، أعلنت كتائب القسام عن أول صواريخها، «قسّام 1»، وكان مداه محدودًا بمسافة 3 كيلومترات فقط.
ودعونا نتوقف قليلًا عند صاروخ «قسّام 1» ذاك؛ لأنه على الرغم من مداه المتواضع، فإنه كان الصاروخ الأول الذي تَذَوق الاحتلال ويلاته، وذلك حينما استخدمته المقاومة لقصفت مدينة سديروت بقطاع غزة في 26 أكتوبر/ تشرين الأول من نفس ذلك عام، 2001، ثم خرجت ببيانها الموجّه للجماهير الفلسطينية: «نعاهد الله ثم نعاهدكم لنجعلن حياة الصهاينة جحيمًا.. إلى آخر البيان».
وكانت فكرة صاروخ «قسّام 1» من بنات أفكار الشهيدين «نضال فرحات» -استُشهِد أثناء تطويره لطائرة «أبابيل»- و«تيتو مسعود» اللذان اُغتيلا عام 2003.
في خلال العامين اللاحقين، واصل الجناح العسكري لحركة حماس تطويره لطراز صاروخ القسام ليكشف النقاب عن صاروخيّ «قسّام 2» -في 2002- و«قسّام 3» -في 2005- والذين وصل مداهما إلى 12 و17 كم على الترتيب. وكان «قسّام 3» هو أول صاروخ فلسطيني يطال عسقلان في ذلك الوقت.
وخلال معركة «العصف المأكول» التي حدثت في عام 2014، استهدفت كتائب المقاومة بصاروخ «سجّيل 55»، الذي يبلغ مداه 55كم، منطقة غوش دان، وهو ما شكَّل طفرة نوعية مقارنة بصاروخ «قسّام 3»، ولكنّ الطفرة النوعية بحق حدثت قبل ذلك بسنتين.
إذ خلال تصعيدات 2012 استخدمت كتائب القسّام صاروخًا بلغ مداه 80كم، أي أنه طال تل أبيب نفسها، وذلك ردًا على اغتيال رئيس الجناح العسكري للحركة أحمد الجعبري. عُرِف ذلك الصاروخ بـM-75 تيمنًا بالشهيد إبراهيم مقدامة. ولم تتوقف تطلعات المقاومة عند تل أبيب فقط، إذ طورت صاروخ R-160 -الذي يصل مداه إلى 160 مترًا- في عام 2014 على شرف الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي.
أُدخِل صاروخ «عياش 250» في الخدمة للمرة الأولى في عام 2021، تحديدًا في عملية «سيف القدس»، كما استخدمته المقاومة، أخيرًان في عملية «طوفان الأقصى»، وبعيدًا عن مداه الذي يصل إلى 250كم، فإنه يُمثل كابوسًا وأزمة حقيقيتين بالنسبة للإسرائيليين، إذ إن تكلفة اعتراض صاروخ واحدٍ من هذا الطراز محليّ الصنع يحتاج إلى نحو مليون دولار.
ومع ذلك، فإن كل الصواريخ المذكورة في كفة، وصاروخ «عيّاش 250» الذي أحيى ذكرى المهندس الشهيد يحيى عياش في كفة أخرى.
ما لذ وطاب من الأسلحة
بغض النظر عن الصواريخ محلية الصُنع، التي تفوق الصواريخ الواردة بالمناسبة إذ لا يتجاوز مدى أفضلها (صاروخ M302 السوري) 180 كم فقط، فإن القسّاميين يمتلكون ترسانة متنوعة من الأسلحة الفتاكة التي تفرض سؤالًا مُلحًا: من أين لهم هذا؟
قبل أن نُجيب على هذا السؤال، نود أن نُسلّط الضوء على بعض هذه الأسلحة أولًا، ويكفي أن نُلقي نظرة سريعة على تحليلٍ أجرته شبكة الـCNN لعشرات الصور والفيديوهات –على حد ذكرها- التي التُقِطت في العملية الأخيرة لنُصاب بالانبهار.
أظهرت الصور امتلاك المقاومة لسلاحٍ سوفيتي من طراز دوشكا عيار 0.50 ملم، وهذا السلاح من المفترض أنه مدفعٌ رشاشٍ ثقيل مُضاد للطائرات ويحتاج عادة إلى شخصين، أحدهما يُلقمه والآخر يُطلق النِيران، لاستخدامه. ولكن، بحسب رائد متقاعد في الجيش الأمريكي، فإن المقاومة قد عدّلته بحيث يناسب شخصًا واحدًا فقط يستخدمه على شاحنة صغيرة.
أيضًا، أظهرت عديد من الصور والفيديوهات وجود السلاح الآلي الغني عن التعريف ومحبوب الجماعات المسلحة، الكلاشينكوف AK- 47، الذي بحسب تقرير الـCNN ذاته، لم يسلم من تعديلات المقاومة هو الآخر، حيث أزالت منه بعض الإضافات لتجعله أخف وزنًا وأسهل من حيث الاستخدام.
وبعودة سريعة للصواريخ مرة أخرى، فإن حماس قد أغرقت القبة الحديدية -نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي الشهير- بما لا يقل عن الـ5 آلاف صاروخٍ لتكسر شوكتها مُجددًا بعد أن هزّت صورتها أمام العالم بقاذفات «الكاتيوشا» في أحداث 2021، وقتها -بالمناسبة- أطلقت حماس 400 صاروخ يوميًا على مدار 11 يومًا، أي 4 أضعاف متوسط الصواريخ اليومية المستخدمة في أحداث 2014.
ومن الصواريخ ننتقل إلى الطائرات المُسيّرة «الدرونز- Drones»، التي استخدمتها كتائب القسّام لإلقاء القنابل -وها هو شكلٌ آخر من أشكال الأسلحة- على أبراجٍ المراقبة والاتصالات الصهيونية، فضلًا على المراكز الحدودية، مما سمح لها بالاختراق البري والتوغل في الأراضي المحتلة كما رأينا في الفيديوهات.
ومن نفس تلك الفيديوهات أخذنا فكرة عن كيف تم التوغل بريًا، وأن ذلك التوغل لم يكن ليتم بالأساس لولا عدة أسلحة وأدوات، منها البسيطة مثل الطائرات الشراعية و«البلدوزر» الذي انقض على السياج، ومنها المعقدة مثل المذكورة أعلاه، ومثل الطوربيدات المائية!
من أين للقسّام كل هذا؟
سؤالٌ يفرض نفسه، إذ كيف لقطاع صغير -مساحته 360كم2– فقير في الموارد، مُكتظٌ بالسكان، مُحاصر جوًا وبرًا وبحرًا منذ أكثر من 15 عامًا أن يحصل على كل هذه الأسلحة؟ فإن غضضنا الطرف عن الأسلحة المُصنّعة محليًا وافترضنا جُزافًا أن جميع الصواريخ مصنوعة من نترات البوتاسيوم والسكر وبعض المواسير، فكيف دخلت الأسلحة «المستوردة» والمواد الخام اللازمة لتصنيع هذه الأسلحة إلى القطاع؟
تكمن الإجابة المختصرة التي يعرفها الجميع في عنوان تقرير آخر نشرته الـCNN، وهي -الإجابة: مزيج من العمل والحيلة ومتبرع من الخارج، في إشارة إلى إيران. وبحسب أحد قادة وحدة التصنيع العسكري بالقسّام، والمعروف بالاسم الحركي «أبو إبراهيم»، فإنهم يحصلون على السلاح من مئات وآلاف الكيلومترات من البر والبحر مُتخطين القواعد العسكري وجميع العوائق التي فرضها الاحتلال لسنوات طويلة.
إعادة التدوير والعامل الإيراني
لا بد وأن تقرير الـCNN قصد بالبراعة قدرات المقاومة على إعادة تدوير سلاح العدو واستخدامه ضدهم؛ فالقساميون يستفيدون من القذائف والصواريخ الإسرائيلية التي لا تنفجر ويعيدون تدويرها واستخدامها في صواريخ حديثة ليدكوا بها أصحابها الصهاينة أنفسهم.
يقول «أبو إبراهيم»: إن الأمر بدأ بجمع الذخائر الإسرائيلية (نفايات الحرب) من بين المنازل والمزارع كونها تمثل خطرًا مباشرًا على حياة السكان والمزارعين، ومع استمرار الأمر، تكدّست ذخائر كثيرة ومتنوعة لدى المقاومين في سلاح الهندسة.
ويُكمِل قائدٌ آخر في سلاح الهندسة، «أبو سلمان»، ويقول: بعد حرب 2014، بدأ المقاتلون بسلاح الهندسة يستفيدون من الذخائر المنتشرة بالقطاع، مثل القنابل والألغام والقذائف، ويستخرجون منها المواد المتفجرة التي تجاوزت شدة بعضها مادة الـT.N.T المستخدمة في الديناميت.
ويتابع «أبو سلمان» نصًا: «شكلّنا لجنة من المهندسين المختصين وكانت استراتيجيتنا للتعامل مع هذه الذخائر هي إعادة التدوير لها والاستفادة الأمثل من كافة أجزائها. كان المنطلق هنا: لا بد من تحويل هذه الأزمة إلى فرصة».
وُيعزز أحمد فؤاد الخطيب، في مقاله المنشور عام 2021 بمنتدى فكرة التابع لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، من كلام المقاومة قائلًا: عندما تعرضت بُنية غزة التحتية لغارات الإسرائيليين الجوية، فإن ما تبقى من صفائح وأنابيب معدنية وحديد تسليح وأسلاك كهربائية، انتهى به المطاف في ورش أسلحة حماس ليُشكَّل كأنابيب صواريخ أو عبوات ناسفة.
من جانبه، قال بلال صعب، مدير برنامج الدفاع والسياسات الأمنية بمعهد الشرق الأوسط، إن بنية أنفاق حماس التحتية لا تزال ضخمة رُغم المحاولات المستمرة لتدميرها.
وبحسب تقارير دولية فإن حماس تعتمد على شبكة الأنفاق اعتمادًا كليًا للحصول على مختلف الأسلحة والصواريخ مثل «فجر-3»، و«فجر-5»، و«M-302».
وبعودة أخيرة للأسلحة المحلية، سنجد أن حماس أصبحت تمتلك مصانع لكل شيء –وفقًا للقيادي في حركة حماس علي بركة- للصواريخ بمختلف مداها، ولمدافع الهاون وقذائفها، ولرشاشات الكلاشينكوف وطلقاتها التي يُصنّعونها بإذن من الروس أنفسهم.. لا بد وأن يحيى عيّاش فخورٌ الآن!
وفي إشارة لتعلق المقاومة بالسلاح ورغبتهم الجامحة في التخلص من المُحتل، يحكي عبد الحكيم حنيتي أن الشهيد عماد عقل عندما أُعطي «بندقة M-16» وطلب منه الشيخ صالح العاروري (نائب رئيس المكتب السياسي لحماس) ألّا يستخدمها وينتظر صفقة السلاح التي كانوا على وشك استلامها، لم يستطع الشهيد أن يصبر واستخدمها في اليوم اللاحق ضد جنود الاحتلال.
ويتابع، كان السلاح عزيزًا لدرجة أن عماد عقل كان يمسك بالكلاشينكوف ويقبله قائلًا: «هذا جاهد اليهود، هذا قاوم المحتل، هذا قتل من المحتلين، هذا حبيبي».