حدوته مصرية: السينما من النشأة إلى النضج
عندما بدأت في كتابة المقالين كان الغرض الأساسى التأريخ لتطور السينما المصرية كأسلوب وتقنية لكنني وجدت الصورة النهائية ربطا مباشرا بين الواقع الاجتماعي والسياسي لمصر وبين تطور السينما. فأي مراقب لحياة الأمم يربط بشكل مباشر بين قيمة الفن فيها وبين تطورها. وكذلك الحال بالنسبة لمصر مع السينما؛ بداية من السينما الصامتة قصيرة العمر في مصر، مرورا بإرهاصات البدايات، ثم الثورة وما لحقها من تغير اجتماعي، ثم الهزيمة، والسادات حتى بداية الألفينيات. وقد فضلت ترك فترة ما بعد الألفينيات أو السينما الجديدة لحديث آخر.
وعلى الرغم من أن مصر قد احتفلت في بداية الألفية بمرور 100 عام على صناعة السينما في مصر، فإن بإمكاننا اعتبار أول فيلم مصري حقيقي تم إنتاجه هو فيلم «ليلى» 1927 من إخراج ستيفان روستى، وبطولة عزيزة أمير.
تلاه فيلم «زينب» 1930 عن رواية دكتور محمد حسين هيكل، وإخراج محمد كريم، حيث كان من الرعيل الأول من المخرجين المتعلمين بالخارج. حقق الفيلم نجاحا كبيرا فكان بداية حقيقية للسينما المصرية. يدور الفيلم في الريف المصري، وتم تصويره بالكامل في مشاهد خارجية لخلاء مصر وقتها من الستوديوهات. تعتبر تلك بداية طيبة للأفلام الواقعية -أي الأفلام المملوءة بالمشاهد الخارجية حيث تنقل قصصا أكثر ارتباطا بعموم الناس- في مصر.
قدم أحمد جلال فيلم «شجرة الدر» كأول فيلم تاريخي مصري من إنتاج لوتس فيلم التي أنشأتها آسيا مشاركة مع ماري كويني..
ثم جاء فيلم «الوردة البيضاء» 1933 على قدر ليغير تاريخ السينما المصرية. كان أول بطولة لمحمد عبد الوهاب، ومن إخراج محمد كريم، عن قصة غادة الكاميليا. قدما أحد أنجح الأفلام الغنائية حيث غنى فيه عبد الوهاب 8 أغنيات أشهرها «جفنه علم الغزل» للشاعر اللبناني بشارة الخوري.
حقق الفيلم ربع مليون جنيه أرباح وأحدث أثرا طويلا في صناعة السينما منها زيادة عدد المشاهدين الذين تأثروا بظهور مطرب بحجم عبد الوهاب، فأصبحت السينما ملتقى لأفراد العائلة. وكسبت السينما نسبة لا بأس بها من الأميين. انتشرت دور السينما في عدد من الأقاليم. ظهرت المجلات السينمائية واتجه عدد كبير من نجوم المسرح لأدوار السينما.
زاد الإقبال على الفيلم العربى. بدأ ظهور الفيلم المصرى في عدد من الدول العربية أهمها سوريا. وأخيرا تقرر إنشاء ستوديوهات للتصوير أهمها ستوديو مصر. كان أول إنتاج ستوديو مصر هو فيلم «وداد» لأم كلثوم؛ وحقق الفيلم نجاحا جماهيريا أعقبه عدة أفلام لأم كلثوم مثل «نشيد الأمل» و«دنانير». و شارك الفيلم في مهرجان أوروبى لأول مرة..
في هذه الفترة بدأ ظهور نجمات جديدة للسينما مثل ليلى مراد في فيلم «ليلى» مع حسين صدقي. ربما يكون أهم أفلام هذه الحقبة هو فيلم «العزيمة» 1939 لكاتبه ومخرجه كمال سليم. ويدور الفيلم في حارة مصرية على غير عادة أفلام تلك الفترة. يعتبره عديد من النقاد لذلك بداية للسينما الواقعية في مصر.
تم وضع الفيلم كأهم فيلم في تاريخ السينما المصرية ضمن قائمة ال 100 التي أعدها النقاد نظرا لأهميته في تطور السينما. قدم كمال سليم عددا من الأفلام قبل أن يتوفى في 1945 في سن ال 30 من عمره. واعتبره بعض النقاد الأوروبيين واحدا من أهم مخرجي السينما في التاريخ.
بعد الحرب العالمية الثانية ظهر ما يسمى بأفلام ما بعد الحرب.. كانت تميل للفكاهة و المونولوج مع ضعف فى السيناريو .. حققت هذه الأفلام أرباح كبيرة شجعت ما يسمى بأغنياء الحرب على دخول مجال الإنتاج السينمائي.
شهدت هذه المرحلة ظهور أنور وجدي كسينمائى بعد فترة طويلة في المسرح. وقدم عددا من الأفلام كممثل ومخرج ومنتج أهمها «غزل البنات» مع ليلى مراد ونجيب الريحاني. حققت أفلامه أرباحا طيبة ومستوى فنيا جيدا.
بشكل عام سيطرت الميلودرامية والغنائية على سينما هذه الفترة. تأثرت أفلامها بالأفلام الأمريكية، وسيطرت المسرحية على أسلوب التمثيل ويرجع هذا لأن عددا كبير من نجوم هذه الفترة كانوا مسرحيين في الأساس. وكأي إرهاصات جاءت أفلام هذه الفترة سطحية في السرد، وضعيفة في التقنية؛ ولكنها أنباءت بسطوع نجم في الأفق.
يميز هذه الفترة ظهور عدد لا بأس به من المخرجين الذين غيروا تاريخ السينما:بعد 1952.. ظلت أوضاع السينما لا تختلف كثيرا عن فترة ما قبلها. سيطر أغنياء الحرب على سوق الإنتاج وقدموا أفلاما ضعيفة المستوى، مع بزوغ نجم إسماعيل ياسين كنجم الكوميديا الأول مقدما سلسلة من الأفلام حملت اسمه.
ظهر صلاح أبو سيف مقدما مجموعة من الأفلام الواقعية أهمها: الوحش – الفتوة – ريا وسكينة. تميزت أفلامه بالمستوى الراقى وارتباطها بما يدور في العقل الجمعى للمجتمع.
وكان يوسف شاهين على موعد مع القدر.. البداية كانت مع «ابن النيل» ولكنه لم ينل التقدير الكافي. جاء بعده «صراع في الوادى» مكتشفا موهبة عمر الشريف. أحسن النقاد والجماهير استقبال الفيلم. تم تصويره في الأقصر. وهو يناقش مشكلة الإقطاع وسيطرة أصحاب الأرض على حقوق البشر. يحتوي الفيلم على مشهد زواج على طريقة أهل الأقصر، فكانت صورة مميزة للواقعية السينمائية.
النقلة النوعية مع يوسف كانت في فيلم «باب الحديد»، مقنعا المنتج أنه فيلم يدور حول تعري هند رستم. وانتقل الاقتناع لجماهير السينما فكانت مأساة عريضة ونادرة تاريخية .. تم تكسير السينما وفشل الفيلم فشلا مخيبا للآمال.
يدور الفيلم حول قناوي القادم من الصعيد مصابا بعرج جسدي وروحي يمنعه من أن يعيش طبيعيا. يعمل كموزع جرائد في محطة مصر التي كان يطلق عليها قديما باب الحديد. يقع في حب هنومة فتاة الكازوزا التي لا تريد كسر خاطره لكنها لا تأخذه بالتأكيد على محمل الجد. عندما يكتشف أنها على علاقة بالشيّال (فريد شوقي)، تتفجر مشاعر الكراهية بداخله ويقرر قتلها.. بالتأكيد كلنا شاهدنا مشهد النهاية الأسطوري..
على الرغم من القصة الميلودرامية يمكن وضع الفيلم في خانة الأفلام الواقعية. فهناك مشهد السيدة النسوية –المدافعة عن حقوق المرأة– ونظرتها الهزيلة لرجل صعيدي يسحب زوجته خلفه. وهناك مشهد الشيال (فريد شوقي) محاولا إقناع عموم الشيالين بعمل نقابة تضمن حقوقهم؛ بالإضافة لتصوير الفيلم داخل المحطة بشكل بديع وجديد على السينما المصرية. أثناء تصوير الفيلم جالس يوسف أهل المحطة من الشيالين وخلافه ليقف على حقيقة حياتهم ويجيد تصويرها.
يقول شاهين عن الفيلم أنه لا يمثل قناوى العاجز الذي يلفظه المجتمع؛ لكنه يمثل العاجز بداخلنا كلنا بشكل أو بأخر. حمل التمثيل الكثير من الواقعية في الأداء. حتى سيناريو الفيلم، ظهرت فيه جمل حوارية جديدة على السينما المصرية. نلاحظ في تلك الفترة تأثر شاهين بالسينما الواقعية الإيطالية خصوصا دي سيكا.
ثالث مخرجي هذه الفترة هو عاطف سالم مع فيلم «الحرمان» و«جعلوني مجرما». يتحدث الفيلم الثاني عن كيفية نشوء المجرم وكيف يتطور من الفتى البريء ليصبح سفاحا. الفيلم واجه سخط النقاد لأنه –حسب قولهم– يقدم الدافع لنا لنتعاطف مع المجرم! ثالث أفلامه كان «إحنا التلامذة» وقدم فيه قصة ثلاثة من الشباب وانحرافهم في حياة المدينة؛ وأثار الفيلم ضجة كبيرة وقتها.
ختم سالم رباعيته بفيلم «أم العيال» مقدما فيه تحية كاريوكا وعماد حمدي في دور الأب والأم في بيت مليء بالأبناء. يقدم الفيلم رؤية لطيفة لأسرة متوسطة المستوى وكيف تواجه المجتمع المتغير حولها.
صاحب بداية الستينات هبوط شديد في قيمة الفيلم المصرى مع عدد كبير من الأفلام متواضعة المستوى، مما دفع الدولة لأن تدخل مجال الإنتاج السينمائي، وكانت خطوة كبيرة، وإن كانت مثيرة للأسف في البداية لأن الأفلام المنتجة كانت ضعيفة المستوى لا تليق بإنتاج القطاع العام. لكن الوضع تغير بالتدريج فجاء فيلم «الناصر صلاح الدين» كعلامة في تاريخ السينما المصرية لينقلها للعالمية.
الفيلم إنتاج مشترك بين آسيا والهيئة العامة للسينما وإخراج يوسف شاهين وبطولة عدد كبير من النجوم. أكثر ما يميز الفيلم بجانب المعارك الضخمة حسن إدارة شاهين للمجاميع، فسارت المشاهد بديناميكية شديدة دون ابتذال أو هزلية. أشك أن لدينا حاليا القدرة على إنتاج فيلم بهذا الحجم. بشكل عام كانت هذه الفترة من السينما هي فترة الإنتاج الضخم في السينما العالمية فشاهدنا: Ben-Hur – The ten commandments – Spartacus. وبدون تحيز يقف فيلم الناصر وسط هذه الأفلام على نفس المستوى، وفي ظنى أنه يفوقهم.
شهدت هذه الفترة إنتاج مشترك بين الهيئة العامة للسينما و شركات إنتاج إيطالية، ولكنها كانت تجربة فاشلة للأسف.
بشكل عام شهدت السينما المصرية فى الستينات إنتاج درر الأفلام:
فهناك حسين كمال وبدايته المثيرة مع فيلم «المستحيل» قصة مصطفى محمود، وبطولة كمال الشناوى ونادية لطفى. الفيلم يدور في إطار نفسي جديد على السينما المصرية يذكرنا بأفلام بيرجمان الخمسيناتية، حول رجل غير سعيد بزواجه يقابل جارته المتزوجة الغير سعيدة بزواجها أيضا، وينشأ صراع داخلى عند كليهما هل يكملوا هذه العلاقة أم ماذا؟!
عاب النقاد على الفيلم ميله الشديد للتفلسف. وكانت هذه بداية حسين كمال، ليتحفنا بعدها بدرره: «ثرثرة فوق النيل» عن قصة نجيب محفوظ. بعدها فيلم «البوسطجي» لشكري سرحان وقصة يحيى حقي، «شيء من الخوف»، «الحقيقة أني أحب هذا الرجل».
تستمر مسيرة الستينات مع أفلام من فئة: «القاهرة 30» لصلاح أبو سيف عن رواية «القاهرة الجديدة» لنجيب محفوظ، و«السمان والخريف» لحسام الدين مصطفى، «الحرام» لصلاح أبو سيف عن رواية يوسف إدريس وصولا إلى «الأرض» 1970 ليوسف شاهين عن رواية عبد الرحمن الشرقاوى وبطولة محمود المليجي. يدور الفيلم عن قرية في دلتا مصر يستغل الباشا الإقطاعي علاقته بالدولة وجهل الناس ليقوم بعمل طريق يصل سرايته بالطريق العمومى مارا بأرض الفلاحين.
يستمر الصراع طوال الفيلم بين إرادة الباشا والفلاحين وينتهي بنهايته الشهيرة التي شاهدناها جميعا. يظهر تميز المليجي دائما في أفلام شاهين؛ وهو التميز الذي استمر على مدى السبعينات في فيلم «الاختيار» و«اسكندرية ليه». من منا يستطيع أن ينسى مشهده «كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة» في الأرض أو استقباله لعلي في «عودة الابن الضال»؟
وجود مخرجين بهذه القوة صاحبه تغير ملحوظ في شكل وقيمة كتابة السيناريو، خصوصا بعد دخول الكتاب الروائيين مثل نجيب محفوظ. مجال الكتابة السينمائية لم يصاحبه تطور في تقنية التصوير أو الموسيقى التي ظلت بنفس أسلوبها القديم الخمسيناتي؛ وكان علينا انتظار جيل أكاديمية السينما لنشهد هذا كما سنرى في المقال القادم إن شاء الله.