غولن وحركته: حداثة علمانية بطعم الإسلام!
منذ سنوات يحظى التركي فتح الله غولن باهتمام كبير دفعت إليه مجريات الصراع – المتصاعد باضطراد – بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، صراع وصل إلى قمته مع محاولة الانقلاب العسكري الفاشل (يوليو/تموز 2016). ووسط سيل الكتابات التي حظى بها غولن وحركته يعد كتاب: «نحو تنوير إسلامي: حركة فتح الله غولن» لحاقان يافوز (ترجمة: شكري مجاهد)، أهم ما تُرجم إلى العربية في موضوعه.
وقد نال الكتاب تقديراً كبيراً من المخصصين، فوصفته أسما أفسارودين (رئيس قسم لغات الشرق الأدنى بجامعة إنديانا الأمريكية) بأنه: «كتاب مهم لكل من يرغب في معرفة حالة الإسلام في تركيا»، ووصفه خوسيه كازانوفا (أستاذ علم الاجتماع، زميل مركز بيركلي للسلام والشئون الدولية) بالعرض الثري المتوازن الذي يراعي السياق الذي توجد فيه عملية «الحركة الإسلامية الإيمانية لتتحول إلى حداثة علمانية».
والكتاب ثمرة ملاحظة طويلة استمرت 10 أعوام، ولقاءات مع عديدين، والكاتب التقى غولن عدة مرات، ونظم مؤتمراً عن الحركة في جامعة جورج تاون (2001). وأصدر الكاتب قبله كتابًا عن حركة غولن بالاشتراك مع المستشرق المعروف جون أسبوزيتو، وضم أعمال المؤتمر المشار إليه.
التنوير الإسلامي
الكتاب بحجمه الكبير (384 صفحة من القطع الكبير) يتناول الكثير جداً من القضايا وبه كم كبير من المعلومات. وفي المقدمة التي تحمل عنوان: «التنوير الإسلامي» يحدد المؤلف ما يعنيه في الكتاب بـ «التنوير» قائلاً إن التنوير له جانبان: «استخدام العقل الناقد وإنشاء مجتمع مفتوح متقدم. وهو عملية استخدام العقل الفردي لإعادة تأويل التراث الديني والثقافي بغرض تقدم المجتمع» (ص 12).
وأحد الخلاصات الرئيسة في الكتاب أن فتح الله غولن أحد أهم مشاريع المواءمة بين الدين والحداثة عبر «التنوير الإسلامي». وقد قال غولن في تعريف حركته (رابطة الخدمة) بأنها حركة: «تضع مـُـــثـــُلها بنفسها (حركة لا تحتاج لأن ترجع إلى عصر ذهبي بحثاً عن مـُـــثـــُــل) … حركة أناس تجمعوا حول قيم إنسانية عليا» (ص19).
وتتعرض الحركة لانتقادات أبرزها ارتباطها الشديد وتوافقها مع الأنظمة الشمولية في آسيا الوسطى. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فالحركة معروفة بحملاتها الواسعة للحوار بين الأديان والتسامح. وهكذا «تكتنف حركة غولن هالة من الغموض والسرية، وكأن لها أمام الناظرين وجهين متناقضين: ليبرالية فردية وجماعية عالمية جاذبة وتطهرية إقصائية مصدراً للأمل والخوف معًا» (ص20).
وفي مقارنة مهمة ودقيقة يكشف المؤلف حقيقة الصلة المزعومة بين الرؤية الفكرية للنورسي وغولن. وقد أصدر النورسيون، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، بياناً يتبرؤن فيه من غولن. يقول يافوز: «كان الفوز في الآخرة هم النورسي الأكبر، أما غولن فكان يرى أن الإقبال على الآخرة وإدارة الظهر لشئون الدنيا كان ذريعة صوفية قديمة، وأداة من أدوات الخوف تستخدم لزرع الطاعة والسلبية في المتدينين من جهة التخب السياسية والاجتماعية الاقتصادية».
كان النورسي يعتقد أن هدف البشر الأسمى هو تحقيق الخلاص بالإخلاص أو السلوك الأخلاقي الراقي الذي يرضي الله. أما عند غولن فالهدف ألصق بالدنيا، وهو تحقيق النجاح السياسي والاقتصادي، حتى يمكن تشكيل المجتمعات والدول الإسلامية المعاصرة، فتتمكن من التعامل الناجح مع متطلبات الحداثة وروحها التنافسية دون نبذ الإيمان. وكانت رسالة النورسي خدمة الرسالة القرآنية ونشرها. أما غولن فيريد تحقيق الرفاه والنجاح الرفاه والنجاح في هذا العالم.
وتختلف استراتيجيات الرجلين في تحقيق ما أراد، فالنورسي يهتم بمفهوم الإيمان والوعي الإسلامي، ويهتم غولن بالعمل والانضباط والإنجاز والتكيف مع الظروف الحديثة. وينتقد النورسي أي حركة تعلي من شأن القوة والمصلحة والسعي إلى السيطرة على مجريات المجتمع، فالقرآن يجعل «الحق والصدق» مكان القوة. ويضع الفضيلة مكان المصلحة. والتكافل والبر مكان الصراع. يتضح من هذا أن حركة غولن المعاصرة لم تعد تطوراً طبيعياً للحركة النورسية، بل حركة أكثر حداثة وديناميكية تتمحور حول الحداثة والنجاح الدنيوي، وهي حركة علمانية تعيد طرح الإسلام ليسيطر على مصادر السلطة الدنيوية» (ص 44).
وفي خلاصة شديدة الأهمية يقول حاقان يافوز إن فتح الله غولن يسعى إلى: «إظهار توافق الأفكار الدينية مع المجتمع المعاصر، عن طريق إعادة تأويلها في سياق الخطاب العالمي لحقوق الإنسان والحداثة. ويذكرنا تأويله للنورسي وللقرآن بأن المجتمع يضع كل ‹معنى› للدين. أي أن المعنى يتوقف على موقع المؤول والمستمع وارتباطاتهما وخبراتهما التاريخية» (ص89).
ما يعني أن «المخلوق» هو من يحدد مراد «الخالق»!
المكان سياق الجغرافيا والأفكار
من القضايا المهمة التي تعرض لها حاقان يافوز ولم يعطها ما تستحق من أهمية كونها أحد المفاتيح الرئيسة لمعرفة غولن والكيفية التي تطورت بها رؤيته الفكرية بدءًا مما يمكن اعتباره «نقطة الارتكاز»، وأعني بذلك السياق الجغرافي لنشأته وتأثيراتها الفكرية العميقة فيه. وقد ولد غولن ونضج فكرياً في منطقة ذات خصوصية تركت بصماتها في فكر الرجل.
ففي الأماكن التي تقع عند نقاط التلاقي/ الصدام بين التشكيلات الحضارية والدينية والعرقية الكبيرة. ويطلق الدكتور عبد الوهاب المسيري على الظاهرة مصطلح: «الحدودية والهامشية». وفي هذه المناطق – غالباً – تحتفي الوسطية الفكرية ويتسم الفكر بأحد سمتين متعارضتين: الإفراط الشديد أو التفريط الشديد.
ومع الفارق، يعد المفكر الإسلامي الباكستاني المعروف أبو الأعلى المودوي أحد أشهر نماذج تأثر الفكر بنشأة صاحبه في منطقة صدام بين مغايرين، ويرى كثير من دارسي الحركات الإسلامية أن السبب الرئيس في تطرف المودودي نشأته في أجواء الصراع الهندوسي / الإسلامي في شبه القارة الهندية. وبسبب نشأة غولن في منطقة التقاء الإمبراطوريات: العثمانية والفارسية والروسية، وتعرضها للاحتلال الأجنبي عدة مرات كان لديه قناعة كبيرة بأهمية «الدولة» لـ «الدين».
وفتح الله غولن – من هذه الزاوية –هو نتاج النشأة في إرزوروم، يقول يافوز: «ولد غولن عام 1941 في قرية أناضولية صغيرة تسمى كوركوك في مقاطعة إرزوروم» (ص36). ويكشف يافوز جانباً من التقلبات الحادة التي شهدتها المنطقة في إطار الصراعات الكبيرة التي خاضتها الدولة العثمانية، والسمات التي تركتها في بنية غولن العقلية والنفسية. يقول: «كانت إرزوروم في ما سبق الحد الشرقي للإمبراطورية العثمانية، وكانت منطقة صراع كثيف بين الإمبراطوريات: الروسية والإيرانية والعثمانية … وصارت المدينة وما حولها مركزاً لصراع عرقي ديني طويل» ( ص37 – 38).
ويصل حاقان يافوز إلى الاستنتاج الأكثر أهمية إذ يقول: «ونتيجة لهذه التجربة التاريخية يشعر سكان إرزوروم أن الدين لا يمكن أن يبقى إذا لم تكن الدولة قادرة على حمايته. باختصار هذه الظروف الحدودية أدت إلى الشعور بأن وجود دولة قوية وجيش قوي لا غنى عنه لبقاء المسلمين والمجتمع الإسلامي. من هنا كان مفهوم غولن للإسلام مرتبطاً بفكرة القومية والوطن الواحد» (ص40).
«وبرغم تعرضها للاضطهاد على يد المؤسسة البيروقراطية العسكرية الكمالية، فقد اتخذت جماعة غولن منظوراً قومياً للدولة يتمحور حول الأمن كرد فعلٍ لتنامي الصراع المجتمعي. يبرز هذا اهتمام غولن الأول بتجنب الفوضى وتفتيت الدولة والمجتمع … يدافع غولن عن الدولة بوصفها المؤسسة المركزية التي تحمي المجتمع» (ص51). و«لا يمكن اعتبار مفهوم غولن عن السياسة تحررياً، لأنه يقدم الجماعة والدولة على الحقوق الفردية» (ص87).
ومن ناحية أخرى يرصد المؤلف تأثيراً مهماً للمكان في أفكار أهله بالقول: «وكذلك فإن عدم وجود حكم استعماري مباشر في الأناضول جعل الفكر السياسي التركي (العلماني والإسلامي) غير مشوب بردود أفعال معادية للغرب بالدرجة التي يمكن وجودها في دول إسلامية أخرى» (ص26).