«غييرمو ديل تورو» وعكس حكايات ما قبل النوم
في ليلة من الليالي عقد ولد صغير اتفاقًا مع خاله. كانا يتحدثان كثيرًا عن الأشباح والقصص المرعبة، وفجأة وهما جالسان في غرفة الخال (الذي اعتاد أن يمكث معهما) اقترح الولد أنه يجب على منْ يموت أولًا منهما أن يعود ويُخبِر الآخر عن الحياة ما بعد الموت: كيف هي؟ وماذا يحدث هناك؟
بعد موت الخال ورث الولد الصغير غرفته، وفي مرة كان وحيدًا داخلها سمع تنهيدة أحس فيها الحزن. الولد الصغير كان معتادًا على القصص القوطية وأفلام الرعب والوحوش، وهكذا بدأ في البحث والتحقيق؛ ضغط على الوسادة وتفحص النوافذ. لم يجد شيئًا، لكنّه لاحظ أن التنهيدة الحزينة كانت تتبعه. في النهاية، وضع الولد أذنه على المرتبة، كانت التنهيدة الحزينة تتحرك بالداخل وتصدر صوتًا حين تصطدم في زنبرك المرتبة. في تلك اللحظة اكتشف الولد أن صوت التنهيدة يشبه صوت خاله. تملّكه الفزع وجرى هربًا من الغرفة. يقول الولد إنه لم ينم في هذه الغرفة بعدها، وأيضًا لم يسمع صوت خاله مرةً أخرى.
كان الولد في الحادية عشرة ربما أو أكبر قليلًا، وكان اسمه «غييرمو ديل تورو».
ما الإنسان؟ وما الشبح؟ وما الوحش؟
الآن، لا يوجد اسم مخرج معاصر يرتبط اسمه بالأشباح والوحوش وقصص الجنيّات مثل ديل تورو. مثلما يُخلِص كريستوفر نولان للحبكات المعقدة واللعب بالزمن، ويُخلِص تارانتينو للدم والأقدام، يُخلِص ديل تورو لأشباحه ومخلوقاته الغريبة، في طريقة تصويرهم وعرضهم؛ يُصمِّم بنفسه مظهرهم فيملأ كراسات رسم ومذكرات بالملاحظات والإسكتشات، ويتعاون عن قرب مع فناني المؤثرات (امتلك ديل تورو لفترة شركة لتصميم الوحوش والخدع البصرية للأفلام)، لكنّه لم يتوقّف عند ذلك، إنه أيضًا مخلص، وهذا هو الأهم، لطريقة معينة يتناولهم بها في أفلامه.
في البدء، كنّا نتلقّى الحكايا في السرير قبل النوم. قُدَّم لنا أشخاص يشبهوننا (أبطال وشجعان، يبدو فيهم الكمال) واعتدنا أن نُلحِقهم لذلك بمعسكر الخير. أمّا الأشياء القبيحة التي لم تكن تشبهنا، هذه «المسوخ والأشباح والوحوش» كنّا نُلصقها بسرعة ودون تردد على حائط الشر. ثم كبرنا نحمل من الطفولة أشياءً، وقابلنا قصصًا أخرى، في الكتب أو على الشاشة. والآن كلما رأينا شبحًا أو مسخًا أو ربما شيئًا لا نعرف كُنهه نفكّر فيهم على أنهم الأشرار، على الناحية الأخرى البشر هم الطيبون، وبين هذا وذلك خطٌ فاصل.
ديل تورو لا يفكّر بهذه الطريقة. ومن المثير للاهتمام كيف أنه تقريبًا، ومنذ البدايات، «يعكس» ذلك في عوالمه الفانتازية. إن شخصيات الوحوش والأشباح والمسوخ تمثل عنده الجانب الطيب بينما الشر مُتجذّر في شخصيات البشر العاديين، كما لو كان ديل تورو يستمتع بجرنا إلى فخ التسرّع والحكم الخاطئ كل مرة. ثم يدمر توقعاتنا، فيجعل من الإنسان وحشًا، ومن الوحش إنسانًا. لكنّه قبل أن يفعل ذلك، يُجرِّد شخصياته ومخلوقاته من الوصف.
بالنسبة له، صفات الخير والشر، ومصطلحات الشبح والإنسان والوحش، تُوضع غير متصلة بشيء في فقاعة في بداية الفيلم، وعبر الوقت والمعرفة، يسمح لنا باستخدامها. لا يفرض علينا ديل تورو وجهة نظره مباشرةً، إنه ينثر في أفلامه الأسئلة. ما الإنسان؟ ما الشبح؟ ما الوحش؟ وما الذي يمكن فعله كي لا ينقلب الإنسان إلى وحش، أو حتى يصير الوحش إنسانًا؟ وقبل أن يجاوبنا، عبر ثيمات تتكرر باستمرار، وتفاصيل صغيرة واستعارات، نكون أنفسنا قد عرفنا الإجابة.
الخيار هو ما يجعل الإنسان إنسانًا
في أول أفلام ديل تورو، كرونوس (Cronos 1993)، الضارب بجذوره في عالم فاوست، حيث ينجح أحد العلماء في صناعة جهاز يوفّر الأبدية والصحة لمستخدمه (كرونوس هو اسم إله الوقت في الميثولوجيا الإغريقية)، مع وجود ثمن فادح بالمقابل، وهو تحوّل ذلك المستخدم إلى مصّاص دماء.
من السهل هنا ملاحظة أن الجهاز في وضع سلبي دائمًا، وأن البشر هُم منْ «يختارون» استخدامه. العجوز «خيسوس جريس» الذي يطلُّ علينا من نافذة عاديته في بداية الفيلم، يمتلك مخزنًا للتحف ويلعب مع حفيدته الحجلة، لكن حين وقع الجهاز في يده واستخدمه بإرادته للمرة الأولى نجده ينحدر إلى غياهب الشر.
هذا الانحدار الذي يبرزه ديل تورو بصريًا فيُصوِّر جريس ينزلق أسفل درجات سلّم. بينما حفيدته، التي لا تزال تنعم ببراءة طفولتها، تنظر إليه من أعلى. لقد عقد صفقته مع الشيطان، أغوته القوة التي يمنحها الجهاز، فلم يمانع أن يلحس الدم بلسانه عن أرضية أحد الحمّامات أو يواجه وحده عائلة قوية لأجل الاحتفاظ بها. لم يعد ذلك الرجل العادي الذي بدأنا معه، أصبح شيئًا آخر، ليس إنسانًا.
بهذه الأسئلة يبدأ ديل تورو فيلمه فتى الجحيم (Hellboy 2004). هانك، الأحمر، الضخم ذو القرون، هو العكس من الرجل العادي؛ مخلوق لا يشبه البشر في الشكل ويأتي من عالم آخر، لكن بسبب وقوعه في يد البروفيسور «بروم»، يصبح بطلًا خارقًا يحمي البشرية من قوى مظلمة.
وبرغم ذلك يلاقي استغلالًا سيئًا من عملاء الحكومة المسئولين عنه فيبقونه مُختبئًا وبعيدًا عن الأنظار، وحين يخرج إلى البشر ينعتونه بالقبح ويسخرون منه. في هذا الفيلم وفي الجزء الثاني منه (Hellboy II: The Golden Army 2008) يتم تذكير هانك في كل خطوة يخطوها أنه ليس بشريًا ولن يقدر أبدًا أن ينتمي إليهم، وأن منْ يحميهم لا يهتمون لأمره، وأن قدره هو جلب الخراب والظلام إلى الأرض، ومع هذا، يختار ألّا يكون كذلك، يختار أن يرفض أن يكون ما هو مُقدّر له.
كانت هذه هي إجابة ديل تورو على الأسئلة السابقة، ففي كرونوس، خيسوس جريس (وتعني بالإسبانية رمادي) كان عنده خيار أن يتخلّص من الجهاز، ومرة بعد مرة فشل في فعل ذلك، حتى كان على وشك أن يؤذي حفيدته، وعندها تذكّر إنسانيته فحطّم الجهاز. خيسوس جريس مثل اسمه، رمادي، لون مكون من الأبيض والأسود، وهذا ليس شيئًا سيئًا طالما أنه اختار أن يقترب من الأبيض في النهاية، ويموت على سريره موتة هادئة قابضًا على أيادي منْ يحب.
«الشيء الوحيد الذي يستحق الكتابة عنه هو القلب البشري في صراعه مع نفسه». هذا ما يخبرنا به الكاتب الأمريكي «وليام فوكنر»، وديل تورو يدرك هذا حقًا. إنها ثيمة تتكرر في أفلامه. بالطبع لن يكون الأمر بذي قيمة إذا كان الخيار سهلًا من البداية، لكن مهما كان الخيار صعبًا ومهما ارتكب المرء من أخطاء، ستكون هناك دائمًا فرصة كي يُصحِّح المرء من نفسه، وأن يتذكر ما هو عليه؛ إنسانيته.
الشبح «الذي يتنهد»
بعد سنوات من لقائه مع شبح خاله، أخرج ديل تورو فيلم الرعب القوطي «العمود الفقري للشيطان» (The Devil’s Backbone 2001)، وتدور أحداثه في ملجأ أيتام على خلفية الحرب الأهلية الإسبانية. كارلوس، ولد صغير قُتل أبوه في المقاومة ضد جيش فرانكو، يصل وافدًا إلى الدار، فيسمع الأطفال يتحدثون عن شبح يسمونه «الذي يتنهَّد» (في إشارة واضحة من ديل تورو إلى خاله). الكبار بالطبع لا يصدقونهم، بينما نحن، الجمهور، نجلس خائفين والشبح يُظهِر نفسه مرة بعد مرة.
إننا وقد ورثنا إرث أفلام الرعب، تدق قلوبنا أمام أي مختبئ يظهر فجأة، يُحرّك الستارة، يسكب إناء الماء، أو يطرق الباب على كارلوس الخائف المُكوّم في خزانة. لماذا نفعل هذا؟ لأننا لا نعرف القصة كاملةً، فنستخدم خبرتنا السابقة مع الأشباح، بالضبط كما كان كارلوس لا يعرف فأبقى الباب مغلقًا أمام طرقات الشبح، الذي يتضح أنه شبح طفل صغير اسمه «سانتي»، يعتقد الأطفال أنه قد هرب بينما في الحقيقة ترقد جثته في خزان مياه أرضي في الملجأ. لقد كان شبح الطفل يحاول الحصول على العدالة من قاتله: المتهور «خاسينتو»، وفي الوقت نفسه يحاول تحذير أطفال الملجأ من الدمار القادم.
قرب النهاية، وفي مشهد مؤثر، يُقرِّر كارلوس ألّا يجري هربًا: «أريد أن أتحدّث معك»، يقول كارلوس. هكذا يقدّم ديل تورو اعتذاره الرقيق لشبح خاله الميت، لأنه جرى خائفًا حينما سمع صوت التنهيدة. هو يعتذر، لأنه لم يكن يعرف، والآن لأنه يعرف، قرر البقاء.
الأشباح ليست أشباحًا فقط، إنها استعارة. هذا ما تُكرِّره «إديث كوشينج» الشخصية الرئيسية في فيلم «القمة القرمزية» (Crimson Peak 2015) فيلم آخر لديل تورو يحافظ على ثيمة الأشباح كخطايا الماضي أو دوائره التي لم تنغلق، وثيمة البشر كالأشرار.
تقع «إديث» في فخ حاكه حولها الأخ والأخت توماس ولوسيل شارب، وسرعان ما نعرف أن الأشباح بأطرافها الطويلة (السوداء بسبب الكوليرا في حالة الأم الميتة والدموية في حالة ضحايا لوسيل وتوماس) كانت تحذّر إديث من الخطر طوال الوقت.
في الفيلم، المتأثر بشدة بأفلام هيتشكوك، مشهدٌ مشابه لمشهد المواجهة بين كارلوس وسانتي في فيلم «العمود الفقري للشيطان»، تقرر فيه إديث ألّا تهرب وأن تسألها عمّا تريد، مُجددًا إشارة إلى مقابلته الشبحية مع خاله.
طبقًا لكاتب القصة الأمريكي «جورج سوندرز»، فالقصة قد تكون عن تغيّر شخصية من حالة إلى حالة، لكن قد تكون أيضًا عن فشلها في هذا التغير وبقائها كما هي. حين يقرأ توماس الرواية التي تكتبها إديث ويسألها عمّا يحدث للشخصية بها، تخبره أن هذا كله يعود للشخصية، لأن كل شيء خيارها، هي تختار ما تريد أن تكون عليه. مثله مثل خايمي، الطفل المتنمر الذي يتحول لصديق البطل، في فيلم «العمود الفقري للشيطان»، يختار توماس، الذي لمسه حُب إديث، أن يُصحِّح الشر الذي اقترفته يداه، على العكس من لوسيل وخاسينتو، اللذين يفشلان في التغير.
لكن ماذا عنّا نحن الجمهور؟ ألا يمكن أن يحدث لنا تغيّر مشابه؟ يخضع أيضًا لاختيارنا؟ أعتقد أن الإجابة هي نعم. إننا أيضًا نتعرض لنوع من الانتقال: من الخوف من الأشباح والحكم المسبّق عليها إلى عدم الخوف منها والرغبة في معرفة قصتها. الشبح هنا هو استعارة عن سوء الفهم. سيظهر هنا سؤال: ماذا سيحدث لو لم نتغيّر؟ أظن الإجابة في هذه الحالة واضحة عند لوسيل وخاسينتو. في النهاية يُشار إليهما كليهما بالوحش.
كل شرير سجين جدران بناها بنفسه
لقد كان ديل تورو، بالإضافة إلى نشأته الكاثوليكية الصارمة، يتعرض كثيرًا للتنمر في صغره، وهكذا التمس في حكايات الفانتازيا وأفلام الرعب والوحوش ملاذًا دافئًا، حيث رآها تحفل بالجمال والعاطفة، وبسذاجة اعتقد أن الجميع يرون هذا. وبالطبع كانت مفاجأة له حين وجد أن أفلام الرعب والوحوش والفانتازيا تُعامل كنوع أدنى من الأفلام غالبًا لا يحتوي على أي قيمة جمالية أو فكرية، ويُنظَر لجمهورها على أنه جمهور من الدرجة الثانية. تلك القصص التي أنقذته وهذه الكائنات الغريبة التي هي أقرب أصدقائه، بدا وكأنها تُوضع في مهب الريح.
يقول الكاتب الأرجنتيني «خورخي لويس بورخيس» إنه في طفولته لم يكن يعتقد بوجود الأشرار وذلك لأنه لم يكن يخرج من المنزل. شخصية البطل عند ديل تورو ينطبق عليها هذا الاقتباس. فهي إمّا طفل أو شاب لا يزال عالقًا في طفولته، بريئًا وأخضر كأوراق الشجر، يُدفع خارج المنزل، بسبب فقدان الأب ومن ثَمَّ الحماية التي كان يوفّرها، فيصير مُجبرًا على مواجهة الأشرار، وعن طريق هذه المواجهة، يكتسب مكانه من العالم.
في فيلم «متاهة إله الحقول» (Pan’s Labyrinth 2006)، الفيلم الذي يمحو الخط الفاصل بين ما هو فانتازي وما هو حقيقي، يعود ديل تورو إلى إسبانيا فرانكو ما بعد الحرب الأهلية. أوفيليا، بنت مات أبوها، وتزوجت أمها بالكابتن فيدال، الضابط في الكتائب. تنتقل أوفيليا وأمها الحامل إلى جوار فيدال في مكان بالقرب من الغابات، هناك تدلّها حشرة عبر متاهة إلى «إله الحقول»، الذي بدوره يُخبرها أنها الأميرة الضائعة لمملكة العالم السفلي، وأنه بعد ثلاثة اختبارات، سيتسنى لها العودة إلى هناك.
النمط نفسه يتكرر في فيلم «شكل الماء» (The Shape of Water 2017)، تعمل «إليزا إسبوزيتو» كعاملة نظافة في أحد المعامل السرية. إنها بكماء، وجدوها رضيعةً جوار النهر وبرقبتها خدوش ظاهرة، يشد انتباهها مخلوق غريب يشبه الأسماك (يُسميه ديل تورو «الرجل البرمائي»)، اكتشفه الكولونيل «ستريكلاند» في أمريكا الجنوبية، ومن ثَمَّ جلبه إلى المعمل، مقيّد ومحبوس ويخضع للاختبار. سرعان ما تقع إليزا في حب الرجل البرمائي، ثم تحاول أن تطلق سراحه.
هكذا تقابل إليزا وأوفيليا، في سعيهما، الوحش الحقيقي.
إذا كنّا نتحدث عن فيلم عادي في زمن الخمسينيات، لنقل مثلًا (The Creature from The Black Lagoon 1954) أو شيئًا من هذا القبيل، كانت شخصية الوحش لتكون «إله الحقول»، بأرجله الغريبة وقرونه المخيفة، أو «الرجل البرمائي»، بزعانفه وصوته المروّع (وقد كان حقًا في الفيلم المذكور). لكنّهما هنا دليلان في الحياة الجديدة (بالضبط كما كان سانتي وكما كانت الأشباح في القمة القرمزية)، يساعد كلاً منهما الشخصية الرئيسية في سعيها ومواجهتها للوحش الحقيقي: كابتن فيدال في حالة أوفيليا، وكولونيل ستريكلاند في حالة إليزا، واللذان يظهران لنظرتنا الأولى، كبشر كاملين من ناحية الشكل، مغمورين بالثقة التامة في صحة طريقتهم في الحياة وعلى استعداد لبذل كل شيء في سبيل إثبات ذلك.
لكنهما متحجرا القلب، قاسيان، ونادرًا ما يُظهران مشاعر (حتى الشعور بالألم كأنه يأتي من وراء جدار)، يليقُ شرّهم بأفلام الكارتون وروايات الفانتازيا المتأثرة بـ «تولكين»، شر لا نهائي، وملتصق بهما إلى النهاية. لقد حددا خياراتهما منذ وقت طويل ولا وقت لمراجعتها.
في هذين الفيلمين، وكأفلامه الأخرى، يقدّم ديل تورو دفاعًا قويًا عن نوعية الأفلام التي أحبّها صغيرًا ضد «شر» الحكم المُسبّق. فبينما يحافظ تورو على إطار قصصي فانتازي يبدو طفوليًا وغير قابل للتصديق على الورق، فهو أيضًا، يُقدَّم عبر سينما متقنة ومذهلة بصريًا وثيمات معقدّة، يخلق عالمًا لا نستطيع تخيّل عدم وجوده. فيه يمكن لنا، نحن الجمهور، رؤية الجمال والتأثر بتلك العاطفة التي أحسّها صغيرًا.
إن ديل تورو هنا على مستوى من «الميتا»، هو الطفل الصغير يلائمه اقتباس بورخيس، بدلًا من أن يستجيب للشر المتمثل في الافتراضات الظالمة المتعلقة بالفن الراقي والفن الهابط، يتمسّك أكثر بوحوشه وأشباحه، بهذه الأفلام وهذه القصص. ديل تورو، وهو مُخرج نوعي بالأساس (Genre Director)، يحتضن روح أفلام النوع ويرسل تحيته الخاصة لها (Homage) ثم يلعب تنويعته الخاصة عليها، طاردًا بذلك رؤيتنا القاصرة، وفاتحًا باب السجن إلى احتمالات رائعة.
ليس كل البشر عند ديل تورو أشرارًا، لكن كل شرير سجين جدران بناها بنفسه، تروما (عند خاسينتو أو لوسيل) أو إرث معين (عند فيدال وستريكلاند)، يخيّم على أنفاسهم ويُملي عليهم حركاتهم، لنتائج كارثية. إنهم يشبهوننا، ولا شك أننا، بشكل ما، سجناء مثلهم. فكل واحد فينا لديه شياطينه الخاصة، التي ينبغي عليه مواجهتها، عن طريق التمسّك بقيم الخير والجمال أينما وجدناه.
في حياتنا التي نعرفها، وعلى حد علمي، لا توجد أشباح أو وحوش بالمعنى الحرفي للكلمة. هناك فقط الإنسان. وبما أن وعائي الأشباح والوحوش فارغان، فالإنسان يملأ فراغهما. فيتحرك تارة كشبح، وتارة كوحش، وتارة كإنسان. وفي كل مرة هو اختيارنا، بينما نشاهد فيلمًا لديل تورو تومض هذه الحقيقة في رؤوسنا.
إن قصص ديل تورو هي حكايات قبل النوم، لكنّها مضادة لما اعتدنا تلقّيه، كما لو أنه بذلك يستعيدها من سلطة ظالمة، فتُعيد تشكيل رؤيتنا لما حولنا. إنها كبسولة من التعاطف الوجداني، تحفل بإيماءات متكررة إلى معاناة المختلف والغريب أمام أحكامنا المتسرعة والكلمات والأفعال المسببة للأذى. حكاياته انتصار لهم، أولئك الذين يحملون غرابتهم على جلدهم ويشعرون دائمًا بعدم انتمائهم. إنها، بشكل ما، أذرع مفتوحة للفهم والتعاطف، يأمل ديل تورو أن نحملها بعد الفيلم معنا إلى العالم، العالم الذي لا يوجد فيه غيرنا.