لا تنخدع بأرقام الحكومة: دليلك لمعرفة واقع الاقتصاد المصري
في مؤتمر إعلان نتائج بحث الدخل والإنفاق، اعتلى أحد مسئولي الجهاز المنصة وأخذ يسرد الأرقام على عجل، قائلاً: ارتفع استهلاك المصريين بنسبة 46.6 بالمائة في 2018 مقارنة بـ 2015. افتتاحية مبشرة، ارتفاع الاستهلاك يعني بالتبعية ارتفاع مستوى المعيشة، فالاستهلاك هنا لا يشمل الطعام فقط ولكن الملبس والمسكن وكذلك الخدمات الصحية والتعليمية والترفيهية وغيرها الكثير. أنهى الرجل الوقور عرضه وترك مكانه لإحدى أساتذة الإحصاء المرموقين فإذا هي تفاجئ الجميع بالحقيقة التي تناقض ما قاله صاحبنا للتو: ارتفاع معدل الفقر في مصر إلى 32.5 بالمائة في 2018 مقابل 27.8 بالمائة في 2015.
لابد إذن من وجود تلاعب في الأرقام يستدعي قراءة أكثر عمقًا وصدقًا لهذه البيانات، من أجل مراجعة موضوعية لما يسمى بالإصلاح الاقتصادي في مصر.
عرض مسئول الجهاز قيم الاستهلاك بالأسعار الجارية وليست الحقيقية، بمعنى أن هذه الزيادة في قيمة الاستهلاك كانت ناتجة عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات في الاقتصاد، أما الاستهلاك الفعلي فقد تراجع بنسبة 8 بالمائة.
تمتد هذه الملاحظة لمعظم بنود الاستهلاك الفرعية، كالطعام والشراب والصحة والملبس والانتقالات وغيرها، كما يتضح من الشكل التالي.
إلا أن بند المسكن على وجه التحديد يتميز بوضع خاص، فبالرغم من ارتفاع نصيب الفرد من الإنفاق على المسكن ومستلزماته، إلا أنه انخفض بشكل واضح فيما يتعلق بالإنفاق على الأثاث والتجهيزات والمعدات المنزلية وأعمال الصيانة. وهو ما يعكس حقيقة أنه في ظل أزمة عقارية تجلت ملامحها في ارتفاع واضح في الإيجارات وأسعار الوحدات السكنية، أصبح هم عدد كبير من المصريين هو الحصول على مجرد أربعة جدران تأويهم بغض النظر عن جودة تجهيز ذلك المسكن.
الفقر والسمنة وجهان لعملة واحدة
أما عن الطعام والشراب، فقد تراجع الإنفاق عليهما بنسبة 16 بالمائة، وتعد ديناميكيات هذا التغير كاشفة عما حل بالمصريين خلال الفترة الماضية. فقد انخفض استهلاك المصريين من كل من اللحوم والأسماك والفاكهة والألبان والجبن والبيض بشكل جوهري، في المقابل ارتفع استهلاكهم لسلع محدودة القيمة الغذائية كالحبوب والخبز، الزيوت والدهون، السكر والأغذية السكرية كمصادر رخيصة للسعرات الحرارية، والنتيجة هي السمنة المفرطة التي أصبحت تمثل تهديدًا مباشرًا لصحة المصريين وتعرضهم للانزلاق في دائرة خبيثة من الفقر المادي المستند إلى سوء التغذية.
فالسمنة المفرطة وتوابعها من الأمراض المتنوعة، أو الهزال والضعف وفقر الدم، سيؤديان إلى عدم القدرة على العمل بطاقة كاملة، ومن ثم عدم جني ما يكفي من المال لشراء طعام صحي للبالغين وللأطفال الناشئين، وهو ما يؤدي إلى مزيد من سوء التغذية والسمنة وعدم القدرة على العمل، وهكذا تستمر هذه الدائرة الخبيثة دون انقطاع.
عندما يجتمع سوء التغذية من ناحية وانخفاض الإنفاق على الصحة من ناحية أخرى، فلا عجب إذن من كون مصر واحدة من 36 دولة على مستوى العالم يتركز فيها 90 بالمائة من عبء سوء التغذية العالمي والذي يتسبب في وفيات ثلثي الأطفال بهذه البلاد.
باتت السمنة المفرطة، أو الهزال الشديد، صورًا معتادة في حياة المصريين للدرجة التي دفعت رئيس الجمهورية شخصيًا إلى انتقاد ارتفاع معدلات البدانة مؤكدًا على ضرورة ممارسة الرياضة، دون أي إشارة من قريب أو بعيد إلى حالة الفقر التي تسببت فيها السياسات الحكومية.
تؤكد اليونيسف أن سوء التغذية كان سببًا في بدانة 14.2 بالمائة من الأطفال دون سن الخامسة في مصر، كما أنها تتسبب أيضًا في تقزم وأنيميا 21 و 27 بالمائة من الأطفال في نفس الفئة العمرية.
حضر أكثر فقرًا: عندما يغيب التضامن الاجتماعي عن مدن مصر
أدى تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016، بالتوازي مع تحرير أسعار الطاقة إلى موجة تضخمية ضربت الاقتصاد المصري، إلا أن تأثير هذه الموجة على المصريين كان متفاوتًا بحسب دخل كل منهم. تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن ارتفاع أسعار الغذاء كانت محركًا رئيسيًا لمعدل التضخم الذي وصل إلى 32 بالمائة في الأشهر الأولى من 2017.
وقد كانت الأسر الأكثر فقرًا هي الأشد تضررًا من معدلات التضخم المرتفعة، حيث يحتل الإنفاق على الطعام والشراب 50% من إجمالي إنفاق الفرد في الشريحة الأقل دخلاً في المجتمع، في المقابل يمثل الإنفاق على الطعام والشراب 25% فقط من إجمالي إنفاق الفرد في الشريحة الأعلى دخلاً.
يعتمد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء على الاستهلاك كمؤشر لمستوى معيشة المصريين، وهو الأساس الذي يتم احتساب معدلات الفقر بناءً عليه نظرًا لصعوبة حصر دخول المواطنين الحقيقة بشكل مباشر، وهو الحال في معظم دول العالم النامي التي لا تمتلك قواعد بيانات دقيقة عن دخول مواطنيها نظرًا لغلبة الاقتصاد غير الرسمي.
ومن ثم فإن أي تغيرات سعرية من شأنها التأثير بشكل مباشر على الاستهلاك ومن ثم معدلات الفقر في مصر، إلا أن وجود نوع من التضامن الاجتماعي وتبادل المساعدات العينية والمادية من شأنه التخفيف من أثر ارتفاع معدلات التضخم على الاستهلاك، وهو ما حدث بالفعل في ريف مصر، حيث ساهم وجود روابط اجتماعية قوية من ناحية وتشابه طبيعة الأنشطة الاقتصادية من ناحية أخرى إلى تقديم الدعم المتبادل في فترة شديدة الصعوبة، ومن ثم تحسين عدالة التوزيع التي لولاها لكانت معدلات الفقر أكثر ارتفاعًا كما هو الحال بالنسبة للمدن، التي اجتمع عليها انخفاض الاستهلاك وعدم عدالة التوزيع في الوقت نفسه كما يتضح من الجدول التالي.
المزيد من تركز الثروة وسوء التوزيع
افتقدت الدولة المصرية القدرة على تحقيق تنمية جغرافية متوازنة لعقود طويلة، كان صعيد مصر هو الأقل حظًا دائمًا نظرًا لبعده عن العاصمة التي تتركز فيها معظم الاستثمارات ويُخلق فيها جُل الوظائف، وهي حقيقة دفعت معظم الجمعيات الأهلية والمؤسسات الدولية العاملة في مجال التنمية إلى التركيز بشكل شبه حصري على الوجه القبلي خلال السنوات القليلة الماضية، في ظل غياب التنسيق وضعف دور الدولة كمخطط ومنظم لعمل هذه الجهات.
كانت النتيجة تراجع معدل الفقر في جميع محافظات الوجه القبلي باستثناء أسيوط. لا يعني هذا أن الصورة أصبحت وردية في الوجه القبلي، فما زال أكثر من ثلثي السكان في محافظتي أسيوط وسوهاج على سبيل المثال يعانون تحت خط الفقر.
في المقابل، يعد النمو الاقتصادي الذي تشهده مصر منذ 2014 غير عادل بطبيعته، نمو مدفوع بقطاعات غير إنتاجية ضعيفة الآثار التوزيعية، وهو ما أدى إلى نمو ثروات عدد محدود من المصريين وفقًا لتقرير كريدي سويس عن الثروة في العالم في الوقت الذي يزداد فيه الفقراء فقرًا.
كشفت بيانات مسح الدخل والإنفاق عن حراك اجتماعي سلبي في مصر خلال السنوات الأربع الأخيرة، أصبح الأغنياء أكثر ثروة وأقل عددًا، في المقابل تراجعت نسبة من ينتمون إلى الطبقة الوسطى وارتفعت نسب الفقر بشكل واضح كما في الشكل التالي، وهي نتيجة طبيعية لسياسات اقتصادية واجتماعية جائرة، لا تعطي اعتبارًا لضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية، وخفض نسب الفقر لا مفاقمتها.