دليلك لتقييم «مصطفى محمد» دون الحاجة إلى «حسام حسن»
يمكن اعتبار بطولة كأس الأمم الأفريقية لعام 2006 بالقاهرة، هي قبلة الحياة للعبة داخل مصر المحروسة. منها انتشر شغف الكرة ليسكن قلوب الجميع، أطفال ونساء، قبل أن يتضاعف في أفئدة عشاقها الأصليين من الرجال والشباب.
حينها شاء القدر، أو لعبت الصدفة دورًا، أو كان مُدبرًا أن تشهد تلك البطولة وجود آخر من استأثر لنفسه بحب الجماهير، كمهاجم تاريخي للفراعنة، وهو «حسام حسن»، في اللحظة التي يظهر فيها جيل جديد من المهاجمين بقميص المنتخب المصري، مشهد خيالي أشبه بتسليم وتسلم الراية بين القادة.
لكن يبدو، وفي مشهد خيالي مختلف، أن ماردًا قد بدا للمصرين في أفقٍ من الخيال خلال أحداث تلك البطولة أو ما قبلها، وأتاح لهم فرصة تمني وابل من الأمنيات. وبتعجل مصري مُعتاد، يبدو أننا أهدرنا معظم أمنياتنا الكروية خلال 4 سنوات فقط.
وبعيدًا عن أمنيات المجد والإنجازات والبطولة، فإن رحيل حسام حسن كان شاعريًا بدرجة جعلت جزءًا كبيرًا من أمنياتنا يُستحوذ عليه لصالح أمنية تعويض ذلك الهداف التاريخي بلاعب يملأ ذلك الفراغ الضخم. فرزقنا الله بسلسلة من المهاجمين بدأت من «متعب» و«ميدو» و«عمرو زكي» واستمرت حتى بلغت «ناجي جدو».
كان الإعلان عن موعد بطولة أمم أفريقيا في الفترة من 2006:2010 إنما هو إعلان عن ميلاد نسخة جديدة من مهاجم مصري فريد. حتى نضب البحر. أو هكذا ظننا. إلى أن جاءت فرصة مصر مرة أخرى لاستضافة أمم أفريقيا، لكن هذه المرة للشباب تحت 23 عامًا، وهنا اكتشفنا أن القدر قد خبأ لنا أمنية بين طيات الزمان.
تسلم الراية منذ الصغر
انتهت بطولة أمم أفريقيا لعام 2010 بغانا، وكان محمد ناجي جدو بطلها الأهم والذي ظننا أن من بعده لن تُرسل السماء لمصر مهاجمين بتلك النوعية من جديد، لا سيما بانخفاض نجم جدو نفسه سريعًا. لكن وبعد ذلك بعام واحد فقط، قررت أكاديمية وادي دجلة الاستغناء عن ناشئ يلعب في مركز المهاجم اسمه «مصطفى محمد».
بدأ ذلك المهاجم الشاب حياته كلاعب لفريق مزارع دينا قبل الانتقال لوادي دجلة. وخلال عامين، لم يكتشف مدربو الأكاديمية في دجلة ما يمكن التنقيب عنه في موهبته، فتمت التضحية به في عمر 13 عامًا، ليقرر من بعدها خوض رحلة الاختبارات في قطاعات ناشئي الأندية الأخرى، وكان للزمالك نصيب في أن يتم قبوله بين صفوفه.
تدرج في الأعمار السنية حتى وصل الفريق الأول عام 2016، في ولاية المهاجم السابق لمنتخب مصر، أحمد حسام ميدو، وأحد من تسلموا راية القيادة من جيل حسام حسن في عام 2006. لم يحتاج ميدو إلا ساعتين فقط منذ توليه مهمة تدريب الفريق الأول بالزمالك، قبل أن يقرر استدعاء المهاجم الشاب للانضمام للتدريبات.
تقابل مهاجم توتنهام السابق مع مصطفى محمد قبل ذلك بعامين تقريبًا، وقت أن قرر مدرب الناشئين «مدحت عبد الهادي» استغلال قوة الشاب البدنية وعنفوانه وسرعته في أن يكون ظهيرًا أيمن لفريق الشباب بالزمالك. حين ذلك كان ميدو رئيسًا لقطاع الناشئين، فتقدم إليه مصطفى بطلب ليعود إلى مركزه المفضل كرأس حربة.
مهاجم يسجل أهدافًا
كانت فكرة المدرب مدحت عبد الهادي في وضع مصطفى في هذا المركز، أن الفريق يملك بالفعل وفرة عددية في خط الهجوم، بـ4 رؤوس حربة تقريبًا. وهي مشكلة كانت عامة في كل قطاعات الناشئين بمصر. مشكلة كثرة عددية، واهتمام بالكم وليس الكيف، فجاء مُصطفى ليُغير كُل ذلك.
كل ما كانت تحتاجه مصر منذ فترة طويلة جدًا، هي معادلة بسيطة للغاية، مهاجم يستطيع تسجيل الأهداف، فقط لا غير. يمكنه تسجيل الأهداف من فرص بسيطة وألا يحتاج الأمر إلى عناء لأن تتحول الفرصة العادية إلى أهداف.
في البطولة التي انفجر فيها مصطفى في عام 2019، اختاره موقع «Total football analysis» كواحد من أفضل اثنين في البطولة. وأحد أكثر المميزات التي اختير على أساسها كانت قدرته التهديفية العالية.
حيث نجح مهاجم مصر الشاب في أن يحصل على لقب هداف البطولة بـ 4 أهداف. كان الملحوظ فيهم جميعًا أنهم تم تسجيلهم عن طريق فرص ليست بالكبيرة. ووفقًا لمعيار الأهداف المتوقعة xG فإن الأهداف الأربعة كانوا بتقييم 0.14 و0.05 و0.13 و0.38 على الترتيب.
لاحظ أنه إذا كان xG لفرصة ما يساوي 1 فإنها فرصة سهل تسجيلها جدًا، وإن كان يساوي 0 فهي مستحيلة التسجيل. كل أهداف مصطفى محمد في بطولة كأس الأمم الأفريقية الأخيرة لم ترتقِ حتى لـ0.5.
كان أيضًا من الواضح خلال تلك البطولة قدرة ذلك الشاب على استغلال ضربات الرأس ونجاحه في الصراعات الهوائية باختلاف أطوال ومستويات الخصوم. إذ نجح في تسجيل 3 أهداف من أصل 4 في هذه البطولة عن طريق ضربات رأسية، واستمر في نفس القدرة من بعد ذلك حتى بلغ المقارنة مع «رونالدو» شخصيًا.
أفضل من كريستيانو رونالدو؟
منذ فترة خرج الإعلامي، ولاعب الزمالك السابق، «خالد الغندور» ليؤكد أن مصطفى محمد واحد من «أفضل لاعبي العالم» في ضربات الرأس، ذاكرًا اسم «كريستيانو رونالدو» نفسه.
ووفقًا للأرقام فإن متوسط معدل الفوز بالصراعات الهوائية في الدوريات الكبرى كالدوري الإنجليزي يساوي 50.15% بينما في الإيطالي 49.94% وهو الدوري الذي يلعب فيه رونالدو، في حين يتوقف في الإسباني عند 49.81%. الأكيد أن مصطفى لا يتفوق على كل لاعبي العالم كما يدعي الغندور، لكنه يمتلك الذكاء لاختيار أي الصراعات يدخل.
تحدث المحلل الموريتاني «محمدي علوي» أثناء تحليله لبطولة كأس الأمم الأفريقية عبر قنوات «Bein Sports» عن نقطة تميز مصطفى في الصراعات الهوائية، وهي أن مصطفى يؤخر قراره في أي لعبة بعد أن يتخذ المدافع الملاصق له قرارًا بالتحرك.
ووفقًا لشركة «wyscout» فإن المهاجم المصري الشاب يفوز بالصراعات الهوائية بما يُقدر بنسبة 47.6%. الأهم أن مصطفى لا يعتمد على طوله فقط في ذلك -185 سم، حيث يتفوق على من هم في نفس الطول بنسبة 51.8%، ومن هم أطول قليلًا فإن نسبة نجاحه تتراوح بين 45.2% لمن هم دون الـ190 سم، وبين 37.5% لمن هم أكثر من ذلك.
الغريب أن الأرقام تؤكد أن مصطفى لم يستغل ذلك في التسجيل بالرأس فقط. إذ لم يُسجل إلا 28% فقط من أهدافه بالرأس، في حين توزعت الـ80% المتبقية على التسجيل من ركلات جزاء أو بقدمه اليمنى أو اليسرى، حسبما يتناسب مع الفرصة والزمان والمساحة المتروكين له.
توضح خريطة مواضع تصويبات مصطفى محمد والمُقدمة من شركة «wyscout»، أنه وبالرغم من قدراته الممتازة في الصراعات الهوائية، فإن مجمل تصويباته من داخل منطقة الجزاء، بما فيها تصويبات الرأس، تصل حوالي إلى 55%، أي أن هناك 45% تقريبًا من خارجها. هو لا يخشى التصويب من أماكن خارج منطقة الجزاء وربما أبعد.
يعزز ذلك من قدرته على إنهاء الفرصة، لكنه كذلك ينسف أسطورة استغلاله لقدراته التهديفية بالرأس فقط دون إعطائه حقه في التسجيل بأحد قدميه. لكنه أيضًا ينقلنا لقدرة مميزة عند مصطفى محمد جعلته يلمع مع فريقه الزمالك في المعتركات الهامة.
سلاح دفاعي فتاك
نجح مصطفى محمد في تقديم بطولة دوري أبطال أفريقيا كبيرة وناجحة مع الزمالك خلال موسم 2019/2020، وفي ظل استمرار الفريق الأبيض في الاعتماد على سياسات دفاعية في التدريب، يلمع نجم المهاجم الشاب في دور مميز.
امتلكت التصرفات الدفاعية نسبة 15% من مجمل تصرفات مصطفى محمد في الملعب خلال موسم 2019/2020، وأظهرت خريطة فوز مصطفى محمد بالصراعات الهوائية خلال نفس الموسم وحتى ختام عام 2020 تقريبًا، أن نسبة 4.5% من صراعاته الهوائية تحدث داخل منطقة جزاء فريقه. وهي التي تنتج عن تراجعه أثناء الكرات الثابتة والضربات الركنية.
وفي ظل لعبه مع فرق تنتهج دفاع المنطقة في تلك الحالات، مثل التي انتهجها الزمالك مع كل من «جيمي باتشيكو» أو من قبله «باتريس كارتيرون»، تصبح هذه الميزة عند مصطفى بقيمة مضاعفة.
يقوم مصطفى محمد بقطع تمريرات INTERCEPTIONS بنسبة 54.3% في الثلث الدفاعي، ونجح حتى شهر نوفمبر من عام 2020 في استرجاع الكرة 10 مرات في نصف ملعب فريقه، من بينهم 4 مرات بقطع مباشر للتمريرات.
وفي حالة مقارنة ذلك الرقم مع «مروان محسن» مهاجم الأهلي، فإنه في نفس الموسم فشل في قطع أي تمريرة داخل وسط ملعب فريقه، واستعاد الاستحواذ في 4 مناسبات فقط داخل نصف ملعبه.
كل ما نرجوه الآن أن يستمر أداء مصطفى محمد في الارتفاع كلما أثقل بخبرات مع مرور الزمن، وأن يكون هو الجزء المتبقي من أمنياتنا لمارد كرة القدم الذي ظهر للمصريين قبل 2006، أن يكون امتدادًا لجيل من المهاجمين نجح في كل شيء في الملعب، ولم يغفل قيمة التهديف فوق كل ذلك.