جيفارا منتصرًا، حتى إشعار آخر!
ليست فقط إعادة توجيه لبوصلة السياسة الخارجية الأمريكية في الاتجاه الصحيح كما يجادل الديموقراطيون الأمريكيون، بل كذلك إشارةً واضحةً للنجاح الذي حققته سياسة الردع الثوري التي اعتمدها كاسترو مع نهاية الحرب الباردة وإلى الآن. يقارب فيها ويسدد بين الشحن العسكري ضد الولايات المتحدة من جهة والالتحام الوطني بين أبناء شعبه من جهة أخرى. ويقتفي خلالها أثر جيفارا وإخوانه الراحلين!زيارةًَ تاريخية لم تقطعها تفجيرات بروكسيل ولم تخفف من حميمية المراسم التي كانت مُعدة لإنجاحها سلفًا، تلك هي التي قام بها الرئيس الأمريكي قبيل أيام للعدو التاريخي للولايات المتحدة -كوبا الثورة-. والتي نحاول في السطور القادمة تقديم تغطية لها في سياق العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وحلفاء الاتحاد السوفييتي السابقين.
مخلفات الحرب الباردة
ستكون سياسة هذه الأمة إزاء أي صواريخ نووية تنطلق من كوبا ضد أي دولة في النصف الغربي هجوما على الولايات المتحدة، وستكون ردة الفعل الانتقامية كاملة على الاتحاد السوفيتي
الرئيس الرحل جون كينيدي أكتوبر 1962م
بهذه الكلمات صدّر الرئيس الأمريكي جون كينيدي خطابه للأمة الأمريكية فى الثاني والعشرين من أكتوبر 1962م، في بيان تحذيري ألقاه عقب التقاط طائرة استطلاع أمريكية صورًا لصواريخ متوسطة المدى تحمل رؤوسا نووية. هذه الصواريخ تم تهريبها إلى كوبا بمعرفة الاتحاد السوفييتي وكانت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي أدراتها الولايات المتحدة وجهاز المخابرات التابع لها CIA.وباتت أغلب الأراضي الأمريكية في مرمى الصواريخ الكوبية، وكان العالم بحق على شفا حرب نووية مدمرة لن تكون عواقبها مدينة أو مدينتين كهيروشيما وناجازاكي، بل ستذهب على الأغلب لإحراق دول وشعوب بأكملها، وتراوحت تقديرات بأن عدد ضحايا حربٍ كهذه -إن نشبت- ستبلغ 100 مليون مواطن أمريكي ومثلهم من الروس إضافة لملايين الأوروبيين!
يروي روبرت كينيدي شقيق الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت: «الشعور السائد كان الصدمة وعدم التصديق». بالفعل كانت الصدمة كبيرة، فوكالات التجسس الأميركية عجزت عن رصد أي إشارات تحذيرية مسبقة. وعلى الرغم من حصول وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA على عدة تقارير من مخبرين كوبيين حول مواكب مشبوهة تتحرك خلال الليل؛ إلا أن الوكالة استبعدت هذه التقارير المبهمة والتي تناقض الفرضية السائدة لدى الأمريكان بأن موسكو لن تجرأ على نشر قنبلة ذرية على مسافة قريبة إلى هذا الحد من أراضيها (بحسب ما نشره المؤرخ مايكل دوبز) فالمسافة بين سواحل الدولتين قصيرة جدًا (يفصل بينهما مضيق فلوريدا).
وكردٍ على التهديدات، حاصرت الولايات المتحدة كوبا من البحر لقطع أي إمدادات عسكرية سوفييتية، وطالبت السوفييت بسحب كافة الصواريخ الهجومية من كوبا، إلا أن الاتحاد السوفييتي رفض علانية كل الطلبات الأمريكية. واتخذ الجانبان طريق المفاوضات بشكل سري أسفر عن موافقة الاتحاد السوفييتي لاحقًا على سحب كافة الصواريخ على أن تتعهد الإدارة الأمريكية في المقابل بسحب صواريخها من تركيا، وأن تلتزم أيضًا بعدم توجيه ضربة عسكرية لكوبا وكان هذا الاتفاق في الجمعة 26 أكتوبر.
وفي صباح اليوم التالي أُسقطت طائرة تجسس أمريكية من الأجواء الكوبية وبات يعرف هذا اليوم بـالسبت الأسود لأن الأمور بدت فيه خارج السيطرة. واعتزم البنتاجون بدأ الحرب بقصف جوي مكثف على كوبا يليه غزو بري بـ 120 ألف جندي. وسبقت حكمة الرئيس الأمريكي ونظيره الروسي غضبهما وتوصلا أخيرا لاتفاق سلمي يجنبهما ويجنب العالم بأسره جحيم الحرب النووية التي كانت على وشك الاندلاع. هذا ببساطة ووضوح شديدين أبرز مخلفات الحرب الباردة والتي كانت كوبا الثورة ضلعًا أساسيًا فيها!
السياسات الأمريكية وتاريخ من الفشل!
في أوائل ستينيات القرن الماضي، اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية سياسة المواجهة وتفريغ الثورة من المضامين والقادة الذين كانوا في القلب منها، وبدأت هذه السياسة مع إدارة الرئيس ترومان ثم آيزينهاور ولم تبلغ غايتها حتى أُعيد إنتاجها في الثمانينات على يد رونالد ريجان! وتمحورت هذه السياسة حول عزل كوبا كليًا عن العالم الخارجي -الضامن لبقائها واستمراريتها كإحدى الدول الصاعدة – من خلال العقوبات الاقتصادية، وتقويض الحلفاء الإقليميين من الحكومات اليسارية الناشئة في أمريكا الجنوبية وانتهاج سياسة دعم التمرد والعصيان المنبثق عنها عمليات إرهابية وتفجيرات وإضرابات في مختلف أنحاء الجمهورية.وعلى ذات السياق، عندما أعلن ميخائيل غورباتشوف آخر قادة الاتحاد السوفييتي -في ثمانينات القرن الماضي- عن سياسة الجلاسنوست وتصفير الأزمات، عبأت إدارة الرئيس الأمريكي ريجان العداء لثورات أمريكا اللاتينية. وفي ظل تهاوي الاتحاد السوفييتي، لم يحرك ساكنًا إزاء غزو غرينادا -إحدى جزر البحر الكاريبي- ومناهضة ثورة اليسار في نيكاراجوا، ووجدت كوبا نفسها منفردةً مضطرة للدفاع عن ثورتها التي اندلعت قبل عقود وهي بعدُ لم تسلم من المحاولات الأمريكية لإفشالها. واعتمدت إدارة الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو سياسة دفاعية تجاه المتغيرات الدولية والإقليمية المحيطة ببلاده بما يحفظ على كوبا ثورتها وتماسك بنيتها الداخلية. وتمثلت هذه السياسة في أركان أربعة هي:
1- إعداد جبهة دفاعية داخلية قوية يتلقى أعضاؤها تدريبات عسكرية ميليشياوية غير نمطية، تكون قادرة على إدارة حروب عصابات طويلة المدى. صحيح أن الأعداد التي شملهتا هذه التدريبات كانت صغيرة جدًا، لكنها كانت قادرة على تكوين شبكة داخلية متماسكة من المسلحين والمتدربين العسكريين وحتى أجهزة استخبارات محلية على أعلى المستويات من الجاهزية.
2- إدارة جهد دبلوماسي دولي لتقويض مساعي الولايات المتحدة ضد كوبا، وساعدت هذه الجهود في تعطيل استصدار الولايات المتحدة لقرارات معادية لكوبا من مجلس الأمن والأمم المتحدة وحتى الاتحاد الأوروبي.3- رعاية معارضة أمريكية في مختلف المحافل العالمية عبر تبني شعارات مثل الاستقلال الوطني وحريات الشعوب والرفاه المستحق للشعب الكوبي، واستخدمت الإدارة الكوبية في سبيل ذلك رجال دين ومشاهير ومناضلين سياسيين دوليين وحتى منظمات حقوق الإنسان والسلام لم تسلم من استغلال الكوبيين لها.4- التعبئة الداخلية واستجداء الجماهير الكوبية للوقوف صفًا واحدًا في مشهد يوحي للعالم الخارجي بمدى التماسك واللحمة الداخلية بين النظام الحاكم ومنظمات المجتمع المدني. وأضفت الثورية سحرها ورمزيتها على الكفاح الشعبوي الكوبي.
زيارة أوباما، هزيمة أم مناورة!
بهذه العبارة أعلن الرئيس أوباما نهاية حقبة زمنية عنيفة في العلاقات الأمريكية-الكوبية، كانت الغلبة فيها بنهاية المطاف للثورة الكوبية، ولكي نكون على تصالح مع الواقع فإن الشعب الكوبي خسر كثيرًا في هذه الحرب وتضرر بها بالقدر الكافي الذي ربما لو لم يكن لكانت كوبا اليوم شيئًا آخر! لكن على أية حال تكللت بالنجاح الجهود التي بدأها أوباما قبل أشهر والتي بدأت بتصريحات له عن كوبا أثناء كلمة ألقاها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي «نحن جاران ويمكننا الآن أن نكون صديقين».فعلى طول الفترتين الرئاسيتين لحكم أوباما والتي بدأهما في 2009م، بدا سلاحه الأول في حل أزمات الولايات المتحدة هو التوجه بالعدو إلى السوق الاقتصادية المفتوحة والليبرالية السياسية والتعددية، التي تخلق درجة من التنوع في المجتمع، لا تعرفها بالطبع المجتمعات المنغلقة على نفسها جرّاء الحرب أو الحظر.فبعد ما يقارب القرن من الزمن أثبتت فيها الإدارات الأمريكية المتعاقبة فشلها في التعاطي مع الأزمة الكوبية، وهي أزمة ضاربة بجذورها في عمق المجتمع الأمريكي لاسيما في المناطق الجنوبية والمتمثلة بجلاء في ولاية فلوريدا الجنوبية -التي يغطيها أغلبية سكانية أمريكية-كوبية-. حتى أنه مما يُعزى لإصرار أوباما على إتمام هكذا تقارب قبيل رحيله هو تعزيز أصوات الجنوبيين لأصدقائه من الديموقراطيين. لكن بالطبع لا يمكن أن يكون هذا هو المحرك لإحداث تغيير شامل في السياسات الأمريكية الخارجية.استبدال سياسة التفريغ بالقوة التي انتهجتها أمريكا لعقود من الزمن حان وقت تغييرها واستبدالها بأساليب أكثر انسيابية وأقل استفزازًا لحفيظة المجتمع الكوبي المعادي للولايات المتحدة. حدث ذلك في التعاطي مع إيران واليوم كوبا وغدًا كوريا الشمالية والحبل على الجرار! وحتى يتبين نجاح المغامرة الأمريكية الجديدة مع الكوبيين من عدمه يبقى جيفارا منتصرًا، حتى إشعار آخر!