رواية «حارس سطح العالم»: الديكتاتورية تحاكم الخيال
مثلما تلهم ثورات الربيع العربي بعض الكتاب والأدباء ليكتبوا ويرصدوا أحلامهم وتصوراتهم للعالم على أثرها، ومثلما حلت الديستوبيا في كثير من الروايات الحديثة محل الكثير من الأفكار الروائية الحالمة أو المثالية التي تنتمي لعالم اليوتوبيا، يبدو أن القمع والمصادرة والرقابة على الكتب أصبحت ملهمة أيضًا لبعض الكتَّاب والأدباء لكي يتحدثوا عما سيكون عليه العالم إذا تمت مصادرة كل الكتب والروايات، بل تمت مصادرة الخيال نفسه فعلًا، وأصبح مطلوبًا منهم أن يتعاملوا مع كل الأشياء بشكلٍ سطحي وألا ينتقلوا إلى المعنى!
في تجربة جديدة ومختلفة عن كل ما سبق ترسم الروائية الكويتية «بثينة العيسى» لقارئها ملامح عالمٍ جديد مغاير، يفترض أنه في المستقبل ولذا فهو ديستوبيا من طرازٍ خاص، لكي نتخيَّل معها شكل العالم وقد أصبح خاليًا من القصص والحكايات، بل أصبحت هناك مهمة خاصة جدًّا يحملها على عاتقه رقيب الكتب وهي القضاء على كل الكتب التي تحمل أي بذرة خيال، وبالتأكيد أي فكرة تمرد، أو تنطق الجمادات ويحدث فيها ما لا يتصوره العقل!
الرقيب القارئ
في لعبة سردية جديدة، ومن خلال بناء روائي محكم ننتقل إلى عالم هذا الرقيب وأسرته ومجتمعه، لنتعرَّف على مشكلاته وأزماته بعد أن تم مصادرة الخيال، وكيف سيتمكن من مواجهتها والتغلب عليها، تبدأ المشكلة مع الرقيب باكتشافه أنه تحوَّل إلى قارئ، ولكن الأمر لا يستقر ولا يستقيم له عند تلك النقطة المحايدة التي تبدو بسيطة، بل إنه يتورط في تفاصيل كثيرة لا تُحمد عقباها بالنسبة له ولأسرته، بل ينكشف أمره!
يقوم بناء الرواية على خمسة فصول، يحمل كل واحدٍ منها أثر رواية من الروايات الكلاسيكية التي اعتمدت بثينة العيسى على فكرتها الأساسية وعالمها لكي تبني عالم روايتها الخاص، بدءًا بزوربا اليوناني (رجل يرقص في جزيرة) إلى (أليس في بلاد العجائب) حتى (جمهورية الأخ الكبير) و(بيونوكيو) دمية الخشب وصولاً إلى المأساة التي تحدثها (451 فهرنهايت).
استطاعت بثينة العيسى أن تنقل بطل روايتها إلى عالم هذه الروايات والأعمال، وأن تبني لها ولقارئها نوعًا جديدًا من التواصل بين قصة قديمة يعرفها، وافتراضٍ جمالي قائم على الخيال يرصده وتكتب تفاصيله، ونعيش معه ومع أحداثه واحدة بواحدة. كل هذه الروايات جنبًا إلى جنب مع أبطالها ومع الطفلة الذكية التي تحب الحكايات وتحفظها وتحكيها وتتبع الأرنب الأبيض ولا يستطيع والدها أن يمنعها عن حكاية الحكايات وقص القصص، تلك التي يجد نفسه قد تورط بنفسه في محبتها!
اقرأ أيضًا: رواية «استسلام»: المدينة الشفافة وحلم الديكتاتور
هل تقوم الثورة دفاعًا عن الأطفال؟
مع تصاعد أحداث الرواية وشعور بطل الرواية بقوته وقدرته على تجاوز النظام، وأنه ليس وحده، وإنما هناك عدد ممن استطاعوا أن يحافظوا على أنفسهم، وتمكنوا من الاحتفاظ بكتبهم، ربما يتسرب الأمل إلى القارئ أن ثمة ثورة مقبلة، ورغم أن الرواية تقوم طوال الوقت على نقض الفكرة المهيمنة في عقول الكثيرين وتنسبها بداية للأطفال بأن (الخير ينتصر) وكيف أنها فكرة ساذجة لا تتحقق في الواقع، إلا أنه مع هذا الخيال وهذا العالم الافتراضي، ربما يتسرب للقارئ بالفعل شيء من الأمل، أن ثمة أناسًا حتى ولو في الخيال، قادرين رغم كل شيء على مجابهة مثل هذه الأنظمة القمعية المتوحشة، وقادرين على فرض سيطرتهم، والدفاع عن أطفالهم. ولكن كل ذلك يتكشف بعد قليل أنه ليس إلا سرابًا!
ربما تكون رمزية الطفلة في الرواية من أقوى العوامل التي ساعدت على تصاعد الأحداث، ورغم أن وصفها كان محايدًا إلى حدٍ كبير، إلا أن القارئ لا شك سيتعلق بها، وبإمكانية تحولها إلى البذرة التي يبنى عليها التحوُّل والتغير الكبير، بل ربما الثورة أيضًا، ولا شك أن الكاتبة قد عمدت إلى ذلك كله، حتى تصل رسالتها في النهاية صريحة وواضحة، وهي أن الديكتاتورية والقمع يقتلان كل فرصة للحياة!
عن علاقة الفرد بالعالم
في كتابه الهام (الذوق الأدبي كيف يتكون) يتحدث أرنولد بينيت عن الأدب فيقول:
لعل هذا هو ما تنقله لنا الرواية في النهاية، هو تلك القيمة الكبرى التي ربما تضيع منَّا وسط الكثير من الكتابات والأفكار التي تستهجن الأدب أو تفرض عليه وصاية أو رقابة من نوع خاص، ولا شك أن الرواية بعد كل هذا أيضًا تمتلئ بالعديد من الرسائل، وتحوي بين جنباتها الكثير من التأويلات،وتقبل المزيد من القراءات، فهي تكشف لنا بطريقٍ غير مباشر قيمة عالم الخيال ودوره في حياتنا، هل يمكن فعلًا أن ننزع عن حياتنا كل ما له علاقة بالخيال؟ هل تستقيم حياة الناس بدون الكتب والروايات؟