ثورة «جریندیلولد» الفاشية و«فولدمورت» الذي لن يفهم أبدًا
بينما هاري بوتر على متن قطار هوجورتس السريع في طريقه لمدرسة هوجورتس للسحر والشعوذة، حيث سيبدأ أولى مغامراته السحرية التي ستأسرنا للأبد، وعلى ظهر إحدى بطاقات شوكولاتة الضفادع السحرية، مقترنًا بالسيرة الذاتية المختصرة لرفيق شبابه الذي سيصبح عدوه وسينتصر عليه فيما بعد ذُكر اسمه للمرة الأولى، ولأن للقدر أحكامه التي لا ينبغي أن نتجاهلها، لم يكن من الممكن للكاتبة أن تبدأ حكاية جريندولد إلا بهذه الطريقة التي يظهر فيها اسمه جنبًا إلى جنب مع دمبلدور رفيق عمره، واقترنت مصائرهما للأبد، هكذا إذن بدأت ج. ك. رولينج في سرد حكاية جريندولد.
بهذه العبارات الحماسية التي قالها جريندولد يمكن تلخيص أفكاره، هذه الأفكار التي كانت نواة للثورة التي أراد القيام بها ضد وزارة السحر. كانت أفكار جريندولد فاشية بامتياز تنادي بأفضلية الجنس السحري على العامة، الذين يرى أن مكانهم الصحيح هو قاع نظام تكون الأفضلية فيه للسحرة، الذين يجب أن يحكموا العالم ولا يختبئون بعد الآن.
ولأن الأفكار الفاشية تحتاج لمظلومية تغذيها، ومثلما كانت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى واقتطاع أجزاء من أراضيها هي الوقود الذي ساهم في صعود النازية، كان يستهدف جريندولد أن يجعل قانون الحفاظ على السرية واختباء السحرة من العامة وقودًا يغذي أفكاره. وككل فكرة فاشية لا بد من وجود عدو لها، كان العدو في هذه الحالة هم العامة الذين أجبروا السحرة على الاختباء.
لم يكن جريندولد شريرًا عاديًا إذن، لم يكن فولدمورت آخر كما يظن الكثيرون. لا يفتقد – في الأغلب – للحب، لكنه ينحدر من عائلة عريقة نقية الدم[3]، على العكس من فولدمورت الذي ربما كان افتقاده للحب والعائلة في طفولته سببًا رئيسيًا في الدمار الذي سيسببه فيما بعد.
كان جريندولد قائدًا فاشيًا يطمح في إشعال ثورة تسقط النظام السحري القائم برمته ليحل نظام جديد محله، نظام يطبق فيه أفكاره الفاشية، يطمح للوصول للسلطة ليطبق أفكاره الخاصة، فهو ليس فولدمورت الذي كان يبحث عن السلطة والخلود لذاته، فلم يشغل باله أبدًا بالبحث عن أصدقاء وحلفاء مؤمنين بأفكاره، فهو – فولدمورت – لم يكن يملك أفكارًا ليطبقها، فقط كان يبحث عن السلطة، وفي سبيل هذه السلطة كان يبحث عن تابعين خاضعين له.
كان أعوان فولدمورت عصابات مرتزقة دنيئة، ضباع تدعم سيد الظلام طمعًا في الفريسة القادمة التي سيلقيها لهم، أو خوفًا من قوته وعنفه. على النقيض كان أعوان جريندولد جنودًا يحاربون من أجل فكرة مقدسة تملّكتهم، يُخضِعهم جريندولد لسلطته بأفكاره الساحرة وخطبه البليغة.
لا يوجد لديه مشكلة أن يبذل الكثير من المجهود لتنفيذ خطة يقوم فيها باجتذاب مطاردي السحر الأسود التابعين لوزارة السحر لاجتماع سري، لا ليقتلهم بل ليجعلهم يبادرون باستخدام العنف، فيتخذه ذريعة إضافية لنشر أفكاره المطالبة بإسقاط النظام القائم. يخطب في السحرة والساحرات يخبرهم بأنه يريد مصلحتهم الخاصة، يحاول استمالة أقليات العالم السحري لجانبه، هؤلاء الذين يفتقدون الحب أو تضرروا من النظام القائم وتعرضوا للنبذ منه، مثل كريدنس الذي تحاول وزارة السحر قتله، أو كويني جولديشتان التي يحرمها القانون السحري من الارتباط بحبيبها من عالم العامة.
قائد كاريزمي مفوّه يدافع عن مصالح أعوانه، قضيته هي حقوقهم، وثورته صرخة في وجه النظام القائم من أجل هذه الحقوق، هكذا خاض جريندولد حربه.
وكما علمنا التاريخ الحقيقي أن هؤلاء الذين يحملون أفكارًا من شأنها أن تغير العالم بحاجة لرفيق وشريك، فإنجلز بحاجة لماركيس، ولينين كان بحاجة لتروتسكي، يجد جريندولد ضالته في دمبلدور.
في «جودريك هولو» كانت البداية، حيث قامت مؤرخة التاريخ المشهورة باثیلدا باجشوت بتقديم ابن أخيها جريندولد لألباس دمبلدور الشاب الذي لم يكن وقتها هناك حدود لطموحه، وهؤلاء الذين لا حد لطموحهم من السهل أن تسحرهم الأفكار الفاشية وتداعب طموحهم فيغدون أسرى لها.
اقتنع دمبلدور بأفكار جريندولد التي خلبت لبه، حتى أنه صاغ عبارة «من أجل الصالح العام»[5] التي ستصبح الشعار الرئيسي لجريندولد في حربه فيما بعد. شهران من التخطيط للسيطرة على العالم، إحداث انقلاب في النظام السائد حيث سيحكم السحرة. العالم تحت قيادة قائدي الثورة العظيمة دمبلدور وجريندولد، بينما يصبح العامة في القاع مكانهم المستحق.
من المعتاد أن تسحر الأفكار الفاشية الأذكياء مثل دمبلدور وربما تجعلهم أسرى لها حتى النهاية مثلما حدث مع جريندولد، لكن وحدهم صادقو العواطف الذين لا يملكون طموحًا استثنائيًا لكنهم يملكون قلبًا لا يقدر بثمن يرون حقيقة تلك الأفكار بوضوح. يصدم أبيرفورث المتمرد أخاه الأكبر دمبلدور بحقيقة أفكاره هو وصديقه جريندولد، يخبرهم بفظاظة وصراحة صادمة أن هذه الأفكار هي جنون مطلق. يفقد دمبلدور أخته في نهاية تلك المحادثة لكنه يستيقظ من أحلامه، ويرى كيف أعماه طموحه وسحره جريندولد بأفكاره فتحول لفاشي يؤذي الأبرياء تحت شعار «من أجل المصلحة العامة».
تنتهي صداقة الشابين الطموحين، لكنها تظل دليلًا آخر على اختلاف جريندولد عن فولدمورت، فجريندولد بحث دومًا عن صديق يشاركه أفكاره، وعندما وجد هذا الصديق تحمس كل منهما للآخر حتى أنهما تعهدا ألا يقتتلا أبدًا باستخدام ميثاق الدم. لا يمكنني أن أتخيل أبدًا أن فولدمورت يبحث عن صديق، بل ينشئ ميثاق دم مع هذا الصديق! لم يكن إذن جريندولد أحمق آخر يطمح للسلطة والخلود.
ربما لهذا كان جديرًا بصداقة دمبلدور في شبابهما، فهو كان جديرًا أن يُهزم على يد صديقه السابق في منازلة أسطورية بينهما، بينما هُزم فولدمورت على يد مراهق ينفذ خطط دمبلدور بعد مماته، لم ينل شرف أن يهزم في مبارزة مع الساحر العظيم، كان أحمق من أن ينال هذا الشرف.
يترك جريندولد بريطانيا وينطلق ينفذ خططه للسيطرة على العالم. في عشرينيات القرن الماضي وبالتزامن مع صعود الحركات الفاشية والنازية التي كانت تنهض وتتقدم في بطء لكن بثبات وقوة في عالم العامة، يضع جريندولد خططه قيد التفنيذ، فيبدأ العالم السحري في الاشتعال هو الآخر، فجريندولد يزداد قوة ويكتسب الكثير من الأتباع المؤمنين بأفكاره.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية كانت هناك حرب عالمية أخرى أشد ضراوة تدور رحاها في العالم السحري. كان جريندولد يمثل صعود الفاشية في العالم السحري، هو مناظر هتلر والنازية من عالم العامة[6]. حتى أنه مثلما نقش النازيون شعارهم سيئ السمعة «العمل يحررك» على أبواب معتقلاتهم، حفر جريندولد شعاره «من أجل الصالح العام» على أبواب حصنه نورمينجارد الذي كان يعتقل أعداءه به، وكما سُجن بعض النازيين السابقين في معتقلاتهم الخاصة كانت نهاية جريندولد شبيهة[7].
أخيرًا يُهزم جريندولد في عام 1945 وهو نفس العام الذي هُزم فيه هتلر. كأن الكاتبة أرادت أن تعيد سرد قصة صعود النازية وسقوطها مرة أخرى[8]، وبقليل من الخيال يمكننا أن نتصور أنه مثلما كان جريندولد يمثل الأفكار الفاشية المدمرة، فربما فولدمورت يمثل أشرار عالمنا الحالي الذين لا يملكون أفكار فاشية يدافعون عنها، لكنهم فقط يسعون للسلطة والمال كذئاب جائعة!
العالم على وشك التداعي، أو أنه تداعى بالفعل، دمبلدور قُتل، سقطت وزارة السحر، هاري بوتر وأصدقاؤه مطاردون، أتباع سيد الظلام في كل مكان، بدا أن كل شيء قد انتهى وفولدمورت قد سيطر على مقاليد الأمور تمامًا.
وحيدًا في زنزانته في قلعته وحصنه السابق في جبال النمسا الباردة ينظر العجوز ذو الجسد النحيل الواهن لفولدمورت الغر في سخرية، يعرف أن صديقه الأثير السابق سيهزمه حتى بعد موته، وربما يعجب لتقلبات الزمان وسخريته التي جعلت هذا الواقف أمامه سيّدًا للظلام من بعده، يتذكر أفكاره التي خلبت لب الكثيرين وجعلتهم جنودًا له في ثورته التي لم تكتمل، ينظر للرجل الواقف أمامه ويفكر في أن صاحب الوجه الأفعواني الذي لم يؤمن يومًا بأي فكرة إلا بالعنف المطلق لا يشبهه قط. يركز العجوز عينيه الغائرتين على فولدمورت ثم يبتسم وهو يقول:
يصيح فولدمورت في وجهه بأنه كاذب، فيضحك ساخرًا يخبره أن يقتله فهو يرحب بالموت ثم يكمل بصوت قوي لن تنتصر، هناك الكثير من الأشياء التي لا تفهمها يا فولدرمورت. يفقد سيد الظلام أعصابه وتومض الزنزانة بضوء أخضر، فيرتفع الجسد النحيل ثم يسقط ميّتًا.
ينطلق فولدمورت لقبر دمبلدور، حيث سيحصل على سلاحه المدمر الأخير، بينما الابتسامة الساخرة لجريندولد سيد الظلام الحقيقي لم تختف بعد، ففولدمورت الذي لم يفهم من قبل القوة الحقيقية للحب والصداقة، ولم يفهم ترفّع دمبلدور عن السلطة وعدم سعيه للقوة، يخبره جريندولد بضحكته الساخرة أنه أيضًا لن يفهم أبدًا أنه حتى الشر والنفوذ والسلطة يحتاجون لقائد ذي كاريزما وأفكارًا قوية – حتى وإن كانت فاشية – وأن القوة وحدها لا تستطيع أن تؤسس لنظام مستقر جديد.
- رواية هاري بوتر وحجر الفيلسوف.
- صفحة جريندلولد على موقع هاري بوتر ويكي.
- العبارة الأصلية باللغة الإنجليزية: «He who blinded by ambition, raises himself to a position whence he cannot mount higher, must thereafter fall with the greatest loss».
- أقدم استخدام لهذه العبارة كان على لسان دمبلدور في أحد خطاباته لجريندلولد الذي عرض في رواية "هاري بوتر ومقدسات الموت"، ومن المرجح أن دمبلدور هو أول من استخدم العبارة بصياغتها تلك.
- قامت الكاتبة في إجابة على أحد أسئلة المحبين بذكر أنه ليس صدفة تزامن هزيمة جريندلولد مع نهاية الحرب العالمية الثانية، فهي تعتقد أنه هناك دومًا رابط قوي بين العالم السحري وعالم العامة وأن الأحداث الكبيرة التي تحدث بأيّ من العالمين تجد صدى لها في العالم الآخر – هاري بوتر ويكي.
- رودلف هس كمثال.
- في صفحة نورمينجارد حصن جريندلولد على موقع ويكي هاري بوتر يوجد إشارة لهذه التشابهات بين النازية وأفكار جريندلولد.
- الإشارة لعصا الكبير.