الكيمياء الخضراء: اعتذارنا المتأخر للبيئة
سحابة سوداء تعلو رأسي، تلوح الأفكار السلبية في عقلي ذهابًا وإيابًا؛ ماذا لو قررت الأرض أن تنتقم من البشر بسبب تصرفاتهم الجائرة في حقها؟ كيف يواجه العالم هذا الغضب بكل ما يملك من ضعف رغم تعدد أسلحته؟! لن نقوى على المواجهة، تستطيع الطبيعة سحق الجميع في وقت ضئيل! والعجيب أن الإنسان لا يضع في حسبانه هذا الأمر! مستمر في التدمير والتخريب ويغفل عن الثمن الذي يتوجب عليه دفعه يومًا ما.
ولكن، لم يفت الأوان بعد، يمكننا الاعتذار للبيئة عن كل ما فعلناه، ومحاولة ترميم ما حدث من تدمير، والطبيعة تسامح ويظهر عليها أعراض الترميم بشكل ملحوظ، والدليل على ذلك ما حدث في فترة جائحة كوڤيد 19، بعد اضطرار الإنسان إلى البقاء في منزله لشهور طويلة، بدأت الطبيعة في استعادة صحتها شيئًا فشيئًا، وبدأت تترمم من جديد، إلى أن عاد الإنسان وواصل حياته خارج المنزل وشرع في الخراب من جديد.
التفاعلات الكيميائية الضارة والمركبات الكيميائية المنتشرة في الجو هي أحد الملوثات الشهيرة للبيئة، بل إنها من أقوى العوامل المؤثرة على الطبيعة بالسلب. لذلك، ولأنها من أهم المتهمين في هذه القضية، كان عليها أن تبدأ بالاعتذار من خلال ارتداء اللون الأخضر.
نحو كيمياء أكثر إيجابية
الكيمياء الخضراء هي فرع من فروع الكيمياء، ولكنه فرع آمن وإيجابي، يهدف إلى تصنيع وإنتاج منتجات كيميائية آمنة على البيئة والكائنات الحية. يندرج تحت مفهوم الكيمياء الخضراء كل تقنية تؤول إلى القضاء على المخاطر ومصادرها.
يختلف مفهوم الكيمياء الخضراء عن مفهوم إزالة الملوثات من البيئة، حيث إن الكيمياء الخضراء تعتمد على حل المشكلة من جذورها، فلا تنطلق الملوثات من الأساس، أما إزالة الملوثات فهي عملية تطهير البيئة بعد إصدار الملوثات بالفعل، وكلتا العمليتين لهما تأثير إيجابي وفعال، ولكننا اليوم بصدد التحدث عن منع إنتاج مواد كيميائية خطيرة وإنتاج مواد آمنة بدلًا منها.
المبادئ الخضراء
عندما انطلق تخصص الكيمياء الخضراء بهدف حماية البيئة والكائنات الحية كان له 12 مبدأ واضحًا وأهدافًا محددة، ومعرفتنا لهذه المبادئ تدفعنا للاهتمام بهذا التخصص وتقديره وتبنيه، لذلك دعني أسرد تلك المبادئ عليك.
- منع وجود أي فضلات في البيئة: وذلك أهم ما يميز الكيمياء عن غيرها من طرق الحفاظ على البيئة، أنها تمنع حدوث المشكلة من الأساس. هنا ينص مبدأها الأول على عدم السماح بوجود فضلات أو مخلفات في البيئة لكي لا نضطر في ما بعد أن نعالجها أو ننظفها أو نبحث في كيفية التعامل معها.
- تعظيم اقتصاد الذرة: يعتبر مبدأ «اقتصاد الذرة – Atom economy» من أهم مبادئ الكيمياء الخضراء، وهو مبدأ ينص على استخدام أكبر عدد من الذرات المتفاعلة لزيادة محصلة النواتج المرغوبة وتقليل أي مخلفات على المستوى الجزيئي.
- تصميم آليات تصنيع كيميائية أقل خطورة: مراعاة سلامة الإنسان والكائنات الحية والبيئة عند تخطيط طريقة الصناعات والتركيبات الكيميائية بأن تكون آمنة وغير سامة أو خطرة بأي شكل.
- إنتاج مواد كيميائية آمنة: ينص المبدأ على إنتاج مواد كيميائية غير سامة أو ضارة.
- استخدام مذيبات وظروف كيميائية أكثر أمانًا: توفير وسط آمن للقيام التفاعل.
- زيادة كفاءة الطاقة: محاولة إجراء التفاعلات الكيميائية في الظروف القياسية من درجة الحرارة والضغط، قدر الإمكان، دون اللجوء إلى ظروف خاصة التي ينتج عنها إهدار الطاقة.
- استخدام مواد أولية متجددة: مصادر المواد الأولية المتجددة هي المنتجات الزراعية ومخلفات العمليات الكيميائية. أما مصادر المواد الأولية غير المتجددة تكون الوقود الحفري (مثل البترول والغاز الطبيعي والفحم) أو عمليات التعدين.
- تجنب المشتقات الكيميائية: تجنب استخدام مجموعات الحماية أو أي تعديلات مؤقتة، حيث إن المشتقات الكيميائية تستخدم كواشف إضافية وتتسبب في توليد المخلفات الكيميائية.
- استخدم العوامل الحفازة، وليس «الكواشف المتكافئة – stoichiometric reagents»: استخدام التفاعلات الحفزية يقلل من محصلة المخلفات الكيميائية. من مميزات العوامل الحفازة أن القليل منها له تأثير كبير وتتمكن من تكرار تنفيذ التفاعل عدة مرات. وهنا تكمن نقاط تميزها على الكواشف المتكافئة، حيث إن الكواشف المتكافئة تتطلب استخدام كميات كبيرة، كما أنها تجري التفاعل مرة واحدة.
- إنتاج مركبات ومواد كيميائية قابلة للتحلل بعد الاستخدام: يعتبر هذا المبدأ من أهم مبادئ الكيمياء الخضراء، لأنه يعتمد على التخلص من أي منتجات كيميائية بمجرد استخدامها، فلا تتراكم في البيئة وتتسبب في أضرار فادحة لها وللكائنات الحية.
- مراقبة التفاعل وقت قيامه: من أفضل الطرق التي تضمن عدم تكون مخلفات أو ملوثات من التفاعل هي مراقبة التفاعل أثناء حدوثه لكي نتابع تكوين أي مخلفات ونمنع الأمر في وقته.
- تقليل إمكانية وقوع حوادث: تصميم المواد الكيميائية وخصائصها الفيزيائية (الصلبة والسائلة والغازية) بطريقة تقلل فرصة حدوث أي حادث، مثل الانفجارات أو الحرائق أو التسريب الكيميائي إلى البيئة.
أدوار خضراء متعددة
تعددت أدوار وتطبيقات الكيمياء الخضراء في مختلف الصناعات، التي اتحدت معًا لتطبيق مبدأ الاستدامة. ابتداءً من الصناعات الدوائية ومرورًا بالصناعات البترولية ومصادر توليد الطاقة وانتهاءً بتوفير حلول آمنة لمخلفات الصناعات الكيميائية بالكامل.
الصناعات الدوائية
يعتبر مجال الصناعات الدوائية على رأس المجالات التي اهتمت بتطبيق مبادئ الكيمياء الخضراء في صناعاتها ومنتجاتها المختلفة. حصلت شركات الأدوية المختلفة على 11 جائزة رئاسية للصناعات الكيميائية الخضراء منذ عام 1996 م.
وبحلول عام 2005م كانت كل شركات الأدوية الكبرى انضمت إلى خطاب معهد الكيمياء الخضراء، التابع للجمعية الكيميائية الأمريكية (The American Chemical Society)، وذلك من أجل المشاركة في الحفاظ على البيئة ودعم مبادئ الكيمياء الخضراء الآمنة.
من أشهر السلوكيات التي قامت بها شركات الأدوية لمواكبة مبادئ الكيمياء الخضراء هي تقليل استخدام المذيبات العضوية (مثل: الميثانول وثنائي كلورو الميثان والتولوين ودي ميثيل فورماميد والأسيتونيتريل، التي شكلت 75% من إجمالي المذيبات العضوية التي قللوا استخدامه)، وذلك طبقًا لتقارير وكالة حماية البيئة الأمريكية.
علاوة على ذلك، فإن ممارسات الصناعات الدوائية الخضراء شملت تقليل استخدام المواد الخام الخطرة، وتقليل مراحل التفاعلات الكيميائية، وتطوير عوامل حفازة أفضل.
المذيبات الخضراء
طبقًا للمبدأ الخامس من مبادئ الكيمياء الخضراء التي تحدثنا عنها منذ قليل، فإن من الأفضل تقليل استخدام المذيبات وتوفير وسط آمن لقيام التفاعل. المذيبات من أهم العوامل المساعدة والوسائط الضرورية لقيام التفاعل، ولكنها تحمل غالبًا بعض المخاطر على البيئة، وذلك لأن المذيبات أغلبها تكون مركبات عضوية متطايرة، وذلك يعني أنها سوف تنتقل إلى الهواء وتلوثه. كما أن الاعتماد الرئيسي عليها يكثر من كمياتها المستخدمة في الصناعات المختلفة، مما يؤثر أيضًا على زيادة حجم الملوثات المنتقلة إلى البيئة.
بناءً على ذلك، فإن تقليل استخدام المذيبات أو استبدالها بوسط وبديل آمن لقيام التفاعلات الكيميائية كان من أهم الممارسات التي سعت إليها المصانع القائمة على إنتاج هذه المركبات.
من بين عام 1996م وعام 2014م حصلت الشركات التي تعمل في هذا المجال على 22 جائزة مقابل نجاحها في تقليل استخدام المذيبات الضارة واستبدالها ببدائل آمنة على البيئة. ³
من أشهر هذه الأمثلة:
- سيلوكسانات الميثايل المتطايرة Volatile Methyl Siloxanes (VMS): تعتبر هذه السوائل السيليكونية بدائل آمنة معتمدة من قبل وكالة حماية البيئة EPA. حيث إنها تعتبر بديلًا للمذيبات الخطيرة التي تلوث الهواء، فإنها بديل للمركب 1،1،1 ثلاثي كلورو الإيثان.
- المؤثرات السطحية المائية والمحاليل ذات الوزن الجزيئي المتناهي في الصغر: تعتبر هذه المركبات بدائل آمنة للأسيتون، حيث بإمكانها العمل كمذيب في التفاعلات الكيميائية عن طريق تكوين «المذيلات – micelles» (الأيونات الغروية).
- كربونات البروبيلين Propylene carbonate (PC): يعتبر هذا المركب صديقًا للبيئة وبديلًا آمنًا للمذيبات المكلورة والمذيبات الخطيرة بصفة عامة المستخدمة في التنظيف مثل الأسيتون.
تنظيف صديق للبيئة
يستخدم بيرو كلورو الإيثيلين Per chloro ethylene (PERC) في التنظيف الجاف للملابس، ولكن له آثار سلبية ضارة، حيث إنه يلوث المياه ويصنف كعامل للإصابة بمرض السرطان. لكي نحل هذه المشكلة، أوجد العلماء بدائل آمنة للبيرو كلورو إيثيلين وهي:
- «ن- بروبيل بروميد – n-Propyl Bromide»
- «سيلوكسانات الميثايل المتطايرة – Volatile Methyl Siloxanes»
- «إيثرات الجلايكول – Glycol Ethers»
- «بيوتيلال – Butylal»
الصناعة البحرية
تتعرض صناعة السفن البحرية لبعض المشاكل التي تكلفها بلايين الدولارات كل سنة. أثناء إبحار السفن في البحر، تتراكم على سطحها كثير من الكائنات البحرية التي ترفع تكلفة السحب والوقود. إزالة هذه الكائنات العالقة وتنظيف أسطح السفن عملية مكلفة للغاية، إضافة إلى أنها تعطل السفن عن العمل طوال فترة التنظيف وتتسبب في الخسارة لأصحابها.
كان الحل التقليدي لهذه المشكلة هو طلاء سطح السفن بمادة ثلاثي بوتيل القصدير TBT التي تقتل الكائنات الحية العالقة، ولكنها للأسف مادة سامة لكائنات أخرى أكبر حجمًا!
أوجد العالمان روهم Rohm وهاس Haas حلًا لهذه المشكلة، وهو تطوير مضاد تراكم الملوثات Sea-Nine®, 4,5-dichloro-2-n-octyl-4- isothiazolin-3-one (DCOI الجديد. التحلل الأيضي لمنتجات الـ DCOI غير سام ولا يسبب تراكمًا بيولوجيًا، كما أن هذه المنتجات اقتصادية وأرخص سعرًا من ثلاثي بوتيل القصدير. طبقًا لكل ذلك، فكان لا بد أن يقرر مالكو السفن استبدال ثلاثي بوتيل القصدير السام بالبديل الآمن ومواكبة الاتجاه الصحيح.
تطهير المياه
من المواد المستخدمة في تطهير المياه هي الشبة، وثبت أن الشبة تزيد من تراكم الأيونات السامة في المياه، لذلك وجدت بعض البدائل الآمنة لتقوم بنفس المهمة، وهي معالجة المياه باستخدام مسحوق نوى البلح، وهي مادة آمنة غير سامة وقابلة للتخلص الآمن بعد انتهاء استخدامها.
توجد عديد من المواد والمنتجات الكيميائية التي لها دور فعال في معالجة المياه، مثل مواد التخثر والبوليمرات غير العضوية والمبيدات الحيوية الكيميائية، ولكنها على صعيد آخر مواد ضارة وغير آمنة. هنا يأتي دور الكيمياء الخضراء في توفير بديل فعال وآمن، مثل «المواد المخثرة – coagulants» (مواد تسبب تجلط في السوائل وهنا بغرض فصل الملوثات العالقة في الماء) و«المندفة – flocculants» (تتبع خاصية التنديف، مثل الترشيح الرملي السريع) و«كاسرات الاستحلاب – emulsion breakers» والمبيدات الحيوية المصنوعة من المركبات العضوية.
كانت الحلول التقليدية في معالجة المياه تستهدف إزالة المواد الخطرة من الماء، وذلك باستخدام مواد مخثرة ذات أساس معدني مثل أملاح الحديدوز والألمنيوم، التي يجب إذابتها في أحماض. هذه العملية تقلل الـPH (الأس الهيدروجيني) الخاصة بالماء وتتطلب إضافة قلوي (مثل هيدروكسيد الصوديوم) لرفع الـPH من جديد.
أما مع المواد المخثرة العضوية التي تنضم لقائمة المواد الكيميائية الخضراء، فلا حاجة لكل ذلك. على سبيل المثال، المادة «هيدريكس – Hydrex™ 6861» مادة لا تتسبب في تغيير يُذكر في الـPH أو خاصية التوصيل للماء، الأمر الذي يلغي الحاجة إلى التعامل مع المواد الكيميائية الخطرة لتصحيح الأس الهيدروجيني.
بجانب الضرر الذي تحدثنا عنه لمواد التخثر غير العضوية، فإنها أيضًا تصعب من عملية التخلص من الحمأة، كذلك هناك مواد مخثرة غير عضوية ذات أساس معدني بجانب هيدروكسيد الصوديوم المستخدم على مدار عملية المعالجة يتسببان في توليد حمأة شديدة التآكل.
على الصعيد الآخر، توفر الكيمياء الخضراء بدائل لمنتجات فعالة تحل المشكلة وتوفر خيارات صديقة للبيئة بإدارة أبسط للعملية. على سبيل المثال، المبيدات الحيوية إيكوكيم EcoChem التي تستخدم في عديد من الأغراض، مثل تبريد ومعالجة المياه. بجانب أنها مواد فعالة، فهي مواد تتحلل بسهولة في الماء والأكسجين بدون ترك أي مخلفات ضارة في البيئة.