فيلم «Green Book»: الإنسانية كغاية والصداقة كملاذ روحي
إذا كنتَ تبحث عن فيلم سينمائي يندرج ضمن فئة الأعمال الفنية المُحفِّزة على التأمل والتفكير، فنصيحتي لك أن تُشاهد الفيلم الأمريكي الكتاب الأخضر Green Book، لمخرجه المتميز «بيتر فاريلي»، فهو بالفعل قطعة سينمائية فنية جديرة بالإشادة، وما حيازته على أوسكار أفضل فيلم لعام 2018 إلا دليل على جودة هذا العمل الفني، الذي نحن بصدد تحليل تفاصيله ومناقشة القضايا التي يثيرها.
يندرج الفيلم ضمن نوعية قصص الرحلة Road Story، بحيث يحكي عن قصة واقعية بطلها العازف الأمريكي الشهير في فترة الستينيات دونالد شيرلي (تشخيص ماهيرشالا علي) وسائقه طوني ليب (تشخيص فيكو مورتينسَن)، واللذان سافرا في رحلة موسعة إلى عدد من مناطق الجنوب الأمريكي، وذلك من أجل تقديم عروض موسيقية ترتبط بكلاسيكيات البيانو.
يعرض الفيلم طوال مساره السردي عددًا من المواقف التي تُعَبِّرُ عن العنصرية تُجاه السود في أمريكا عامةً وتُجاه العازف شيرلي الأسود بشكل مخصوص؛ أما مدلول عنوان الفيلم Green Book، فيشير إلى كتاب كان منتشرًا في الولايات المتحدة الأمريكية إبان ثلاثينيات القرن الماضي وأواسط الستينيات، وهو عبارة عن دليل إرشادي لا غنى عنه لأي مُسافر أمريكي أسود وقتها، وذلك لأنه كان يتضمن قائمة بكل الأماكن التي تسمح باستقبال السود وتعاملهم بشكل محترم، حتى لا يجد أي أسود نفسه فريسة لمكان عنصري، تتراوح فيه الإهانة من الضرب لتصل حد القتل في بعض الأحيان.
قد يكون من المعقول القول بأن أحداث الفيلم ليست إلا مجرد وضعية تاريخية ماضوية لا تعكس واقع الحال الراهن في بلاد العم سام، إلا أن الفيلم مع ذلك يُسَائِلُ ذهن المتلقي حول نزوع يمارسه كثير من البشر لا شعوريًا، والحديث هنا عن تلك الصور الذهنية المُسْبَقَةِ التي نحملها حول الآخرين، عن أفكارنا النمطية Stereotypes التي نُسَلِّمُ بها دون مراجعتها.
إنها نزعة لا زالت قائمة إلى اليوم ومتجذرة في الثقافة البشرية، تلك النزعة التي تجعلنا نُمَوْقِعُ الأشخاص في تصنيفات وهويات اجتماعية قَبْلِيَةٍ؛ والفيلم في هذا الصدد يَعْرِضُ منذ البداية مشهدًا افتتاحيا يعكس هذه النزعة تُجاه الحكم المسبق والنمطي، بحيث يقوم طوني (رب أسرة بسيطة تنحدر من جذور إيطالية) بالتخلص من كأسين شرب منهما رجلان أسودان زارا منزله لغرض إصلاح عطب في المطبخ، والمشهد والحال هنا يحيل رمزيًا على الاتساخ والنذالة والعفن، وكلها مدلولات ازدرائية يَصِمُ بها طوني هؤلاء السود، هذا الازدراء سيبدو واضحًا للعيان أكثر في المشهد نفسه، وذلك عندما قام طوني بتشبيههما لفظيًا بالباذنجان.
المفارقة كأداة للدهشة السينمائية
إن المتوقَّع في علاقة السيد بالخادم أن تُتَرْجَمَ إجرائيًا على شاكلة رجل أبيض يخدمه رجل أسود، لكن النقيض هو الذي يعرضه الفيلم، وذلك لأن القصة تحكي عن العازف الأسود دون شيرلي الذي يخدمه طوني الأبيض كسائق له أثناء الجولة الموسيقية في أقاليم الجنوب الأمريكي.
إننا إذن أمام مفارقة تقطع مع المألوف، فالسيد أسود والخادم أبيض، وهي مفارقة تستثير الذهن وتجتذب اهتمام المُشاهِد ما دامت تعرض حالة معادية لما هو متوقع، فطوني الأبيض فقير، بينما دون شيرلي الأسود غني، الأول ينتمي إلى طبقة اجتماعية دنيا والآخر ينتمي إلى طبقة راقية، لدرجة أن القاموس اللغوي الذي يستعمله عازف البيانو وكذا أذواقه في الموضة والطعام والفن تعطي الانطباع بأن الرجل فعلاً ذو انتماء للثقافة البورجوازية، في تضاد مهول مع الثقافة السوقية التي تَظهَر على طوني، خصوصًا في طريقة كلامه الخشنة والوقحة، وفي شرهه للطعام وطريقة أكله بما توحي به من تلهف همجي.
يعكس الفيلم بتسليطه الضوء على علاقة غير مألوفة في المخيال العام حول البشرة والعرق ميزة سينمائية مخصوصة، تلك التي تَحَدَّثَ عنها «جيل دولوز» حينما قال بأن السينما قادرة على خلخلة الصور النمطية والاعتيادية لدى المتلقي، ليجد هذا الأخير نفسه مدفوعًا إلى التفكير في اللا مفكر فيه حسب تعبير الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.
يجوز الحكم على المخرج فاليري نظير ما قدمه في هذا العمل أنه فعلاً مخرجٌ “فنان، ففيلمه يرتقي إلى مستوى الفن الفكري، وهذا ربما ما رفع أسهم العمل ليحرز في الأخير على الأوسكار متفوقًا على الجميع، والحال أن الفيلم لا يطرح فنًا للمتعة والترويح عن النفس، ولا يتوجه نحو دغدغة الوجدان، بل يتوجه نحو تحفيز الفكر النقدي لدى الجمهور، بحيث يعمل الفيلم على دفع المُشاهِد إلى التفكير في مسألة السلوك العنصري، ومن المرجح جدًا أن الكثير من المُشاهدين قد أينع في ذهنهم السؤال التالي:
الصور الذهنية في مختبر التجربة الواقعية
لا يمكن للإنسان أن يتحرر من السقوط في فخ تكوين صورة وهمية حول شخص ما إلا إذا عاين هذا الشخص عن قرب، وذلك حتى يستطيع أن يحمل حوله فكرة دقيقة، أما الحكم القبلي الذي ينبني في الغالب على الانطباعات والهوى الذوقي، فلا يقود إلا إلى الوقوع فريسة لوهم الكهف كما عَبَّرَ عن ذلك الفيلسوف الإنجليزي الشهير «فرانسيس بيكون».
إن تجربة المعايشة إذن، والتي تحققت في الفيلم أثناء التجوال والسفر لبطلي القصة، تَجْعَلُ المُشاهد يبني حكمًا ناجمًا عن وضعية اختبارية سينمائية، وفيها يندمج المُشاهد مع أحداث القصة بشكل مكثف إلى الحد الذي يجعله سيكولوجيًا يدخل في حالة التماهي.
إننا كمشاهدين نندمج مع العازف في معيشه، ونتعرف على شخصيته عن قرب، وذلك بمَعُونَة سحرية من الموسيقى التصويرية التي تعمل على تجسيد وإظهار الحالة النفسية للعازف. لقد تم إذن توظيف تقنيات التصوير والمونتاج بشكل فعال، وذلك خدمةً لغاية تدفعنا إلى فهم الشخصيات وتفهمها، أي أننا نصير قادرين على فهم دوافعهم ومشاعرهم، كأنما تجعلنا سحرية السينما في هذا الفيلم نضع أنفسنا مكان الآخرين، وهكذا فالعمل حسب هذا المنظور ذو وظيفة تربوية مميزة.
إننا نتعلم عبر الشاشة كيف نتعاطف مع الآخر، وكيف نكون أكثر إنسانية، وأكثر نزوعًا إلى الانفتاح على البشر، وبالتالي تقبلهم. بتعبير جامع، فالفيلم تكمن قيمته البيداغوجية (أي التربوية) في قدرته على جعل المُشاهد ينتقل من مستوى الحكم المسبق إلى مستوى الحكم بالملاحظة والتتبع. إن سيناريو الفيلم في هذا الصدد يتأسس على الوضعانية الأمبيريقية، أي أننا كمشاهدين نجد أنفسنا نحكم على دون شيرلي ونتعاطف معه انطلاقًا من تجربة المعايشة السينمائية، لهذا فالفيلم دون ريب يُمَثِّلُ نموذجًا للفن باعتباره رسالة تربوية وأخلاقية.
بين الهدوء والملل
يدخل فيلم Green Book ضمن فئة الأفلام الشاعرية، لأنه يتسم بالهدوء السردي وذو إيقاع بطيء في تطور الأحداث، كما أن العبارات فيه بقدر ما هي بديعة في تركيبها اللفظي بقدر ما هي مكثفة في الدلالة والقوة التعبيرية، لكن الهدوء والرتابة الإيقاعية للفيلم مع ذلك تَجْعَلُ المُشاهد أبعد ما يكون عن الحماس والاستثارة، فبَهَارَاتُ الفرجة والتشويق السينمائية تظل مع ذلك عناصر مُغَيَّبَةً، ربما يُبَرَّرُ ذلك بكون الفيلم ليس تجاريًا بالمعنى الحرفي، إلا أنه ليس سببًا كافيًا للنأي به خارج مجهر النقد، فالفيلم مع ذلك يتخلله عيب واضح يتمثل في طغيان المَشاهد المتوقعة، وكلها لا تخرج عن سياق وضعيات نمطية يتعرض بموجبها العازف الأسود شيرلي للعنصرية، إلى الحد الذي يجعل من هذه الممارسات المتوقعة أشد بعثًا على الملل بسبب تكرارها.
لا يمكننا رغم هذا النقد أن نتغافل عن الجمال الذي يعكسه هذا الفيلم، فالبهاء فيه حاضر في الاستطيقا الموسيقية، أي في جماليات الموسيقى الكلاسيكية المعزوفة من خلال البيانو، والتي تُمتِع الأذن وتطربها. ولأن الفيلم رغم كل شيء باعث على الملل، فلا يصلح لكي يكون طبقًا سينمائيًا يرجو منه المرء التسلية والترويح عن النفس، وذلك لأنه لا يدغدغ الوجدان بل يُخاطب عقل المتلقي. إنه يدعو إلى التأمل والتفكير، ولهذا لا يُنصح به لمن يبحث عن الراحة والاستراحة، لأنه متعب للذهن ويحتاج منك أيها المُشاهد أن تكون يقظًا.
الإنسانية والصداقة
يحكي فيلم Green Book عن النزعة العنصرية في الإنسان، إنه حسب رأيي من النوعية التي تنحو إلى التجريد في المعالجة، وذلك لأنه يناقش فكرة العنصرية أساسًا. ربما يقدم مثالاً جزئيًا حسيًا من التاريخ، أي من تاريخ أمريكا العنصري في الماضي، لكن خطابات الشخصيات هي الباعثة على التأمل في العمق، لأنها تشير إلى العنصرية بما هي ممارسة كونية، قد لا يكون السود وحدهم المعنيين بالعنصرية، هناك عنصرية لا زالت تُعانيها المرأة، لا زالت بعض الإثنيات الأخرى تُعاني أيضًا، لا زال المشكل قائمًا. ولأن العنصرية ما زالت قائمة، فالفيلم يجاري الحاضر رغم أنه يُصَوِّرُ الماضي، فالفكرة التي يعالجها تمتد في العمق في حاضرنا.
قد يصح القول بأن الفيلم تعيبه السطحية مادام يكتفي بإظهار وجهة نظر السائق طوني الأبيض فقط، إلا أن المشاعر التي يبثها الفيلم، عبر الموسيقى، ومزاج الفيلم المتجسد في إيقاع سير الأحداث، كلها رمزيات سينمائية توحي بمكنونات العازف الأسود السيكولوجية، فالرجل يعاني من الخواء العاطفي، لأنه يعيش وحيدًا دون أسرة، ربما يمنح هذا التعيس شيرلي السعادة لمن يعزف لهم، وهذه مفارقة عجيبة تحكي عن تعيس يُسعد الآخرين بينما هو غارق في التعاسة. ليس لشيرلي إذن جماعة حاضنة له بالمعنى العاطفي، فهو ليس متزوجًا، ليس له أسرة، لا أب أو أم له في الفيلم، وعلاقاته مختزلة ومحصورة في طاقم العمل الذي يشتغل معهم، وهي علاقة باردة وجافة ومحدودة جدًا، فهي تنحصر في المجال العملي فقط.
يكشف الفيلم إذن النقاب عن حقيقة أنطولوجية تتمثل في أن شيرلي في حاجة ماسة إلى صديق حقيقي، يتواصل معه ويعامله كشخص حميم، يستطيع أن يُحدِّثه في الأمور الخاصة، في الحب والهوايات، يخبره بالذكريات، يضحكان معًا، ويلهوان معًا، وقد وجد هذا الصديق في طوني أخيرًا. إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه كما يقول أرسطو، وشيرلي كان يشذ عن قانون الطبيعة البشرية هذا. لقد نجح الفيلم في جعلنا نشعر بهذا الشذوذ، بهذا الألم الساكن والصامت. ولهذا، أقول عن الفيلم بعد كل هذا التحليل، إنه قطعة فنية جميلة شكلاً وعميقة فكرًا، ولا حاجة أكثر لمزيد من الإيضاح.