بريطانيا العظمى والبحث عن أدوار جديدة بعد «البركسيت»
تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية،الخميس 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي
بهذه الكلمات لا تزال تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية تؤكد استمرارها في قرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي،معلنة السعي لبدء مفاوضات الخروج قبل نهاية مارس/آذار 2017.
وبينما توالت الآمال والمخاوف الدولية بشأن هذا القرار ومستقبل سياسة المملكة الخارجية، سارعت بريطانيا لتأكيد أنها هي من تحدد هذه السياسة، عبر العديد من التصريحات والفاعليات على الساحة الدولية. نستعرض في سياق التقرير أبرز التحركات البريطانية على الخريطة السياسية الدولية استعدادًا للخروج الفعلي من الاتحاد الأوروبي.
تقاربًا أكبر مع القوى الكبرى
وظهر هذا التوجّه بوضوح، خلال «قمة العشرين» في سبتمبر/أيلول الماضي، والتي أوضحت خلالها تيريزا ماي أبرز ملامح التوجهات البريطانية، مؤكدةً أنها ستكون بلدًا «مفتوحًا للأعمال»، وذلك في محاولة لتعويض الخسائر المحتملة التي ستعقب خروجها من الاتحاد.
وفي هذا الإطار شددت رئيسة الوزراء على أهمية العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة، وضرورة استمرار التعاون أيضًا في مجالي الدفاع والأمن، هذا في الوقت الذي تراجعت فيه عن انتقاداتها السابقة للرئيس المنتخب دونالد ترامب، حيث قالت: «ترامب فاز في حملة صعبة ونريد استمرار العلاقات الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة».
أما عن روسيا، فتنتقد بريطانيا سياسات الاتحاد الأوروبي تجاهها، والتي تنظر لموسكو على أنها دولة متسلطة، حيث ترغب في إزالة الفتور في هذه العلاقات وتوثيقها اقتصاديًا، وهو ما أكدته ماي خلال لقائها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بـالقمة، حيث تم بحث مشكلة هبوط حجم التبادل التجاري والاستثماري.
كما تتجه ماي نحو تطوير «شراكة إستراتيجية» مع الصين كونها ثاني اقتصاد في العالم،مشددةً على أهمية بناء عصر ذهبي للعلاقات بينهما، كما تم التأكيد على هذا خلال أعمال «الحوار الإستراتيجي الصيني البريطاني» الذي عُقد في ديسمبر/كانون الأول الحالي بلندن، هذا في الوقت الذي أعلن فيه بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني «أن بلاده ملتزمة بدفع التعاون المشترك مع الصين في التجارة والطيران وإقامة البينة الأساسية».
وفي إطار هذه الإستراتيجية، فقد كان متوقعًا أن تتوجه المملكة المتحدة نحو الهند كونها من أسرع الاقتصادات نموًا، ومن هنا فقد اختصتها تيريزا ماي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بأول زيارة لها خارج أوروبا منذ توليها المنصب، حيث سعت للتمهيد لتوقيع اتفاقية تجارة حرة معها، كما وعدت بتسهيل دخول رجال الأعمال الهنود إليها، وهو ما أسفر عن إبرام العديد من الاتفاقيات التجارية بينهما.
ومع هذا تبقى مسألة الرفض البريطاني لزيادة عدد تأشيرات دخول الهنود إليها أحد النقاط العالقة في أي محادثات بين الطرفين، حيث تشدد الهند دائمًا على ضرورة السماح بدخول أكبر عدد من طلابها وعمالها، وهو مالا تسمح به لندن.
المصلحة البريطانية العليا أولًا
وبالنظر لسياسة لندن تجاه الاتحاد الأوروبي، فيمكن القول أنه بالرغم من تأكيدها على أهمية العلاقات مع كافة الدول بداخله، إلا أن رئيسة الوزراء قد أكدت أن الحكومة ستقوم بتحديد هذه السياسة وفقًا لما تمليه المصلحة البريطانية، أي الحفاظ على العلاقات الاقتصادية بشرط التحكم في قضايا الهجرة من أوروبا إلى بريطانيا، وهي بذلك تؤكد أن علاقاتها معه ستكون إتفاقيات بين الطرفين.
كما أعلنت ماي عن مشروع قانون «الإلغاء العظيم» الذي يهدف إلى تبديل جميع قوانين الاتحاد الأوروبى المعمول بها فى المملكة إلى قوانين بريطانيا المحلية.
وبينما تتعدد المساعي البريطانية للاحتفاظ بحرية التجارة مع الاتحاد،رفضت ماي التأكيد إن كانت ستسعى إلى احتفاظ بلادها بحرية التعامل مع السوق الأوروبية المشتركة في مفاوضات المغادرة، لكن تشديدها على إلغاء حرية تنقل الأفراد التي تشكل مبدأً جوهريًا للسوق الموحدة، أثار تكهنات بشأن انفصال بريطانيا تمامًا عن الكتلة.
وفي المجال الدفاعي، فسيستمر الالتزام بالتعهدات إزاء حلف «الناتو»، والتي اشتملت على التصدي للتهديدات المختلفة، كما جهّزت ماي خطة استثمارية عسكرية جديدة تبلغ قيمتها 178 مليار جنيه استرليني لبناء حاملتي طائرات جديدتين.
هذا في الوقت الذي دافعت فيه تجديد الترسانة النووية، كما رفضت بشكل قاطع التخلص منها،مؤكدةً أنها لن تتورع عن استخدام السلاح النووي إذا ما تعرضت لأي تهديد حتى لو أدى ذلك إلى مقتل عشرات آلاف الأبرياء، وربما مئات الآلاف!
ماذا عن الشرق الأوسط؟
وفي إطار المساعي البريطانية للبحث عن الشراكة، توجهت نحو الشرق الأوسط، والتي كانت بالفعل سياساتها معه مستقلةً عن الاتحاد الأوروبي، ولذلك لم تُعد صياغتها بشكل جذري غير أنها أولت اهتمامًا أكبر بالاستثمار، على حساب حقوق الإنسان.
لندن ضيف القمم الخليجية بدلًا من واشنطن
اتجهت لندن لتوثيق علاقاتها التجارية والدفاعية مع دول الخليج، التي تواجه على الجانب الآخر العديد من التحديات الأمنية والاقتصادية على خلفية انخفاض أسعار النفط والتراجع الأمريكي.
ومن هنا فقد استضافت في أغسطس/آب الماضي ملك البحرين «حمد بن عيسى»، حيث شددت رئيسة الوزراء على اتجاهها لتعميق التعاون الخليجي وبناء قواعد عسكرية جديدة بالمنطقة، هذا إلى جانب استضافتها أيضًا لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني في سبتمبر/أيلول، وتم التأكيد على أهمية العلاقات بين البلدين.
كما استطاعت ماي إطلاق «شراكة إستراتيجية خليجية» في المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية، خلال مشاركتها لأول مرة بأعمال القمة الخليجية الــــ37 في ديسمبر/كانون الأول الحالي، والتي نوهت خلالها على أهمية الاستثمار في مجالات التسليح، ومواجهة الإرهاب.
فيما شددت على ضرورة إيجاد حلول سياسية لأزمات المنطقة في سوريا واليمن والعراق، وهو ما ظهر جليًا من خلال تقديمها بالشراكة مع واشنطن عدد من المبادرات لحل الأزمة اليمنية، وإعلان عدم توسيع عملياتها العسكرية بسوريا مكتفيةً بدورها في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة.
هذا فضلًا عن توجهها نحو تعزيز العلاقات مع مصر، والتي ظهرت في اللقاءات التي عقدت في أغسطس/آب الماضي بين رئيسة الوزراء والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حيث شددت على ضرورة استقرار النظام المصري الحالي.
الصراعات الإقليمية
أما موقفها من إيران، فقد جاء على العكس مما توقعته طهران، فعلى الرغم من ترحيبها بهذا البركسيت إلا أن لندن تخلت عنها لصالح دول التعاون الخليجي، عبر التصريحات المستمرة بضرورة مواجهة التهديدات الإيرانية بالمنطقة، وأهمية الشراكة الخليجية حتى لو على حساب الجانب الإيراني، كما تُعد ماي من أكثر المتشددين تجاه البرنامج النووي لطهران.
ومثلما كانت لندن «البركسيت» أحد الداعمين لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، نراها الآن تتجه إلى تعميق التعاون بينهما عبر السعي لاتفاق تجارة حرة معها، كما أدانت محاولة الانقلاب الفاشلة، التي شهدتها مؤخرا.
ديفيد كواري، السفير البريطاني لدى إسرائيل
وإلى جانب هذا، فإن بريطانيا تميل نحو مزيد من الانفتاح على إسرائيل، حيث أعلن ديفيد كواري سفيرها لدى تل أبيب «أن هذا الخروج سيضع فرصة لتعاون وثيق في التجارة والاستثمار والتكنولوجيا والأمن».
وعلى الرغم من انتقادها المستمر للسياسات الإستيطانية، إلا أنها من جهة أخرى ما زالت تبيع الأسلحة لإسرائيل، حتى بلغت قيمة مبيعاتها من الأسلحة منذ إبريل/نيسان الماضي نحو 65 مليون جنية إسترليني، مقارنه مع 9.5 مليون لعام 2015 بكامله.
ما بعد الخروج
تماشيًا مع ما سبق، في ظل المساعي البريطانية لتعميق التعاون الاقتصادي مع دول العالم، من المتوقع، التوجه لإعادة التفاوض على علاقاتها التجارية مع عدد من الدول الأخرى مثل المغرب والجزائر وتونس، نظرًا لارتباطهم باتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
أما سياساتها إزاء الأمم المتحدة ومنظماتها، فتشير التوقعات إلى استمرار مشاركاتها الفعالة في هذا الإطار، وبالتالي ستستمر في تأييد عمليات الحد من التسلح التابعة للمنظمة.
وفي النهاية يمكن تلخيص إستراتيجية المملكة المتحدة في أنها تسعى لتدويل القوة البريطانية، باحثةً عن تعزيز وجودها كدولة كبرى، وهو ما يستلزم إعادة توطيد سياساتها بالشرق الأوسط وتقوية آفاق التعاون مع الدول الكبرى.