يخبرنا تاريخ الحضارات القديمة أن الشمس هي مصدر الإلهام الذي لازم البشر، والإله الذي استحق العبادة وتقديم القرابين البشرية من أجله في حضارات قديمة متعددة؛ حيث لا يوجد في سماء الأرض ما هو أشد لمعانًا وضوءًا ودفئًا منها.

لكن ما الشمس في النهاية سوى نجم وجرم سماوي شرس ترتفع درجة حرارة مركزه لملايين الدرجات المئوية، وتتفاعل مكوناته في تفاعلات نووية تفوق التصور، مصدرة بذلك أشعتها الملتهبة صيفًا؛ لتحنو علينا بعد ذلك في شتاء قارس فتمدنا ببعض الطاقة والدفء. وبرغم ذلك؛ ماذا سيحدث إذا وقع القمر حائلًا بينها وبين الأرض؟


موعد مع كسوف كلي في أمريكا الشمالية

خريطة توضح مسار الكسوف الكلي في أمريكا الشمالية، قاطعًا ولايات متعددة

يترقب العالم الكسوف الكلي للشمس الذي سيحدث خلال أيام في الـ 21 من آب/ أغسطس الجاري في أمريكا الشمالية. تشمل مساحة الكسوف نحو 113 كيلومترًا تمتد من ولاية أوريغون إلى ولاية كارولينا الجنوبية مرورًا عبر مناطق هي: أيداهو، وايومنغ، نبراسكا، كانساس، ميسوري، إلينوي، كنتاكي، تينيسي، جورجيا، وكارولينا الشمالية والجنوبية.

هذا الكسوف الكلي للشمس والذي يعبر القارة الأمريكية الشمالية يعتبر حدثًا نادرًا؛ حيث شوهد آخر كسوف كلي في العام 1979، ومن المنتظر حدوثه مرة أخرى في العام 2024.


هيباركوس Hipparchus

يعد الفلكي وعالم الرياضيات اليوناني «هيباركوس – Hipparchus» الذي عاش منذ أكثر من 2000 عام؛ من أوائل العلماء الذين قالوا إنه يمكن استثمار الكسوف الكلي للشمس في العلم بشكلٍ ما. فحين تُحجب أشعة الشمس؛ يمكن ملاحظة أي شيء حولها بشكل واضح أثناء ذلك. كما كان يعلم هيباركوس أن الكسوف الكلي يمكن أن يكون وسيلة جيدة لإيجاد حل لمشكلة الهندسة السماوية، أو معرفة أي تفاصيل عنها.

فكان يرى أن هناك سرًّا ما حول حدوث تفاوت في مناطق وجود الكسوف الكلي للشمس، والذي يمنع أشعتها من الوصول إلى الأرض تمامًا في شمال غرب تركيا، لكن في الإسكندرية مثلًا؛ لم يحجب الكسوف سوى أربعة أخماس من أشعة الشمس. وفي القرون الأخيرة، استخدم العلماء الكسوف الكلي كفرصة لدراسة النظام الشمسي، ودراسة الشمس نفسها.


هندسة كونية

توضيح لحالة الأجرام الثلاثة (الشمس، القمر، الأرض) أثناء الكسوف الكلي

يمر القمر بين الأرض والشمس في مداره بشكل عادي دون حدوث أيّ ظواهر كونية؛ بسبب أن مدار القمر إما يكون أعلى أو أسفل بقليل من مستوى الشمس. لكن إذا وقع مدار القمر على مستوى واحد من الشمس، ومر القمر بينها وبين والأرض؛ فإننا نرى ظاهرة «الكسوف الشمسي – solar eclipse» حيث يختفي جزء من الشمس، أو تختفي كليًا.

في حالة الاختفاء الكلي؛ تسمى هذه الظاهرة «الكسوف الكلي – Total eclipse» حيث يغطي قرص القمر الشمس كاملة، ويظهر ظله كاملًا على سطح الأرض لمدة دقيقتين و40 ثانية. يحدث كسوف الشمس بمعدل مرتين إلى خمس مرات كل عام في المتوسط؛ لكن كسوف الشمس الكلي يحدث مرة واحدة كل 18 شهرًا في مناطق مختلفة في كوكب الأرض.

تخبرنا الهندسة الكونية أن ظاهرة الكسوف تحدث بسبب الاختلاف بين أحجام ومسافات الثلاثة الأجرام بالنسبة لبعضها البعض. فقطر القمر أقل حجمًا من قطر الشمس بنحو 400 مرة، ويتناسب بالضبط مع المسافة التي بين الأرض وبينه، والمسافة بين الأرض والشمس حيث تكون الشمس أبعد ما يمكن من الأرض بنحو 400 مرة من القمر.

في هذه الحالة؛ وبسبب عملية التناسب بين الحجم والمسافة؛ يظهر حجم القمر مساويًا تمامًا لحجم قرص الشمس.


رحلة إلى طبقة الأيونوسفير أثناء الكسوف الكلي

يتكون الغلاف الجوي للأرض من عدة طبقات على مسافات مختلفة، لكننا سنركز الحديث عن طبقة «الأيونوسفير – ionosphere» المتأينة؛ والتي تستمد وجودها من الأشعة القادمة من الشمس.

تعمل هذه الطبقة على امتصاص الأشعة فوق البنفسجية الصادرة من الشمس، كما أن لها تأثيرًا مباشرًا في وجود ظاهرة فلكية رائعة، وهي ظاهرة الشفق القطبي. هذه الطبقة من الغلاف الجوي لها دور كبير وأساسي أيضًا في التقاط الإشارات الراديوية، ودقة إشارات تقنيات مختلفة مثل تحديد المواقع، والاتصالات اللاسلكية.

تقوم أشعة الشمس بتأيين الذرات والجزيئات (نزع شحناتها) فيها على مسافة ما بين 75 – 1000 كم فوق سطح الأرض؛ تاركة تلك المنطقة مليئة بالإلكترونات الحرة سالبة الشحنة، والأيونات موجبة الشحنة.

عند حدوث الكسوف يتم حجب أشعة الشمس، والذي يؤدي إلى وقف عمليات التأين في منطقة الغلاف الجوي المعتمة. عندها تبدأ الإلكترونات المتأينة في العودة إلى ذراتها وجزيئاتها بالتالي يقل عددها. تبدأ بذلك عملية أخرى تعرف بـ «تعادل شحنات للغلاف الجوي – neutralizing the atmosphere’s charge». عند هذه المرحلة ولحين انتهاء الكسوف؛ ستصاب طبقة الأيونوسفير بحالة تشوه، ولن تقوم بعملها بصورة صحيحة.

لتقريب الصورة أكثر؛ تصور أن طبقة الأيونوسفير في حالتها الطبيعية (المتأينة) في وجود أشعة الشمس بصورة كاملة والتي تعمل على وجود الإلكترونات الحرة والأيونات بصورة كافية؛ هي عبارة عن مرآة مصقولة تقوم بعملها وبعكس الموجات الراديوية بصورة صحيحة.

عندما تبدأ الإلكترونات الحرة بالنقصان في حالة الكسوف الكلية في الطبقة -أي بسبب انعدام أشعة الشمس اللازمة لوجود الأيونات- تصبح هذه الطبقة مثل مرآة مكسورة، بالتالي ستعمل الطبقة بشكل غير طبيعي، وتقوم بعكس الموجات الراديوية بشكل مشوه.

وبالنسبة للكسوف الكلي المنتظر حدوثه في أمريكا خلال أيام؛ قدّم كل من «جوزيف هوبا ودوغلاس دروب – Joseph Huba and Douglas Drob» من مختبر أبحاث البحرية الأمريكية في واشنطن العاصمة، دراسة جيوفيزيائية عما يمكن أن يحدث لطبقة الأيونوسفير خلال الكسوف الكلي كالآتي:

– يقل عدد الإلكترونات بنسبة 35%

– تنخفض كثافة الإلكترونات بمقدار 50%

– تنخفض درجة حرارة الإلكترون بمقدار 15% في طبقة البلازما.

هذا الانخفاض في الإلكترونات الحرة يعمل على خلق اضطراب يظهر على طول خطوط المجال المغناطيسي للأرض.


محظوظون في نظامنا الشمسي

صورة التقطتها المركبة «Mars rover Curiosity» لكسوف حلقي على المريخ في الـ 20 من أغسطس/آب عام 2013 (اليوم 369 على المريخ)

بجانب أن الأرض هو الكوكب الآمن الذي يحتوينا في الكون؛ فإنه يعتبر الكوكب الوحيد في المجموعة الشمسية المحظوظ بظاهرة الكسوف الكلي بسبب موقعه في النظام الشمسي. فإذا قدّر لنا العيش على سطح المريخ مثلا؛ سنرى نوعًا من الكسوف يسمى «الكسوف الحلقي – annular eclipse».

فالمريخ يمتلك قمرين «ديموس – Deimos»، و«فوبوس – Phobos» الذي يعتبر أكبر حجمًا من ديموس. حين يقع فوبوس أمام الشمس؛ يظهر كنقطة سوداء وسط قرص الشمس بسبب بعد الكوكب وأقماره بالنسبة للشمس.


ما وراء الشمس؛ بماذا يفيدنا الكسوف الكلي؟

الكسوف على سطح المريخ

الأحداث الكونية التي نرصدها، أو تلك التي تقع خلف عوالم خفية لا نستطيع رصدها؛ جميعها تدلنا على شيء ما في عالمنا على كوكب الأرض. فمن خلال ظاهرة الكسوف الكلي؛ استطاع علماء مختلفون رصد اكتشافات متنوعة كالآتي:

1. خلال كسوف الشمس الكلي في عام 1869، لاحظ اثنان من العلماء الأمريكيين هما «تشارلز أوغستس، ويونغ وويليام هاركنيس – Charles Augustus Young, William Harkness» خط أخضر خفيف يظهر بشكل غريب في الغلاف الخارجي للشمس الذي يعرف باسم «كورونا – the corona» والذي يمتد من الشمس لملايين الكيلومترات إلى الفضاء، ويمكن رؤيته بسهولة خلال الكسوف الكلي.

افترض العلماء أن هذا الضوء قد يكون انبعاثًا لعنصر جديد أطلقوا عليه «كورونيوم – coronium». وحتى العام 1930 لم يدرك العلماء أن الكورونيوم ليس عنصرًا جديدًا؛ بل هو عنصر الحديد المتأين (+Fe13). هذا الاستنتاج أدى إلى فتح باب جديد في دراسة الشمس؛ مثل قياس درجات الحرارة الهائلة على سطح الشمس؛ والتي تبلغ آلاف الدرجات المئوية.

2. مهدت أفكار آينشتاين الطريق للاستفادة من تجربة الكسوف. ففي عام 1919؛ لاحظ عالم الفلك البريطاني «آرثر إدينجتون – Arthur Eddington» انحناء ضوء النجوم الواقعة خلف الشمس، وتحققت نتائج ملاحظاته من توقعات النظرية.

3. أثناء الكسوف الكلي؛ ستظهر النجوم والكواكب مثل؛ عطارد، الزهرة، المريخ في وضح النهار، ويمكن أن يظهر كوكب المشتري حسب موقعه أثناء حدوث الكسوف.

4. خلال الكسوف الكلي وعندما تختفي الشمس، وتنخفض درجات الحرارة، وتهدأ الرياح؛ يمكن دراسة الطقس أيضًا. فباستخدام بيانات محطة الطقس من كسوف عام 1900 الذي عبر أمريكا الشمالية؛ لاحظ عالم الأرصاد الجوية «كلايتون – H.H Clayton» أن الرياح تغير اتجاهها.

وخلال كسوف عام 2015 في إنجلترا قام الدكتور «هاريسون – Harrison» وزميل له بتحليل بيانات محطة الطقس، وجمع معظم الملاحظات عن الطقس من علماء آخرين؛ وجد الباحثون أن اتجاه الرياح قد تغير من 20 إلى 30 درجة بسبب أن الهواء الدافئ قد توقف عن الارتفاع من الأرض.

أخيرًا؛ بجانب الأحداث الكونية الأخرى؛ يعد الكسوف الكلي أحد الظواهر التي تضعك في حالة تأمل وإدراك لوجودك على كوكب الأرض. فعندما يختفي قرص الشمس في وضح النهار؛ تدرك أن هناك خطبًا ما، وأن دوران الأجرام حول بعضها في حالة تغير بحيث تعطيك لمحة عن شيء ما يحدث فوقنا.

لحسن حظ سكان الولايات المتحدة الأمريكية سيشاهدون الكسوف الكلي هذه المرة والذي لن نشهده في المنطقة العربية للأسف، على أمل أن نشهد الكسوف الكلي الذي سيقع فوق منطقتنا عام 2027 إن شاء الله.