الاستيلاء على المصحة: الطب النفسي النقدي والنضال الاجتماعي
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
قُبيل اليوم العالمي للصحة النفسيّة في 10 أكتوبر 2015، لا بد أن نُعيد النظر في كيف أنّ حركة «معارضة الطب النفسيّ Anti-psychiatry» سعت جاهدة في الستينات والسبعينات مِن القرن المُنصرم لإحداث ثورة في الطب النفسي عن طريق نقد قيم المجتمع الرأسمالي في مجملها. فالمرض العقلي، حسب رأيهم، كان نتيجة لمنظومة شاملة من الظلم الاجتماعي والمؤسسي. هذا التوجُّه، بالإضافة لجهود تحرير الفرد المركزية، اصطفوا جنبًا إلى جنب مع حركة الأطباء النفسيين الراديكاليين واندمجوا في حركة «طرح المؤسسة L’istituzione negata (The Institution Denied) 1968».
نقدم هنا مقتطفات مُعدّلة من كتاب «الرجل الذي أغلق المصحات: فرانكو بازاڤليا والثورة في مجال الصحة العقلية The Man Who Closed the Asylums: Franco Basaglia and the Revolution in Mental Health Care» الذي قدم فيه الكاتبجون فوت بورتريه لشخصية دكتور فرانكو بازاڤليا، والأطباء النفسيين النقديين الذين برهنوا على أن علاج «المجنون» يستوجب توجيه النقد أيضًا «للعاقل»، وكيف أن التمرد ضد المصحة كمؤسسة سيتشابك ويؤدي بالضرورة للتمرد ضد المجتمع نفسه.
حركة معارضة الطب النفسي Anti-psychiatry
اليوم، أصبح من الصعب دراسة حركة «معارضة الطب النفسيّ» أو حتى الوقوف عليها. إلا أنّها في وقتها كانت حركة انتقائية معبرة عن روح العصر والمزاج العام. لقد كانت خروجًا عن المألوف أيضًا، صرخة احتجاج، جامعة للعديد من المعاني ووسيلة لدفع مجال الطب النفسي للأمام. كانت كذلك رد فعل عاطفي ضد نظام مروِّع. لقد كانت المصحة النفسية والطريقة التي تم التعامل بها مع المرضى النفسيين والطريقة التي تم بها اعتبار أُناس أصحاء مرضى نفسيين مثالا واضحًا على مدى قمعية النظام الرأسمالي.
لقد ركزت المصحات النفسية بشكل مؤسسي على العمل السياسي. فلاقت أفكار مثل أن «العقل يُمكن تحريره» وأن «النظام والأسرة قادوا الناس للجنون» وحتى أن «العقلاء هم المرضى العقليين في حقيقة الأمر»؛ أقول: لاقت رواجًا داخل الحركات الراديكاليّة في الستينات. فقد كتب جيرفيس عام 1968:
«الأطباء النفسيون لم يكونوا خدمًا للسلطة، بل كانوا جزءا لا يتجزأ من السلطة نفسها».
كانت مكافحة الطب النفسي مَيْلًا عالميًا راديكاليًا للنظر للأمراض النفسية على أنها مِن صُنع للمجتمع.
لقد كانت حركة «معارضة الطب النفسي» في القلب من تلك الحركات والتيارات والأفكار. ففي عام 1967، نُظم مؤتمر احتفالي بديالكتيك التحرر، في مزرعة راوند هاوس شمال لندن، قام عليه عدد صغير من الأطباء النفسيين الراديكاليين وكان المتحدثون الرئيسيون فيه هم: رونالد لينق، جوزيف بِرك، جريجوري باتيسون وديفيد كوبر. وسريعا ما أصبحت وقائع المؤتمر على رفوف كتب معظم النشطاء اليساريين، كما ترجمت لعدة لغات حول العالم. وقد أصبح لكل بلد حركتها الخاصة المناهضة للأمراض النفسية، وقادة بأعينهم ذوي كاريزما معينة وصفات خاصة، كما أصبح لتلك البلاد معجمها الدلالي الخاص بالحركة حسب الموقع الجغرافي. لقد أصبحت الحركة عابرة للحدود فعلا، وأصبح هناك تبادلًا مستمرًا للأفكار، للأشخاص، للمنشورات، للنصوص والتراجم. لقد سافر المتطوعون بين البلدان كما أصبح لمناهضي الأمراض النفسية قنوات اتصال حول أوروبا. لقد وصلت الحركة للقاصي والداني، وصارت آثارها طويلة الأمد. فالصراع لم يكن ببساطة بين الأطباء النفسيين ومعارضي الأمراض النفسية. لقد كانت رحى المعركة دائرة بين أكناف الطب النفسي ذاته، حول ما يجب أن يكون عليه الطب النفسي فعلا، وما يحقق روح المهنة.
في هذا الصدد، حاول الأطباء النفسيون الراديكاليون فهم المرض النفسي كظاهرة اجتماعية. فما هو معروف بمرض عقلي حسب تصورهم هو نتاج بعض القوى الاجتماعيّة داخل/خارج المُحيط الأسري. لقد أصبحت هذه الرؤية عند بعض الكُتَّاب هي جوهر الطب النفسيّ. فالبنسبة لجوليان بورج: «كانت مكافحة الطب النفسي مَيْلًا عالميًا راديكاليًا للنظر للأمراض النفسية على أنها مِن صُنع للمجتمع، فحملت الحركة في طياتها روح التمرد المناهضة للاستبداد مِن قبل المرضى العقليين والقائمين على رعايتهم».
في بعض الأحيان، امتدَّ هذا التحليل الاجتماعي للأمراض العقلية ليشمل كل أنظمة الرعاية الصحية، التي أفضت بدورها لنقد هياكل السلطة الرأسمالية التي تقمع أي انحراف عنها. وعليه، فقد ضافرت خيوط الطب النفسي الراديكالي بين الماركسية وبعض تيارات الماوية (تيار ماركسي ينتسب للزعيم الصيني ماو تسي تونج – م): «بوصفهم خصوم لهياكل السلطة، وبدائل مطروحة في الثورة الثقافية». بذلك أدت حركة 1968 لظهور أفكار جديدة لمكافحة الاستبداد. من ثمَّ، كانت «معارضة الطب النفسي» حركة نقدية لنفسها ولغيرها على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي، كله في آن واحد. ولفهم «معارضة الطب النفسي» نحن في حاجة للنظر بتمعن في الموضوع، فكما يقول بيتر برهام: «لقد كانت حركة هامة في التاريخ الثقافي أكثر منها حركة بارزة في الطب النفسي».
وللتعمق بشكل أكبر في هذا المصطلح، فإننا نقسّم مواقف قادة «معارضة الطب النفسي» إلى عدد من التوجهات المختلفة كالآتي:
كذلك، فإن جزء من طبيعة «معارضة الطب النفسي» يُفهم مما كانت الحركة تناهضه. دعونا نقتبس مرة أخرى: «أن جوهر حركة ’معارضة الطب النفسي‘ ينبع من اعتبار أن الطب النفسي نفسه جزءًا من المشكلة».
وعليه، فإن حركة معارضة الطب النفسي في أواخر الستينات وحتى أوائل السبعينات كانت حركة سياسية دولية تسعى إلى إعادة تعريف المنهج والممارسة بشكل جذري. لقد تحولت حتى لطائفة كبيرة، لقد ضمت الحدود المرنة للحركة أطياف متعددة، ما كان بدوره نقطة قوة في الحركة ولكن أيضا نقطة ضعف واضحة! فالاتفاق على أمر ما بينهم كاد يكون مستحيلا. لقد تطورت الفرق والمجموعات على أسس صراعات شخصية، وأضحى الجدال بينهم لا ينتهي. جدير بالذكر والثناء، أنّ بازاڤليا حاول بسبب ذلك إنشاء جمعية «الطب النفسي الديمقراطي Psichiatria Democratica» معتمدا على هذا العدد الهائل من النشطاء، إلا أن الصراعات الداخلية شلّت حركته تماما. الشيء نفسه حدث مع منظمة «المظلّة Umbrella» الدولية التي حاولت جمع معارضي الطب النفسي تحت لوائها.
فرانكو بازافيليا رائد الطب النفسي الراديكالي.
يمكن أيضًا فهم مكافحة الطب النفسي كصيغة جامعة من صيغ المنهجية Methodology. فقد كان هناك في ذلك الوقت محاولة للانقلاب على السائد، بما في ذلك الهياكل الفكرية وحتى الأنظمة السلطوية الطبية. لذلك فإن عنصر «المعارضة The Anti» كان عنصرا حاسما في عمل الحركة. فتم رفض الهياكل المؤسسية السلطوية في كافة أشكالها، والمتجسدة في: المعلمين، الأطباء، الأطباء النفسيين، الكهنة، المحاضرين والسياسيين. لقد تبارى السلطويون عادة في إنكار سلطويتهم، من خلال تجريد أنفسهم من رموز تلك السلطة (كالمعاطف البيضاء، مثلا كخطوة أولى، لكنهم احتفظوا بالألقاب)، أو من خلال الادّعاء بأنهم مِن نفس مستوى مَن يعالجوهم، يدرسوهم أو يعظوهم.
المؤسسات: المصحة والأسرة
لطالما اتخذ أنصار «الطب النفسي النقدي critical psychiatry» مواقف جدية وجذرية فيما يتعلق بالمؤسسات النفسية التقليدية. فقد طالب بعضهم بإغلاق أو إلغاء المصحات النفسية وكان هذا مطلبًا مُلِحًّا (وهو الموقف الذي تمسك به بازاڤليا رسميًا منذ أوائل الستينات فصاعدًا)، وفي الوقت نفسه الاستمرار في العمل داخل المصحات النفسية للعمل على إصلاحها وأنسنتها (جعلها إنسانيّة). آخرون قاطعوا النظام كليا مثل أتباع لينق في المملكة المتحدة. إلا أن الجميع اختلفوا حول ما الذي يمكنه أن يحل محل المصحات النفسية، والخطوات الواجب اتباعها لإغلاق المصحات النفسية. فقد جادل البعض بأن المرضى يجب ببساطة إطلاق صراحهم. آخرون رأوا أنه من الضروري إنشاء مؤسسات جديدة من شأنها حل محل المصحات العقلية، يعمل بها عدد من الأطباء النفسيين بدون موظفين.
فبخلق بدائل تقوم بعمل الأسرة، عبر الهروب من المنزل، البحث عن طريق خاص، أو ممارسة المثلية الجنسية أو الجنس الجماعي، شعر الناس أنهم يتخلصون من الآثار المدمرة لأسرهم.
كان هناك توجهات أيضًا للتعامل مع الأمراض النفسية والعقلية «مِن حيث تنبُع» في المجتمع، داخل الأسرة، وهي استراتيجية من شأنها (نظريا) أن تُلغي الحاجة للمصحات العقلية أساسا. هذا ليس كل شيء، لقد ظلت هناك نزاعات حول ما يسبب الأمرض العقلية. فقد طور معارضو الطب النفسي الفرنسيون استراتيجية مختلفة، وهيالعلاج النفسي المؤسسي، حيث قبلت تلك الاستراتيجية بضرورة قبول مؤسسة سواء مصحة أو عيادة؛ لكن يجب تشغيل تلك المؤسسة بطريقة مختلفة جذريا، وهو ما يعتبر انقلابًا مِن الداخل. آخرون نادوا بـ اللامركزية المؤسسية، إصلاح قطاع الطب النفسي، بالرغم من أن تلك التوجهات كانت تعني الإبقاء على جزء من نظام المصحات كما هو دون مساس.
كذلك ارتبط الطب النفسي النقدي بمجموعة من الانتقادات الحادة الموجّهة لنظام المؤسسة والتي أصبحت في مرمى النار في أواخر الستينات في جميع أنحاء العالم، تلك المؤسسة هي الأسرة. لقد نُظِرَ للأسرة مِن قِبل العديدين على أنها المكان الذي يتم فيه خلق الأمراض النفسية، أو هي على الأقل المكان الذي يُمكِن فيه فهم سبب المرض وطبيعته. فقد تناولت أبحاثلينق أُسر مرضى الشيزوفرينيا بقدر ما تناولت المرضى أنفسهم. ولفهم حالة المجنون، يُعتقد، أننا في حاجة للتبصر في حال العاقل أيضًا. فعبر الهروب من محيط الأسرة، أو خلق بدائل تقوم بعمل الأسرة الجوهري، (مثل: الهروب من المنزل، البحث عن طريق خاص، أو ممارسة المثلية الجنسية أو الجنس الجماعي)، شعر الناس أنهم يتخلصون من الآثار المدمرة لأسرهم، وبالنسبة للكثير من الشباب في الستينات والسبعينات كان هذا الأمر ضروريا. لقد احتاجوا إلى الفرار بشكل ما من أسرهم.
معارضة الطب النفسي وحركة 1968
لقد كان الطب النفسي الراديكالي جزءًا من حركة أكبر، ولفهم ذلك نحن بحاجة للنظر بعمق في حركة 1968 و1970. السماح بتحرير النفس، تلاقت هذه النقطة مع فلسفة حركة 1968 المنكرة للمؤسسات. فبمواجهة من يتم وصفهم بأنهم مرضى عقليون، اضطر الناس لتفحص أنفسهم والتساؤل عن طبيعة حياتهم ودورهم في المجتمع. فتم تجاوز الحدود في كل قطاع من قطاعات المجتمع. وأصبحت العلاقات والارتباطات ذات أهمية حيوية في حركة الطب النفسي النقدي. لقد غيرت تلك العلاقات من حياة الجميع، بمن فيهم الأطباء، الممرضات والمتطوعيين.
فالطب النفسي النقدي لم يكن أبدا مجرد طب نفسي. لقد ربط بين الصحة النفسية، المجتمع، الأسرة، الدولة ومؤسساتها وممارسات المهنة ذاتها. فكما وضح دكتور بازاڤليا، فإن معارضة المؤسسية ومعارضة الأمراض النفسية لا يمكن أن يظل حبيس مجال الطب النفسي وحده بل يجب أن يمتد ليشمل تغيرات اجتماعية وسياسية، ومع ذلك يجب أن يستمر الأطباء النفسيون في العمل في إطار مجموعاتهم.
لقد كانت أفكار وممارسات بازاڤليا محاولة لكشف الطريقة الوحشية التي تعمل بها آلالات الدولة، ومدَّ هذا التحليل ليشمل كافة قطاعات ومؤسسات الدولة.
جدير بالذكر، أن بازاڤليا وغيره من الأطباء النفسيين الراديكاليين هم من ساهموا في ظهور حركة 1968 بل وكانوا جزءا منها. كذلك، قوت وساندت الحركة أعضاءها الراديكاليين ما ساهم بدوره في انتشار كتاباتهم. إلا أنهم كانوا ضحايا لأسوأ تجاوزات الحركة في نفس الوقت: الإفراط في الخطابات البلاغية، الميل للشعارات وتبسيط القضايا والإسهاب المفرط.
في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أنشأت الحركة سلسلة من اليوتوبيات «مجتمعات مثالية» للعمل والعيش فيها لاختبار أشكال بديلة من الرعاية الصحية لنشر فكرة التغيير الجذري. وكان الهدف من هذه الأماكن، كما قيل، أن تلتحم النظرية بالممارسة، وهذا بدوره قد يلهم الآخرين. فكانت جوريتسيا [1] وكينجسلي هول [2]، بالرغم من الاختلاف بينهما، أماكن للعمل على عدة مستويات. لقد كانت مجالس جوريتسيا نماذج للّقاءات المفتوحة والتي هيمنت على حركة 1968 سواء في الجامعات، المصانع، المناطق السكنية أو المدارس. لقد حملت مجالس جوريتسيا رسالة بسيطة وهي: أن للجميع الحق في الكلام كما يشاءون. وكما كتب أغوستينو بريللا لاحقا:
«للمرة الأولى، يتم عقد الاجتماعات والتجمعات مع جميع ممثلي الأنظمة المؤسسية (بدءًا من المرضى أنفسهم)، فكان يتم النظر إلى تلك اليوتوبيات على أنها بديل لمستشفيات المجانين ذات القواعد الهرمية–القمعية والقواعد الشمولية»
كانت هذه الاجتماعات أيضا نموذجا أوليا لسنة 1968 كمشهد، وكحدث يمكن سرده، تصويره، تسجيله، تدوينه، دراسته، وفي نهاية المطاف، بيعه كسلعة. كان كل شيء يجري في العلن، ويمكن مراقبته.
لقد كانت مصحة جوريتسيا خطوة انتقالية في مسيرة طويلة صوب، وفي نفس الوقت ضد، المؤسسات، التي ستأخذ هيئة منظمات أخرى لاحقا، مثل الجامعات، المدارس، القضاء وقطاع الطب بشكل عام. وقد كانت تلك التغيرات متأثرة بالقضايا التي برزت بعد الثورة الثقافية في الصين، التي من شأنها إحداث انقلاب في هياكل السلطة وإذلال من تولّى مقاليدها. لقد كانت أفكار وممارسات بازاڤليا محاولة لكشف الطريقة الوحشية التي تعمل بها آلالات الدولة التي كانت تقمع أي مختلف عنها (خاصة الفقراء)، كذلك، مدَّ بازاڤليا هذا التحليل ليشمل كافة قطاعات ومؤسسات الدولة، بدءًا مِن مستشفيات الأمراض النفسية وصولا لبقية المجتمع. لقد كانت كتاباته حول «طرح المؤسسة 1968» قوية غاضبة وسريعا ما انتشرت حول العالم، حتى أن تعبيراته أصبحت شعارات طنانة في الحركة. لقد أصبحت السلطات محل استجواب، قُيّد النفوذ، تم التخلص من المعاطف البيضاء، مجازًا وفعلا. وهكذا، سريعًا ما تم الربط بين تجربة جوريتسيا وحركة بازاڤليا، فالحركتان كانتا ذات طبيعة واحدة، بل على عدة أصعدة، كانوا نفس الشيء.
لقد كان الطب النفسي الراديكالي قادرا على الجمع بين النقد الأدبي والأخلاقي للرأسمالية وللنظام.
بشكل سريع وغير متوقع، أصبحت المصحات العقلية مراكز رئيسية للتنظيم والتعبير عن حركة 1968 نفسها. حتى في المناطق المغلقة والسرية، في المناطق النائية، انفتحت العديد من المصحات على العالم وتحولت لأماكن للمناقشات والاجتماعات وشبكات من النشاط الثقافي والسياسي. لقد انتبه الناس للحركة وببساطة شاركوا فيها، تحدثوا وأنصتوا، تطوعوا للعمل وحتى تولوا مهام لا قبالة لهم بها. لقد كان بازاڤليا منفتحا على الحركات الطلابية كذلك، وأجرى اتصالات بتلك الحركات وقادتها في مدينة بولونيا وغيرها. بذلك ساهمت المصحات العقلية في المناطق القائمة فيها في الربط بين التغيير الاجتماعي، التغيير في المناطق الحضرية والإصلاح النفسي، كما كسرت الوصمة التي اتسم بها المرضى العقليون.
بشكل ما، فإن الأطباء النفسيين الراديكاليين الذين أنكروا سلطاتهم وحاولوا تقويض المؤسسة اقتربوا بشدة من فكرة جرامشي القديمة عن «المثقف العضوي». في هذا الصدد، يقول أورتليفا:
«لقد كان الأطباء النفسيون النقديون هم ربما الفئة الأولى من المثقفين الذين دخلوا في حوارات مباشرة مع الحركات الطلابية، وتعاملوا معهم ليس فقط كتلاميذ، بل كمتدربين أيضًا، فنقلوا أفكارهم وآراءهم النظرية والعملية لتحفيزهم، ما أعطى ثقلا سياسيا للنشاط الطلابي الذي كان مهددا بأن يبقى معزولا»
لقد أصاب النقد الراديكالي للمؤسسات ككل، والذي بدأه الأطباء النفسيون النقديون، وترا حساسا عند الطلاب الذين كانوا يقاومون سلطوية بارونات الجامعة. بذلك تمت إماطة اللثام عن عدد كبير من المؤسسات التي تعمل وفق المعايير الوحشية للنظام الرأسمالي. وهنا يقول أورتليفا:
«لقد أظهرت القراءة الكلية والصادقة والحقيقية لطريقة عمل المؤسسات ’حجم التعقيد‘ والوسائل المؤسسية الاجتماعية والنفسية التي تعمل بها السلطة ويتم بها القمع؛ لم يكن هناك أي مجال للتراضي أو التصالح»
لقد كان عدد المؤسسات مجازا، وفي الوقت نفسه واقعا، يستدل به على النظام ككل: «لقد ظهر التناقض الذي لا هوادة فيه بين القمع والتحرر.. المضطهِدين والمضطهَدين.. الضحايا والجزارين، لقد كانوا جميعهم هناك (في المصحة) واضحين بشكل جلي، وكان من المستحيل التوسط بينهم، أو الوقوف على الحياد».
هناك، كان يمكن العثور على المنبوذين، الضالين، معذّبو الأرض الذين خلفتهم الرأسمالية وراءها، يعيشون ويتنفسون في المصحات العقلية، السجون ودور الأيتام. لقد عرّى الأطباء النفسيون النقديون طريقة عمل تلك المؤسسات، وبنوا تحالفات مع الطلاب والعمال في الحركة. تلك التحالفات ارتبطت (شكلا ومضمونا) بشعار رئيسي آخر في تلك الفترة، الشعار الذي أطلقه رودي دوتشكه، وهو: «المسيرة الطويلة عبر المؤسسات The long march through the institutions»[3] بسبب هذا الجمع بين النظرية والتطبيق، أصبح الأطباء النفسيون الراديكاليون منهجا أيديولوجيا في تلك الفترة، وأحيانا، قادة سياسيون لحركة بأكملها. لقد كان الطب النفسي الراديكالي (على الأقل في البداية) قادرا على الجمع بين النقد الأدبي والأخلاقي للرأسمالية وللنظام؛ وكان لديه فكرة واضحة حول ما ينبغي القيام به لتغيير هذا الوضع، وكيفية القيام به. بمرور الوقت، أصبح ما ينبغي القيام به أكثر صعوبة. لكن بفضل 1968، فتحت الحركة أبواب كثيرة، وحطمت حواجز ضخمة، حرفيا ومجازيا.
[1] مدينة إيطالية على الحدود بين إيطاليا وسلوفينيا.[2] Kingsley Hall: مركز اجتماعي في شرق لندن.[3] هو شعار صاغه الناشط اليساري الألماني رودي دوتشكه لوصف استراتيجيته من أجل الثورة على المجتمع.