ثرثرة فوق النيل: عبثية نجيب محفوظ الجادة!
هكذا، وعلى لسان أحد أبطال روايته، قرر نجيب محفوظ أن يُلقي بحقيقة صارخة في وجوهنا جميعًا، حقيقة أثبتها من خلال مهزلته الخاصة «ثرثرة فوق النيل»، تلك المهزلة التي عكست وتنبأت – ربما- بمهزلة أكبر وأضخم وأكثر شراسة من مهزلة الثرثرة.. إنها مهزلة نكسة 1967.
المثرثرون في الرواية
صدرت الطبعة الأولى من رواية «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ عام 1966، ذلك بعد أن تم نشرها مُسلسلة في جريدة الأهرام، ومن هنا تحديدًا يمكننا فهم عبقرية ذلك العمل الفريد من نوعه، لا على المستوى الأدبي فقط، وإنما على مستوى الشأن السياسي والمجتمعي بشكلٍ عام؛ فبخلطة ومقادير سحرية استطاع محفوظ التنبؤ بما حل مؤخرًا، من وقت كتابة الرواية.
عوامة على ضفاف النيل متروكةً لكل العوامل المؤثرة المُحيطة، ولا يحكمها أي قوانين، تحوي بداخلها مجموعة من الأصدقاء الذين لا تعتبر صداقتهم عامل تجمعهم في ذلك المكان، وإنما هو الكيف، والكيف فقط!
وبعيدًا عن سبب وعامل تجمّعهم واتحادهم فيمكنك استخلاص عوامل مشتركة أخرى، أبرزها كونهم نخبة.. كونهم صفوة المجتمع ومثقفيه، أو هكذا يبدون!
خائضين أحاديث طويلة فوق عوامتهم الخاصة، مثرثرون على طريقتهم الخاصة، مارين بتجاربهم الخاصة، غلفت تلك المجموعة من الأصدقاء رؤية ونظرية محفوظ التي أراد إلقاءها في وجه المجتمع وحكومته، برمزية غير متكلفة وسلسة وممتعة لأقصى حد.
كان يرى نجيب محفوظ أن «ثرثرة فوق النيل» ما هي إلا صوت إنذار يحذر بكارثة قومية عقب تبعات ثورة يوليو 1952 على وشك الحدوث، وقد بدأت معالمها في التشكل بالفعل، وهي محنة الضياع وفقدان الإحساس بالانتماء وفقدان بوصلة المبادئ الذي سيطر فجأة على الناس، وأوساط المثقفين بشكلٍ خاص، أولئك الذين أصبحوا في شبه غيبوبة تامة، كتلك التي يعيشها أبطال روايته.
غيبوبة كان أبرز معالمها: أنيس أفندي، الموظف بوزارة الصحة والمثقف الذي ماتت زوجته وابنته في يومٍ واحد، ووجد أن الإدمان والكيف خير وسيلة يمكن اللجوء إليها، فبات شخصًا ساخرًا عابثًا من كل شيء وأي شيء، ملقيًا على مسامعنا الحكمة المطلقة في آنٍ والهذيان الصريح في آنٍ آخر، هذا بصفته جاء بدور الراوي في الرواية بأغلب الأحيان؛ ففي أجواء مُعبقة بدخان الجوزة ورائحة الحشيش تجد خلاصات الحكمة المطلقة تتناثر في الهواء هائمةً دون معنى أو سبب حتى لقولها.. هي فقط ثرثرة.
تقنيات الثرثرة
تقنيًا، فقد أتت رواية محفوظ كروشتة، لن تستطيع فهم الكيفية التي تسير بها، أو منهجها الذي انتهجته في هذا السريان. عرض حاد للأفكار والشخصيات في قالب عبثي تفوّق في عبثه على الكيفية والمنهج الروائي المتعارف عليه حتى، محولًا النص الروائي لواحد من أذكى النصوص التي كُتبت بشكلٍ عام، فكما أن الشخصيات والعوامة لم تخضع لأي قوانين، لم يخضع محفوظ في كتابته لذلك النص لأي قوانين وحدود، بل كان الأمر أشبه بالمهزلة، وأنت تعرف جيدًا أن الإنسان لم يبدع أصدق من المهزلة!
ومن هذا المنطلق يمكننا القول إن الكنز الذي تركه لنا محفوظ لم يكن ما كتب حقًا، وإنما هو حجم التكنيكات والأساليب التي لن أبالغ إن قلت أنشأها وعمل كحجر أساس لها، فعلى مستوى روايتنا مثلًا قد تجدها أقرب في تصنيفها للـMeta-Fiction، وهي تيمة لم يتطرق إلى استخدامها في عالمنا العربي أي كاتب من قبل، وستجد له تحت نفس التصنيف هناك محاولة أكثر بروزًا ووضوحًا، وهي رواية «أفراح القبة» التي صدرت عام 1989.
وقد كانت الرمزية -التي أحب دومًا محفوظ استخدامها- جزءًا أصيلًا من نجاح تلك المهزلة –ثرثرة فوق النيل- وخروجها بالشكل التي أصبحت عليه، فيرى البعض أن المقصود بالعوامة أنها مصر التي باتت بلا ثوابت أو روابط، بل صارت كيان تتقاذفه الظروف وعوامل الطبيعة بشكلٍ متطرف، حاملةً فوقها كل من فقدوا تلك الثوابت والقيم والروابط، مما سيودي بهم في النهاية إلى التهلكة.
إضافة إلى الرمزية، كانت هناك اللغة الحسية والتي كانت سببًا رئيسيًا في تحويل ذلك النص إلى فيلم سينمائي فيما بعد، فعندما تقرأ «ثرثرة فوق النيل» لن تكف عن شم رائحة الشيشة والشعور بالدوار بل والهذيان أحيانًا بصحبة شخوصها كما لو كنت معهم.
المثرثرون في السينما
في عملٍ وتحفةٍ سينمائية لا تقل في مقدار عظمتها عن الرواية، انتقل المثرثرون للشاشة عام 1971، أي بعد خمس سنوات من إصدار الرواية وبعد أربع سنوات من النكسة، مما يرجح بشدة صعوبة خروج هذا العمل للنور، وهو ما حدث بالفعل، إذ إن السادات كان يرى أن الفيلم يعتبر إهانة واضحة وصريحة للفترة الناصرية بكل ما فيها من شخوصٍ وأحداثٍ.
استطاع السيناريست ممدوح الليثي فك شفرات روشتة محفوظ الروائية بسيناريو اتخذ من الرواية قاعدة أساسية، واجتاز نهجًا يمتاز بالأصالة في بناء شخصياته وأحداثه، مما جعل هناك اختلافات عديدة بين النص الروائي والسينمائي، لكنها كانت اختلافات لصالح الفيلم واللغة السينمائية، مفسحًا المجال بذلك للمبدع حسين كمال الذي صبغ الفيلم بلونٍ سينمائي ممتاز في سلاسته وعرضه.
يبدأ الفيلم من عند أنيس أفندي (عماد حمدي) الذي يصاحب ظهوره طوال الفيلم صوت مونولوج داخلي، ساخطًا أحيانًا وغاضبًا أحيانًا وساخرًا أحيانًا أخرى، يجوب الشوارع في عشوائية تامة ودون وجهة محددة، ملقيًا تساؤلاته في عشوائية تامة دون انتظار لأي أجوبة، كونه يرى أن زمن الأجوبة قد ولى.
تنتهي المشاهد الأولى لظهور أنيس، وبعد أن نراه يكتب تقريرًا كاملًا دون أن ينتبه أن حبر قلمه قد نفد، وبعد أن نراه يصم آذانه عن التوبيخ الذي يلقاه من رئيسه بحقيقةٍ مفادها أن هذا الرجل عابثًا تمامًا، ولا يهتم ولا يكترث لأي شيء وكل شيء.
لاحقًا وبعد أن يتقابل مع تلميذه رجب (أحمد رمزي) وندخل بصحبة كليهما إلى العوامة أو كما يسميها رجب وقاطنوها «المملكة»، يترسخ لدينا مفهوم أن أنيس هو مثال ونموذج للمواطن المصري الذي فقد الانتماء والقيمة عقب ثورة يوليو، فوجد المخدرات والكيف خير ملجأ له، بمشهدٍ أبدع في نقله حسين كمال، حيث يحملون قاطني المملكة أنيس أفندي هاتفين مرددين «يعيش وزير شئون الكيف»، وبسلاسة معهودة منه ينقلنا لمشهدٍ آخر يحملون فيه مجموعة من المتظاهرين أنيس أفندي أيضًا، لكنهم هذه المرة يحملونه منادين بالحرية والكرامة والديمقراطية.
بالتوازي مع تلك النوعية من المشاهد والتي تكررت مرارًا بالفيلم، كذهاب المجموعة مثلًا أحد المعابد الفرعونية مدخنين الحشيش فوق أحد التماثيل الأثرية وتحت مظلة جملة يلقيها أحدهم: «ولع يا جدع ولع خلينا نسطل جدك الكبير»،بالتوازي مع كل هذا، كنا نتعرف باستحياء تدريجي على شخوص الفيلم الذين عملوا كمكونات رئيسية للمجتمع في تلك الفترة، فنجد المحامي الفاسد، والصحفي المتملق، والزوجة الخائنة، والفتاة الأكذوبة – كما يتم وصفها بالفيلم- والأخرى الباحثة عن الشهرة مهما كلفها الوصول لمبتغاها من تنازلات، ورجب الممثل الذي تنازل عن موهبته المسرحية الجادة في سبيل السينما الملوّنة والتجارية صاحبة اللا قيمة واللا معنى.
كانت الصحفية سمارة (ماجدة الخطيب) هي المقابل والتضاد الواضح لكل هذا الكم من العبث والاستسلام والضياع، وهي مصدر العقدة الدرامية التي أخرجت أنيس أفندي من تلك الحالة المزرية، عقب أن صدموا – المجموعة- الفلّاحة بسبب قيادة رجب المتهوّرة، وهي اللحظة التي بدأ من عندها أنيس إدراك حجم الكارثة كونهم قتلوا الفلاحة التي كانت تدعو قبل لحظات أن يهبها الله ابنًا، والتي جاءت ترمز إلى مصر بشكلٍ صارخ وغير قابل للتأويل، في إشارة واضحة إلى أن الهروب والتغاضي والتمادي في العبث لن يُجدي سوى بكارثة عظمى لا يمكن معالجتها.
لغة حسين كمال البصرية
اهتم حسين كمال في الفيلم بصُنع لقطات وزوايا تصوير تناسب المضمون الرمزي للفيلم والرواية، فمثلًا طوال أحداث الفيلم وفور وصول أحد أفراد المجموعة للعوامة أو انضمام أفراد جديدة تجده يراقب حركة السير من الأسفل متتبعًا الأقدام وهي تدخل المكان دون أن نرى وجه صاحبها، وكان الاستثناء الوحيد على مدار الفيلم والذي رأينا فيه الوافدين من أعلى، هو مشهد وصول سمارة وأنيس بعد أن استفاق الأخير من غيبوبته وأدرك حقيقة أن «الفلاحة ماتت ولازم يسلموا نفسهم».
وعلى جانب آخر نجد اهتمام في التكوينات الكادريّة، حيث يظهر أنيس مُهمشًا تمامًا في معظم أحداث الفيلم ولا ينتصف الكادر سوى في مشهد تنصيبه وزيرًا لشئون الكيف، في إشارة إلى حالة التهميش المقصودة التي سيطرت على الفئة المثقفة عقب ثورة يوليو.