فيلم «وداعًا جوليا»: الوجه غير الأنثوي للحرب
تتعامل الكثير من السرديات السينمائية خاصة الهوليوودية مع الخلافات السياسية والدينية والعرقية عن طريق زرع قصة حب على طرفي نزاع ما، يمكن تتبع رواج ذلك من خلال روميو وجولييت لويليام شكسيبر كأيقونة في الثقافة الشعبية، حيث يتحدى روميو قريته مونتاجيو ويقف في وجهها ليصل إلى جولييت ابنة القرية الأخرى كابيولت. طرفان بينهما عداوة يظهر الحب أنه لا فروق حقيقية بينهما، لكن الحب ينتهي بمأساة على أي حال، لدى تلك السردية عيوب جوهرية، خاصة عندما تنفذ في إطار صراع غير متساوي الأطراف، مثلما نرى في قصص معاصرة جماهيرية مثل أفاتار، حيث يقع المستعمِر في حب المستعمَر، ونرى أن لا فوارق إنسانية بين الأطراف كلها، والجميع يجب أن يتقبل الجميع.
إنها حيلة تبسيطية يمكن أن تتواجد في قصص الأطفال، لكن فيما يخص صراعات القوى السياسية التي تتضمن طرفًا يملك السلاح والقوة وطرفًا لا يفعل تبدأ السردية في التفتت، يمكن استخدام تلك الأداة القصصية بشكل أكثر منطقية، ويمكن بسهولة تصور أن تحدث في الواقع في الصراعات الداخلية متشابهة القوة على غرار روميو وجولييت، وهو ما يستخدمه المخرج السوداني محمد كردفاني، ويقلبه في فيلمه وداعًا جوليا، يكمن القلب والهدم في استخدامه علاقة صداقة وليست علاقة حب، علاقة صداقة بين امرأتين سودانيتين من أصل عرقي وديني مختلف، تنجح تلك الأداة في حالة وداعًا جوليا لأن النساء في الحرب لا يملكن ثقل الرجال، تقع النزاعات السياسية بين جيوش وميلشيات بين الرجال، تُقهر النساء المنتميات لطرف كما تقهر نساء العدو أو الطرف الآخر، أو باستعارة عنوان كتاب سفيتلانا أليكسفيتس ليس للحروب وجه أنثوي.
يُعرض الفيلم السوداني وداعًا جوليا عالميًّا وفي الشرق الأوسط ومصر حاليًّا، وهي سابقة نادرة الحدوث أن يُعرض فيلم سوداني بشكل تجاري موسع، وليس في السينمات الفنية والمهرجانات فقط، عُرض عرضه الأول في مهرجان كان قسم نظرة ما لأول مرة في تاريخ السينما السودانية، وكان من المقرر أن يُعرض عرضه الأول في الشرق الأوسط في مهرجان الجونة، لكن بسبب الأحداث القائمة في فلسطين تم تأجيل المهرجان لأجل لم يسمَّ بعد، مما أتاح الفرصة للفيلم أن يجد جمهورًا ولو صغيرًا في دور العرض المصرية التجارية، يصادف عرض الفيلم حربًا جديدة في السودان، وهي منطقة لم تأخذ قسطًا من الراحة من الدمار والقتل والخلافات منذ سنوات دون توقف، نزح الكثير من السودانيين إلى مصر، وجاءتهم الفرصة لمشاهدة فيلم عن الصراع الداخلي لبلدهم على أرض غريبة لكنها قريبة في الوقت نفسه، أتاح عرض الفيلم اختبار أصوات سينمائية نادرًا ما يتاح لها الفرصة في دور العرض المصرية والعالمية من منطقة تندر بها صناعة السينما، خاصة مع منع دور العرض السينمائية لسنوات طويلة تحت حكم إسلامي عسكري.
النساء والحرب
يسرد فيلم وداعًا جوليا الأحداث المؤدية لانفصال جنوب وشمال السودان عام 2011، يبدأ بمشهد اندلاع عنف مروع تشهده أسرة من الشمال، أكرم “نزار جمعة” الزوج ومنى “إيمان يوسف” الزوجة، وهما سودانيان من أصول عربية مسلما الديانة يشاهدان من نافذتهما، يملك أكرم سلاحًا في منزله بشكل اعتيادي يؤمن نفسه وامرأته وبيته، تنزلق الأحداث من العام المتعلق بالصراع بين الجنوب والشمال، دين ودين آخر عرق وعرق آخر، إلى الخاص، حياة منى وزوجها أكرم، توق أكرم للإنجاب ومحاولات منى، توقف منى عن الغناء وظيفتها الأصلية وشغفها طاعة لأكرم ذي الميول المتطرفة والطبيعة الصارمة العنيفة، في وداعًا جوليا لا يوجد صرامة في تحديد الخير والشر، يوجد بوصلة أخلاقية واضحة، في توضيح جذور الطبيعة العنصرية للصراع واضحة في شخصية الزوج، حيث الأفكار المتعلقة بالأسياد والعبيد السود الأكثر سوادًا، المؤمن وغير المؤمن، يمثل أكرم التفوق أفكار التفوق العرقي في السودان وأسبابها الواعية، لكن في الوقت نفسه فإن الفيلم، يتعامل مع القطبين باعتبارهم نتيجة وليس سببًا، ويركز بشكل رئيسي على معاناة تقاطعية تعانيها جوليا (سيران رياك) ساكنة الجنوب مسيحية الديانة وأفريقية الأصول بسبب كونها من هي هوياتيًّا، وبسبب كونها امرأة كذلك، ومنى ساكنة الشمال التي تمثل عكس وضع جوليا.
يقع الحادث المحفز لأحداث الفيلم مبكرًا عندما تصدم منى طفلًا يسكن في الجنوب بسيارتها وتهلع لتهرب من أبيه الذي يطاردها، عندما يصل الرجل إلى منزل منى يخرج أكرم بسلاحه مطالبًا الرجل بالابتعاد عن ممتلكاته، تحاول منى شرح سوء التفاهم، لكن بعد فوات الأوان وضياع روح في “دفاع عن النفس”، ذلك هو الحادث المحفز الأول قتل دفاعًا علن النفس يحوي عنصرية مبطنة، يخاطبها الفيلم لاحقًا – هل كان سيندفع أكرم لقتل الرجل للتصويب نحو قلبه وليس قدمه لو لم يكن جنوبيًّا؟ – لكن الحادث الذي يربط الأسرتين بعضهما ببعض ليس حادث عنف، بل حدث يمكن وصفه بالرفق على الرغم من نشوئه من إحساس بالذنب وعن خداع وكذب مركب ومطول، بعد ارتكاب زوجها للجريمة الأولى تذهب منى إلى حي زوجته جوليا، لا تعرف عن نفسها ولا عن ذنبها، بل تطلب منها وابنها العمل لديها في المنزل، تعاملها كمدبرة منزل بمرتب مرتفع، في محاولة للتكفير عن الفعل غير المنطوق، تعامل ابنها كابن فعلًا، ويعامله الزوج مع الوقت كذلك، بإشغاله معه في ورشة نجارته، لكن تنشأ من علاقة العاملة والمرءوسة علاقة صداقة حقيقية وتعاضد نسائي، تتشارك منى وجوليا في واقع نوعهما الاجتماعي قبل واقع خلافهما الديني والعرقي، تتعاضدان على مشكلات يومية وحياتية مثل منع زوج منى لها من الغناء وتقييده لحركتها اليومية، لتصرفاته العنيفة معها ولومه لها على عدم الإنجاب، بينما تشاركها جوليا ضياعها بدون زوج أو رجل يدعمها، وهو موضوع شائك لأنها تشكو للجاني. يصنع الفيلم ثنائية صداقة رقيقة ومؤثرة بين المرأتين ليؤطر بهما ما هو أبعد من الخلافات العرقية والسياسية، فهما تعانيان حتى لو لم تكن هناك حرب، الحرب والصراع الطائفي يعمق تلك المعاناة، ويجعل النساء في مقدمة الضحايا.
الانزلاق للفخاخ الهوليوودية
يعمل الفيلم في مساحة بصرية وسردية حميمية، على الرغم من اتساع الموضوعات التي يطرحها، بداية من اختيار نسبة عرض شاشة مربعة ومحكومة، مرورًا بالمساحات الداخلية لحيوات للنساء، حيث تقضي المرأتان الكثير من وقتهما في حديقة المنزل تصنعان الطعام وتتحدثان معًا، وعندما تخرجان تكونان في مساحات داخلية خارجيًّا مثل مقهى غنائي، يتبع الفيلم جماليات متواضعة واقعية، موسيقى تقليلة واعتماد على البيئة المحيطة من زهور ملونة وملابس تحدد الهوية الذاتية للشخصيات، لكن ينزلق الفيلم إلى بعض الفخاخ الهوليوودية تقنيًّا وسرديًّا.
يظهر ذلك الانزلاق بداية من اختيار صوت منى الغنائي، مُنعت منى من ممارسة الموسيقى علنيًّا منذ تزوجت، في واحدة من نبضات الفيلم الشعورية الرئيسية تقنع جوليا صديقتها بالغناء في المقهى مع فرقتها القديمة، تصعد منى على المسرح مرتدية النقاب خوفًا من زوجها أو أحد ذيوله، يصدح صوتها المسجل مسبقًا، مثاليًّا ومنمقًا، يخرج الفيلم على الفور من جمالياته التي رسخها، يصبح أكثر اصطناعًا وأكثر حسابية، بدلًا من أن يُظهر صوتًا طبيعيًّا متهدجًا خائفًا من الجمهور يُظهر صوتًا معدلًا ومثالًا، ينتقل ذلك التعديل في التقنيات الجمالية إلى الخيارات السردية، يدخل الفيلم شخصية ماجير (جير دواني)، عضو في الجيش المقاومة الشعبية في الأحداث، يقع في حب جوليا ويحاول إنقاذها من جهلها بحقوقها كجنوبية مسيحية، يحاول إقناعها بالتصويت للانفصال، تظهر مشاهد ماجير وجوليا كأنها جزء من فيلم رومانسي كوميدي أمريكي، تملك المشاهد بعض الدفء المؤثر نظرًا لصعوبة حياة جوليا بعد اختفاء زوجها، لكنها تعمل بشكل حسابي لتأطير الخلافات الطائفية، وتعمل كدافع لتصعيد الأحداث وكشف الحقائق سريعًا بعد ما أمضى الفيلم وقته في التمهل.
مقاومة الشخصيات غير المثالية
يتعامل وداعًا جوليا بشكل رئيسي مع الصداقة غير المرضي عنها، الصداقة التي تتحدى طبيعة المجتمعات والأعراف السائدة، لذلك تمثل صداقة منى وجوليا بمفردات حساسة بصريًّا، إحداهما تريح رأسها بين يدي الأخرى، تضحك كلتاهما من الاضطهادات الذكورية التي لا تفرق بين عرق ودين، لكن تلك الصداقة لا تحل الخلافات لأنها مبنية على فعل قاسٍ ومعقد، فعل منغمس في الخداع والغدر، يصور الفيلم منى باعتبارها بطلة غير مثالية لديها الكثير من العيوب، عيوب منطوق بها في إطار الفيلم الحواري، أهمها أنها كثيرًا ما تكذب، تمضي حياتها في سلسلة من الكذبات الصغيرة والكبيرة، بداية بمن تحادث على الهاتف مرورًا بالكذب بشأن القتل، لكن منى لا تكذب لأنها شخص سيئ، بل لأنها مضطرة إلى ذلك، لكي لا تشعر أنها تعيش نصف حياة، لكي تتجنب الصراعات، فهي لا تمتلك أهلية كاملة على حياتها، بداية من المجتمع المتفسخ الذي تعيش فيه، مرورًا بالضغوط التي تمارس عليها من قبل منظومة ذكورية وعنصرية، تحكم تفكير زوجها وتنتقل إليها في بعض الأحيان لا إراديًّا، بجانب كذلك توترها الشديد لعدم قدرتها على القيام بالدور الأهم في حياة النساء في المجتمعات المحافظة، وهو إنجاب الأولاد.
يمثل ظهور طفل في حياة أسرة منى تغيرًا كبيرًا، لكن ذلك الطفل في ذاته يعمل كمجاز فيلمي، فهو وجه قادم للمقاومة المسلحة، رغمًا عنه مضطر للدفاع عن نفسه بنفسه، في عالم لا تزال تقع فيه السودان تحت حروب أهلية تتدخل بها أطراف غربية، تصبح الطفولة شاهدًا على فظائع الكبار التي لا تترك للأطفال حيزًا ومساحة إلا أن يكونوا سلاحًا محتملًا، لا يستطيع وداعًا جوليا أن ينهي رحلته بشكل إيجابي، وعلى الرغم من أنه أُنتج على الأرجح قبل اندلاع حرب أخرى عنيفة في السودان تعاني فيها النساء من الاغتصاب والسبي، ويفقد فيها الأطفال أرواحهم، وبالطبع قبل أن تشتعل فلسطين بحرب لا تترك طفلًا واحدًا دون تعرضه للخطر، إلا أنه يستشرف صعوبة إيجاد النهايات السعيدة سريعًا مهما حاول استعارة السمات الهوليوودية المريحة، يتحتم على الجميع المقاومة والمعاناة، ويفرض التقسيم الداخلي على الصداقة الفردية والشعبية أن تنتهي حتى إشعار آخر.