وداعًا أيتها الأيديولوجيا: الإصلاح الاقتصادي في الصين
بهذه الحكمة انطلق الزعيم الصيني دينج شياو بينج في مسيرته لإصلاح الاقتصاد الصيني، محاولًا إنقاذه من حالة الانهيار التي كان يعانيها بعد أن اسْتُنْزِف داخليًا بفعل الحروب الأهلية، وخارجيًا من قبل القوى الغربية وحروبها الاستعمارية.
رأى دينج أن الإصلاح لا يتم جملة واحدة، لكنه يعتمد على مجموعة من الخطوات المحسوبة التي تُجَرَّب، فإذا صحت الخطوة الأولى يُنْتَقَل إلى الثانية فالثالثة، وإذا ثبت وجود أخطاء بإحدى الخطوات تُعالَج بما يتناسب مع الواقع. وبهذا المنطق استطاع الزعيم الصيني خلال فترة حكمه (1978-1992) تحقيق تجربة اقتصادية ناجحة توالى على إثرها الكثير من الإنجازات الاقتصادية، حتى انتقلت الصين من التقليد إلى الابتكار والتجديد، وأصبحت إحدى القوى الكبرى في العالم.
وعلى الرغم من أهمية هذا المنطق، فإن هذه التجربة لم تكن ليكتمل نجاحها دون تمتعها بمجموعة أخرى من المبادئ والعوامل التي ميزتها عن غيرها من التجارب، وكانت السبب الرئيسي وراء نجاحها.
كيف كانت الصين قبل «دينج شياو بينج»؟
تعددت الحروب التي خاضتها الصين قبل تأسيس جمهوريتها الشعبية عام 1949، فهناك حروب الأفيون حيث الضغوط الغربية لتوسيع التبادل التجاري وفتح الأسواق الصينية أمام الصادرات البريطانية والفرنسية، وهناك حرباها الأولى والثانية مع اليابان التي أشاعت الفوضى وأقامت المذابح، وراح ضحيتها ما يقارب 300 ألف قتيل، قبل أن ينتهي الأمر باستسلام اليابان عام 1945 بعد الضربتين النوويتين لهيروشيما وناجازاكي.
وعلى الرغم من اتحاد الحزبين الرئيسيين بالصين: الحزب القومي المحافظ (الكومنتانج) والحزب الشيوعي، في مواجهة العدوان الياباني، فإنه بانتهاء الحرب وانسحاب اليابان عادت الصين لدائرة الحرب الأهلية والتناحر بين الحزبين للسيطرة على السلطة من خلال حرب ميليشيات، كان الفوز فيها لصالح الحزب الشيوعي الذي أسس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، فيما انسحب قادة الكومنتانج إلى جزيرة تايوان مكونين جمهورية الصين (تايوان) وعاصمتها تايبيه.
منذ ذلك الحين بدأ الارتباط الأبدي بين مصير الحزب الشيوعي بقيادة «ماو تسي تونج» والصين الشعبية، حيث أُسِّست دولة ذات نظام اشتراكي منغلق، لكنها تعاني انهيارًا اقتصاديًّا. فالحرب كما أسفرت عن القتلى أسفرت عن عواقب اقتصادية خطيرة، كان في مقدمتها انخفاض معدل النمو الاقتصادي، وتدني دخل الفرد والناتج المحلي.
وفي محاولة للتغلب على هذا التدهور اتخذ الحزب بقيادة ماو الاقتصاد المخطط كأساس للبناء وتوزيع موارد البلاد بشكل فعال، فخاض غمار ما أسماه «القفزة الكبرى إلى الأمام» (1958- 1962) التي كانت تهدف إلى تحويل الصين من دولة زراعية مستهلكة إلى دولة صناعية.
أدى ذلك بالفعل إلى تطور اقتصادي، لكن سرعان ما ظهرت سلبيات عدة في هذا البناء الاقتصادي، الذي تسبّب في مجاعة راح ضحيتها 30 مليون شخص، وذلك نتيجة سياسة التخطيط المركزي وتجاهل دور السوق.
مهندس الإصلاح الصيني
توفي ماو عام 1976، تاركًا قيادة الحزب والدولة للزعيم دينج شياو بينج، أو كما يُطلق عليه مهندس الإصلاح الصيني، والذي غير الخطة الاقتصادية للصين بشكل كامل، وتبنى سياسة خارجية مفادها الانفتاح على العالم.
فبعد مناقشته للأوضاع داخل الصين وخارجها طرح فكرته للإصلاح، والقائمة على أنه إذا رغبت الصين في الخروج من حالة التدهور هذه فعليها أن تستند إلى الواقع، وتسمح بتطبيق نظام اقتصاد السوق، مؤكدًا أنه لا يقتصر على المجتمع الرأسمالي فقط، فالاشتراكية أيضًا يمكنها تطبيقه، وأنه بدون اقتصاد قائم على الرأسمالية لن تزدهر الصين.
لا يعني ذلك بالطبع أنه قرر التخلي عن الاشتراكية، لكنه قرر أن يتبنى اشتراكية تلائم واقع خصوصية الصيني، لا اشتراكية ذات قوالب تاريخية جامدة. وكانت هذه النقطة السبب الرئيسي وراء نجاح التجربة الصينية مقارنة بنظيرتها التي اتبعها الرئيس السوفيتي الأسبق ميخائيل جورباتشوف، والتي أدت في النهاية إلى سقوط الاتحاد السوفيتي.
فقد تميزت تجربة دينج بالمزاوجة بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاشتراكي، وهو ما أطلق عليه «اقتصاد السوق الاشتراكي» أو «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، والتي يُمكن اختصارها في التزاوج بين القطاع العام والخاص.
وفي هذا الصدد كانت له مقوله شهيرة: «ليس المهم لون القطة أبيض أم أسود، ما دامت القطة تصطاد الفأر فهي قطة جيدة». ومن ثَمَّ؛ المهم ليس الاشتراكية أو الرأسمالية، لكن المهم أن يحدث النمو، وأن تحصل الصين على التكنولوجيا المتقدمة ورءوس الأموال التي تحتاجها من أجل نهضتها.
في هذا الصدد بدأ دينج بتخفيف مركزية السلطة على الصعيد الاقتصادي، وقام بكسر الحصار الاقتصادي الغربي بقيادة الولايات المتحدة، عبر إعادة العلاقات معها وانتزاع اعترافها رسميًّا بالصين، بما يسمح باستيراد وتصدير المنتجات إلى تلك الأسواق. كما شجع على تنمية هذا الاتجاه بشكل متدرج في السنوات اللاحقة، عبر زيادة الاستثمارات الخارجية، وتنمية حصة القطاع الخاص والمشاريع المشتركة مع المؤسسات الأجنبية.
وبصفة عامة،وضع دينج استراتيجية تنموية تتلاءم مع الواقع الصيني، بحيث تُنَفذ خلال 70 عامًا، تمثلت أبرز ملامحها في التالي:
1. توفير الغذاء والكساء للمواطنين من خلال مضاعفة مجمل الإنتاج خلال السنوات العشر من عام 1980 إلى 1990، وتحقق هذا الهدف قبل الموعد المحدد في نهاية الثمانينيات.
2. زيادة إجمالي الناتج المحلي لعام 1980 بواقع 4 أضعاف في نهاية القرن الـ20، وتحقق هذا الهدف أيضًا في 1995 قبل الموعد المحدد.
3. ضرورة انعكاس هذه النتائج على المواطن عبر زيادة معدل دخل الفرد بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي ليصل عام 2050 إلى معدل الدول المتوسطة، ويكون المواطن الصيني متمتعًا بمستوى حياة رغيدة.
اشتراكية بخصائص صينية: كيف يمكن تطبيقها إذن؟
بالفعل بُدِئ في تنفيذ الاستراتيجية التي من شأنها تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء على مدى 4 مراحل تاريخية،تمثلت أولاها (1978-1985) في التغلب على التخلف التكنولوجي في الصين من خلال استيراد التكنولوجيا وتشجيع الاستثمار الأجنبي في المجال التكنولوجي. وبالتزامن مع ذلك أُعيد بناء الاقتصاد الداخلي بالتدريج، عبر التركيز على الإصلاح الزراعي، بتفكيك مزارع الدولة التي شُغلت بشكل جماعي، والسماح بدخول صغار المزارعين من القطاع الخاص.
وتمثلت المرحلة الثانية (1985-1990) في انتقال عملية الإصلاح من الريف إلى المدن. أما الثالثة (1990-1995) فجُمِّد خلالها الإصلاح لمعالجة بعض الاختلالات الناجمة عن عملية الإصلاح؛ فقد ترتب على عملية الإصلاح عدد من الآثار السلبية، جاء في مقدمتها التضخم وارتفاع الأسعار، وحدث الكثير من الاضطرابات المجتمعية، ما وضع دينج بين خيارين؛ إما مواصلة الإصلاح الاقتصادي دون الاكتراث لهذا الغضب المجتمعي وإما الرجوع إلى الوراء.
وعلى عكس الكثير من القادة الذين يفضلون الاستمرار في برامجهم الإصلاحية دون الاكتراث للغضب الشعبي على أساس أنه معطل مسيرة النمو وفقاً لوجهة نظرهم، اختار دينج عدم التغاضي عن ذلك الغضب، وأرجأ خطة الإصلاح لمدة عام، وفرض رقابة على الأسعار للقضاء على الغلاء، ما أعطاه تأييدًا شعبيًّا بعد ذلك لمواصلة برامجه الإصلاحية. ولتأتي المرحلة الرابعة (منذ 1992 حتى الآن)، التي سعت خلالها الصين لتحقيق اقتصاد السوق الاجتماعي وإصلاح منشآت القطاع العام.
هل أتى الإصلاح بنتائجه المنشودة؟
لم تذهب تلك الجهود هباءً، فقد آتت ثمارها المرجوة وانعكست آثارها على كل من الدولة والفرد. إذ قاد دينج مـا يمكن أن يُوصف بأنه أوســـع عملية شهدها الـتـاريـخ لـخـروج البشر مـن الفقر إلـى الطبقة الوسطى، حيث ارتفع مــتــوســط دخــــل الـــفرد من 151 دولارًا عام 1978 ليصل إلى أكثر مـــن 6 آلاف دولار عام 2015. وخـــلال هذه الــفــتــرة انتقل أكثر من 230 مليون صيني من معدلات دخل تُصنف بأنـــهـــا تـــحـــت خط الفقر، لـيـنـضـمـوا إلــى الطبقة الـوسـطـى، أي بمتوسط دخـل سنوي للفرد لا يقل عن 9 آلاف دولار.
كذلك وصلت الصين إلى المركز الثاني عالميًّا في حجم التبادل التجاري والناتج المحلي الإجمالي، وتفوقت استثماراتها في الخارج على روسيا واليابان وألمانيا. فقد أصبحت ثاني أكبر مزود للاستثمارات الأجنبية المباشرة بعد الولايات المتحدة،وشهدت عام 2014 خروج 116 مليار دولار بنمو 15% عن العام الذي سبق، مقابل نمو بـ 3% للاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة من الولايات المتحدة. كما احتلت المرتبة الأولى عالميًّا، من حيث الاستثمارات الأجنبية المباشرة الداخلة إلى البلاد، والتي بلغت 129 مليار دولار عام 2014.
ولم تكن هذه النتائج لتتحقق دون وجود استراتيجية تراعي خصوصية النظام الصيني والتطور في النظام الاقتصادي العالمي، وتعتمد نهجًا تجريبيًّا يقوم على خطوات تسلم إحداها الأخرى، على العكس من النهج الذي اتخذه الاتحاد السوفيتي في الإصلاح، والذي قام على الـــعـــلاج بـالـصـدمـات والـــتـــحـــولات الـمـتـسـارعـة، والذي أدى في النهاية إلى انهياره.
وعلى الرغم من تلك النتائج ونجاح التجربة، فإن ذلك لا يعني عدم الاختلاف مع مسيرة مهندس الإصلاح الصيني، وهذا أمر طبيعي، فالبعض يرى أنها جاءت على حساب بعض الضحايا، في مقدمتهم الكثير من أصحاب الأراضي الذين تُخلِّص منهم بعد وصول الحزب الشيوعي، وأنه لم يفعل أي شيء من أجل الملايين الذين ماتوا جوعًا نتيجة سياسة ماو «القفزة الكبرى إلى الأمام»، بل قـــمـــع الاحتجاجات الشبابية التي انطلقت عام 1989 فـي ساحة «تيانانمن» للمطالبة بالديمقراطية والإصلاح.
والبعض الآخر يرى أنه كـان يسعى لمصلحة طـويـلـة الأجـــل للصين، ويـــدرك أن الـبـلاد لـــم تـكـن مـهـيـأة لـلـوصـول إلـــى تـجـربـة الحكم الـديـمـقـراطـي على النمط الـسـائـد فـي الـغـرب، كما يُحسب له تمكنه من تحقيق تجربة اقتصادية ناجحة رفعت مستوى معيشة الأفراد حتى وإن لم تكن بالمستوى المطلوب، وانطلقت على إثرها الصين حتى أصبحت من كبرى دول العالم، بعد أن كانت تعاني ويلات الفقر والحروب الأهلية.