وداعًا «شيرين أبو عاقلة»: دماؤنا تُخرِجُ الحي من الميت
لا أعلم متى انسالتْ تلكَ الدُّميْعات على بيداء وجنتي، وكيف انبجسَتْ من حجرَيْ عينيَّ اللتيْن كنت أظنهما لطول الجفاف قد نسيَتا أو تناستا أن هناك غُددًا دمعية بالجوار، ولكن هكذا هي تصاريف الله تُخرجُ الحيَّ من الميت.
خوذة، وهاتف محمول، وزوج عوينات، وقلم، ووريقات تزخرفت بآخر ما خطَّت أنامل شهيدة الكلمة وفقيدة القدس «شيرين أبو عاقلة». هذا هو ما حوتْه الصورة التي أيقظت أدمِعي من سكون العدم، بعد أن استيقظتُ صباح الأربعاء 11 مايو/ آيار 2022 على فاجعة قتل جيش الاحتلال عمدًا لمراسلة القدس المخضرمة، في الذكرى الأولى لأحداث القدس وحي الشيخ جرَّاح العام الفائت، والتي لعبت فيها تغطية شيرين أبو عاقلة أحد أبرز أدوار البطولة والرباط.
غمرني شعورٌ فيضانيٌّ بالفقد، فقد كانت شيرين وأقرانها من مراسلي الجزيرة من أراضينا المحتلة، بمثابة إخوتي الكبار، الذين نما وعيي معهم وبحضرتهم وبطلَّتهم منذ أواخر التسعينيات، وما بعدها، لا سيَّما أثناء الانتفاضة المباركة وعملياتها الفدائية، ثم حروب الصمود المتتالية في غزة، وفي أكناف بيت المقدس.
لم تُشعرني شيرين وأترابها أنهم مجرد مراسلين محترفين يؤدون واجبًا يتقاضون عليهم رواتب، بل كانوا أبناءً للقضية يعبرون عنها روحًا وثقافةً وبلاغةً بأقصى ما تسمح به قواعد المهنية الإعلامية، فنفذت كلماتهم ولغات أجسادهم إلى صميم العقل والقلب. وهنا ذكَّرني مشهد جثمان شيرين بجوار الجدار في جنين بعد أن أسلمَ روحه، بأخٍ كان ليكون في مثل عمري الآن، وشهدته قبل 22 عامًا على الشاشات صريعًا.
جدارُ شيرين وجدارُ الدرة
في الثلاثين من سبتمبر/أيلول عام 2000، وبعد أيامٍ قليلة من اندلاع انتفاضة الأقصى احتجاجًا على تدنيس إريئيل شارون وقطعان المستوطنين للمسجد الأقصى، وثَّق الصحفي الفلسطيني «طلال أبو رحمة» للتاريخ أحد أكثر مقاطع الفيديو تأثيرًا في الوجدان العربي والإسلامي الحديث، وهو لحظات إطلاق جنود الاحتلال في غزة النار على الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، ووالده جمال الذي نجا من الموت بأعجوبة، بينما كانا يحتميانِ عبثًا بجدار.
لا أبالغ إن قلت إن ذلك المشهد القاسي، والمحتقن بالألم والتعاسة والشعور بالعجز، كان من مؤسِّسات وعي جيلنا ولا وعيه، الذي لم يتأخر الآلاف من أبنائه عن اللحاق بركب الاستشهاد في سنوات الانتفاض العربي التي ولَّت أو هكذا يُظَنُّ، وكان كذلك وقودًا لماكينة التحرير والثأر المقدس التي أدارها الآلاف من شباب فصائل المقاومة الفلسطينية الذين رغم حصار القريب قبل البعيد، انتقلوا من الحجارة إلى القنبلة المحلية الصنع والحزام الناسف، فصاروخ القسام الذي كان مداه أقل من مدى رؤية العين، والذي أصبح الآن صواريخ تُطلق في زخاتٍ منهمرة قادرة على تغطية كامل الأراضي المحتلَّة، ودفع نصف العالم أو يزيد للتحرك من أجل إيقاف إطلاقها. وسبحان من يُخرجُ الحيَّ من الميت.
ستملأُ الوادي شيرين
لا أُنكِر أن مشهد اغتيال شيرين قد يبعث الكثير من الألم والإحباط والشعور بالقهر، لا سيَّما مع ما صاحبه من نفاقٍ فاضح في الإعلام الغربي والعالمي، وكذلك بعض الإعلام العربي المتصهيْن الذي حاول قدر الاستطاعة دفع المسئولية بعيدًا عن قوات الاحتلال، والترويج العبثي المباشر وغير المباشر لروايته عن أن الفلسطينيين هم من قتلوا شيرين بالخطأ. لكنني لست هنا من أجل تعزيز تلك الطاقات السلبية، فقد تجرَّع جيلُنا من الأحزان والآلام والقنوط ما تجرَّع، حتى تكبَّلت بها روحُه وقلبُه وعقلُه، وآن الأوان لأن نبذل كل جُهدٍ في عكسِ تلك الحالة.
لا بدَّ أن نجعل مشهد شهيدة الكلمة وفقيدة القدس شيرين تأسيسيًا لمرحلة جديدة من نضال القضية الفلسطينية، والالتفاف حولها في الساحات الافتراضية حتى تُتاحَ الساحات الحقيقية، وإذكاء زخم التفاعل الإيجابي الواسع معها، والذي اضطر بعض قنوات التطبيع العربية -ولو إلى حين- إلى الانحناء لتلك العاصفة، وتصعيد لغة الخطاب الإعلامي ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأن يعلم كافة أبناء الشعب الفلسطيني أنه لا حصانة لأحد منهم مع العدو الإسرائيلي الوجودي، وأن الأولى هو مناجزته بالكلمة قبل السلاح. وهذا ليس خطابًا إنشائيًّا، فمصدر قوة إسرائيل ليسَ فقط ترسانتها من الأسلحة، إنما أيضًا ترسانات الأكاذيب والتظاهر بالمظلومية أمام العالم، لتخدير وعي مؤثريه في السلطة وخارجها، وجريمة اغتيال شيرين من الواجب استثمارها بفاعلية في ضرب تلك الأكاذيب في مقتل.
ويبدو أن العدو قد استشعر خطورة ما اقترفتْه آلة بطشه، من إذكاء روح العناد والوحدة والمقاومة في فلسطين، وتجديد عهد التفاف أحرار الأمة والعالم حولها، فطاش عقله، وأضرَّ بنفسه أكثر من حيث أرادَ احتواء الضرر، محاولًا تخريب مشهد تشييع جثمان شيرين الأسطوري، فجعله أكثر أسطورية، وأعاد إلصاق آثام الطغيان بنفسه عندما أمر شرطته بمهاجمة جنازة شيرين في القدس يوم الجمعة، حتى كاد نعشها يسقط أرضًا لولا تشبُّث أكُف الصابرين المرابطين به.
لكن مهما فعل العدو، فلن يمنَع ميلاد شيرين أبو عاقلة لحمًا ودمًا ومعنًى، فقد سجلت دفاتر المواليد الفلسطينية في أقل من يوميْن مثنى وثلاث ورباع ويزيد من (شيرين أبو عاقلة)، وأعلنت جامعة بيرزيت الفلسطينية برام الله أنها ستخصص جائزة في التميز الإعلامي في دعم قضية فلسطين، تحمل اسم الراحلة شيرين أبو عاقلة، هي ومنحة دراسية للإعلاميات الفلسطينيات. وهكذا يعيد الفلسطينيون تأكيد مهارتهم في صنعة التخليد وتكريس الرموز.
لقد كنا قبل عاميْن أو أقل، على وشك أن نرى صفقة القرن المشئومة واقعًا يصفي قضية فلسطين، ويقتلعها من الجذور، ويكمل المشروع الإسرائيلي في استئصال ما بقي من فلسطين، لكنَّنا شهدنا العام الماضي إبان قضية حي الشيخ جرَّاح ببيت المقدس، حجمًا استثنائيًّا من التفاعل العربي والإسلامي والعالمي مع قضية فلسطين والقدس أحرجَ إسرائيل كثيرًا ودفعها لاستعراضاتٍ مميتة غير فعالة بقنابلها وصواريخها في غزة، التي ردت بسيف القدس الذي انغرست نصاله في قلب تل أبيب. وها نحن هذا العام نشهد بداية عودة فعالة للضفة الغربية إلى النضال والمقاومة المسلَّحة، مما يدفع الكيان لتصرفاتٍ حمقاء مثل اغتيال شيرين ترتد في صدره.
وفي تطبيقٍ حيٍّ لبيت شاعر فلسطين المعاصر تميم البرغوثي:
مرَّت جنازة شيرين إلى مثواها الأخير في القدس، ورغم أنف الاحتلال، عبر شوارع في القدس المحتلة لم تطأها حشود فلسطينية بهذه الكثافة منذ عقود، لتشهدَ شيرين وهي ميتة تحريرًا رمزيًّا للقدس، بعد أن شهدت في حياتها عام 2005م تحريرًا حقيقيًّا لغزة التي فرَّ منها جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه عجزًا عن تحمُّل فاتورة عمليات المقاومة الباهظة.
لئِن رزقني الله بحوريةٍ، فستكون بإذنه جنين أو شيرين، وسأغمر وعي أخويْها ولا وعيهما ما استطعتُ إلى ذلك سبيلًا بمزامير آيات الجهاد وأناشيد الاستشهاد، ولنحاول معًا أن تبقى التغطية مستمرة.