فيلم «Golda»: الوقوف على الجانب الخاطئ من التاريخ
في نهاية فيلمه «جولدا» يستخدم المخرج الإسرائيلي «جاي ناتيف» عبارات توضيحية مباشرة وواضحة -عن حياة جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل وقت حرب أكتوبر لدى المصريين و«يوم الغفران – day kippur» لدى الإسرائيليين.
بعد محاولات لتطويع الشخصية والأحداث للدراما الانسانية والحربية يختصر صانع الفيلم رؤيته للفيلم باستخدام كلمة «محو» أو إفناء لوصف التهديدات التي تواجه المستوطنين داخل الكيان الصهيوني، والذي أنقذنه حكومة مائير من المحو على الرغم من الهزيمة التي تعرض لها جيشها على يد الجيش المصري في السادس من أكتوبر، يثير ذلك الوصف العديد من الأسئلة والتأملات عن حالة السينما الهوليوودية والمنظور الغربي والأبيض لطبيعة الاستعمار والاحتلال، كما أن تواجد الفيلم على الساحة حاليا جعل له جمهور من العرب والمصريين خاصة مع حلول الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر ليعمل الفيلم كمرثية ليوم كارثي في تاريخ بلد حديثة العهد، وكمحتوى للسخرية بالنسبة للمتلقين من بلاد أخرى.
تقوم هيلين ميرين البريطانية المقدرة نقديا وجماهيريا بدور البطولة، تظهر تحت طبقات ثقيلة من مكياج المؤثرات البصرية حيث يصبح من الصعب تمييزها وتتحول لجولدا مائير رئيسة الوزراء الاسرائلية أثناء الحرب وهي السيدة الأولى التي تتولى منصب كذلك، يصبح توقيت عرض وانتشار الفيلم أكثر إشكالية كذلك مع اندلاع أحداث جديدة بعد ذكرى النصر المصري بيوم واحد حيث قامت المقاومة الفلسطينية بعملية أسموها طوفان الاقصى وأتبعها الجيش والإدارة الإسرائليلة بواحدة من أعنف عمليات «المحو» الجماعي باستخدام أسلحة محرمة دوليا وقصف منازل المدنيين من أعلاها لأسفلها.
لم يلتفت العالم كثيرا للفيلم لأنه تكراري في صيغته الشكلية والسردية، يعمل بشكل توثيقي ويحاول جاهدا أن يلفت نظر لجان الجوائز بتمثيل بطلته فهو مجرد طُعم أوسكاري جديد، لكنه لاقى اهتمام خاص من الجمهور المصري، بل البعض يراه فيلما جيدا، أو مشاهدة مثيرة للاهتمام، وهو ما يمكن وصفه بالغرابة لأن الفيلم بروباجندا صهيونية واضحة مبطنة داخل دراسة شخصية لدولة وشخصية في وضع الانهيار، ما جعل جولدا فيلم يتداوله المصريون هو الزخم الحالي حول العام الخمسين على النصر بجانب بالطبع مستجدات الأحداث فيما يخص المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر، لكن ما يميز رد الفعل هو كون التلقي من جانب العرب تلقي ساخر لا يأخذ الفيلم بجدية بينما يتعامل معه صناعه بأقصى درجات الجدية، فتصبح نوايا الفيلم مقلوبة لا تصل إلى مشاهديه مثلما تخيلها صناعه.
الدراسة الشخصية
تتكثف أحداث فيلم جولدا في عدة أيام تسبق حرب أكتوبر وخلالها، يقسم الفيلم تلك الأيام بكتابتها على الشاشة، وبينما ينهار الدفاع الاسرائيلي أمام هجوم مفاجئ من الجيش المصري تنهار صحة جولدا مائير، يصورها الفيلم كامرأة يسبق ظهورها سحابة دخان سجائرها، يهترئ جسدها لكنها تتحلى بالأمل وتحافظ على قوتها ظاهريا أمام المسئولين لكي لا يتزعزع أملهم في النصر، لكن الأحداث سبق وأن وقعت والجميع يعلم إلى أين تمضي.
يعامل فيلم جولدا بطلته كامرأة متداعية في بورتريه تعاطفي يؤنسنها، ويصورها كسيدة عجوز أشبه بجدة طيبة ترتدي مئزر الطبخ وتخبز الكعك لقيادة الجيش والوزراء، لكن تلك الأنسنة تؤدي دورا عكسيا بالنسبة للمشاهدين على الجانب الآخر من التوجه الفكري، المشاهدين الذين يرون الفيلم باعتباره بورتريه للتشفي في الهزيمة وليس التعاطف معها، فتصبح كل محاولات ناتيف في جعل جولدا بطلة عسكرية وإنسانية هي محاولات تنطلي فقط على من هم يقعون في حيز التوجه الفكري ذو النزعات الاستعمارية.
تؤدي هيلين ميرين دور جولدا بهشاشة وبراعة معهودة لكن ذلك التمثيل على الشاشة هو وصفة جاهزة وكسولة لمحاولة اقتناص الجوائز بتسكين ممثلة ذات سمعة هوليوودية ملكية، على الرغم من كونها ليست يهودية أو اسرائيلية ودفن وجهها تحت أطنان من مستحضرات التجميل لأن عرف الجوائز يخلط عادة بين المكياج وجودة التمثيل.
يحاول الفيلم باعتباره دراسة شخصية لامرأة مهزومة تصوير الداخلي بشكل خارجي، عن طريق مجازات بصرية مستهلكة مثل الطيور النافقة باعتبارها جنود ساقطين أو دخان السجائر الذي يغلف الجو ويصور الاختناق بشكل بصري.
يموضع الفيلم بعض الموتيفات المتكررة بدون دلالة ذات عمق بل دلالات ترتبط مباشرة بما تصوره، مثل التصوير من نقطة علوية لدوامة من درجات السلالم الدائرية التي تمثل انهيار نحو الأسفل، مع تلك المحاولات لإخراج الفيلم من كونه فيلم سيرة ذاتية أو سيرة حرب تقليدية، ومقاربته بأفلام تكثف تجارب شخصيات واقعية في في فترة مضغوطة من الزمن على غرار أفلام التشيلي بابلو لارين مثل جاكي الذي يصور جاكي كينيدي في أيام معدودة بعد اغتيال زوجها، أو سبينسر الذي يصور الأميرة ديانا في عدة أيام قرب إجازة عيد الميلاد حيث تشعر باحتجاز يكاد يفقدها عقلها، لكن تلك الأفلام تنقل المساحة الداخلية للشخصيات وتجعلها جزء رئيسي من السرد البصري ويصبح العالم الخارجي جزء من تصرفاتها الداخلية.
في حالة جولدا تظهر محاولات مظهرة الداخلي بشكل رعب نفسي يسفر عن فيلم مفكك يحاول أن يكون فنيا لكن يصعب اعتبار النتيجة أي شيء أكثر من كونه بروباجندا سياسية.
البروباجندا الاستعمارية
تقع أحداث فيلم جولدا في مساحة زمنية قصيرة بالنسبة للملاحم الحربية والتاريخية وهي ساعة وأربعين دقيقة، طيلة الساعة والأربعين دقيقة لم يذكر اسم فلسطين مرة واحدة، بشكل يكاد يكون مقصود تماما لتجنب مناقشة طبيعة دولة إسرائيل أو كيفية نشأتها.
بالنسبة لعالم الفيلم، وُجدت إسرائيل منذ بداية الخلق، بسياساتها وشعبها الذي أنقذته مائير من «المحو»، من الناحية الحربية والعسكرية لا يذهب «جولدا» لمسافات بعيدة في تصوير أنيق أو إثاري لمشاهد القتال، لسبب رئيسي وهو كون الفيلم عن الهزيمة فلا يوجد سياق حقيقي لتبجيل الحرب والعنف لأنه واقع على الجيش الاستيطاني وليس ضده، لكن ما يفعله الفيلم هو رثاء الجنود مرارا وتكرارا، والحديث عنهم باعتبارهم أولاد وملائكة، وتكرار جمل حوارية على لسان جولدا مائير بتهديدات بصناعة «جيش من اليتامى والأرامل» من الجيش المصري، دون مراجعة لتصريح مثل ذلك فهي مجرد امراة تحاول إنقاذ شعبها.
في الإطار نفسه من تجاهل طبيعة إسرائيل وقيامها فوق دولة وشعب آخر؛ يمرر الفيلم الخطيئة الأولى وهي معاداة السامية كتبرير لكل شيء، كما يدمج ذلك مع فرصة للتلميح ضد روسيا بمونولوج مؤثر من جولدا مائير تسرد عذابات طفولتها كيهودية يهاجم منزلها جنود من الروس.
تكرر شخصية جولدا مرارا حاجتها لأن يعترف الرئيس المصري أنور السادات بدولة اسرائيل أو أن يقل الكلمة على الملأ: «إسرائيل» وليس الكيان الصهيوني أو أي وصف آخر ، وهو ما يكاد يكون تركيز ارتيابي وقلق داخل السردية السينمائية فيما يخص السردية التاريخية، واحتياج باعتراف الآخر سواء السياسي أو المتلقي الترفيهي لقطعة من المحتوى البصري بكون إسرائيل دولة وليست كيان استعماري أو نظام فصل عنصري، على الرغم من عدم اعتراف الفيلم كعالم مستقل عن الواقع بكون تلك الدولة القلقة هي حطام فلسطين التي لا وجود لها داخل السياق الفيلمي.
يعمل فيلم جولدا كاختبار رورشاخ النفسي الشهير حيث تقطر نقاط من الحبر داخل ورقة مطوية ثم يسأل شخص عما يرى نتيجة انتشار تلك البقعة عديمة الشكل ويحولها حسب نظرته إلى هيئة شكلية تفصيلية، يرى المصريون والعرب وبعض اليساريين الغربيين فيلم جولدا كفرصة للاحتفال وللتشفي والسخرية من سذاجة أبطاله وأحزانهم الاستعمارية بينما يتعامل معها المشاهد المتوحد مع السياسات الاستيطانية والبروباجندا الغربية التي لا تتوقف كدراسة شخصية مؤثرة تصنع من الجناة أبطال مرة أخرى، مثلما يحدث مع كل كارثة جديدة.