كنت أسير برفقة زوجتي وابني الصغير في الشارع، وعلى بعد ثلاثة أمتار وجدته واقفًا في هدوء، يرتدي قميصًا مارونيًا وبنطالًا أسود، ونظارته المطفية اللون، ويكتسي شعره بشعيرات بيضاء لا تتناسب مع أعوامه الخمسة والخمسون، ربما كان ذلك المطرب الشهير صاحب الستين عامًا أكثر شبابًا منه، فلعله لم يشغل باله يومًا ولم يتعب عقله وقلمه مثل العراب، فحتمًا مهنتا الطب والكتابة لا تجتمعان على شخص إلا وتوصلانه السبعين في سن الخامسة والخمسين.

نظرت إليه في إعجاب شديد، ولعله لاحظ عندما تلاقت عينانا للحظات، أردت أن أذهب لأسلم عليه، فكرت كم سأكون سخيفًا بأن أقطع عليه خصوصيته أو حبل أفكاره، أشرت لزوجتي وقلت لها هل تعلمين من هذا الواقف هناك؟ إنه الدكتور أحمد خالد توفيق، نظرت هي الأخرى، قلت في نفسي فلتذهب خصوصيته إلى الجحيم، سأذهب لأصافحه وليحدث ما يحدث، تغلبت على خجلي وهممت بالالتفات إليه لكن الوقت قد فات، فقد ركب سيارة أجرة وفي ثوان اختفى عن الأنظار.


للأسف لم تكن كذبة أبريل

ربما حتى هذه اللحظة أتمنى أن تكون هذه كذبة أبريل سخيفة! مجرد كذبة، حتمًا هو يسخر منا جميعًا كعادة كل الناس في هذا الشهر، سيستيقظ الآن من نومته ويتناول هاتفه ويخبر المقربين منه أن المزحة قد انتهت، وأنه سيكتب مقالًا جديدًا يعتذر فيه عن الفراغ الذي قد تركه فينا، ستأتي هذه اللحظة ولا شك، أحلم بالتأكيد، لكن سامحوني عقلي يأبى الاستسلام.


صاحب السمو

هذا الرجل الذي ملأ أركان وجداننا في الطفولة والشباب والرجولة، لن تجد موقفًا يمر أمام عينيك إلا وتتذكر اقتباسًا أو جملة أو مقولة له، هذا الرجل ألهم جيلًا كاملًا صار منه الآن بلا مزاح آلاف الروائيين بفضله، وملايين القراء أحبوا الإمساك بالكتب بسببه، تخرج الكلمة منه تصف ما في أعماق أعماق قلبك، تتعجب من قدرته على الإتيان بالكلمة هكذا من داخلك، ما هذا؟ هذا ما كنت أود أن أقوله بالضبط! إنه «الديجافو» المُربك الذي تتركه كتاباته فينا، تبدأ المقال أو الكتاب وتدعو الله ألا ينتهي.

كنت أحمد الله أنه ما زال في وطني من لم يبع ضميره، من لم يرضَ بأن يبيع قلمه، من يعبر عن هذا الجيل الميت المنتهي الغاضب الساخط، ولكن كما عادة الموت، ينتقي من هم أغلى وأطهر دومًا كما قال هو يومًا:

ربما في موته رسالة واضحة وصريحة في هذا اليوم بالتحديد، أن الله قد اختاره غضبًا علينا بأننا لا نستحق مثل هذه القامة بيننا.


ما لم يتذكره أحمد خالد توفيق

كان الدكتور أحمد قد كتب في مقال قديم له أنه ليعبر عن صدمة حب المراهقة قرر الانتحار، لكنه عاد وقال أن يتناول شطيرتين من «السجق» من عند «عواد»، ثم كوب من الشاي بالنعناع، وفي الصباح سينسى كل شيء، وبالفعل استيقظ في الصباح ونسي كل شيء. لكن ماذا عنا؟ كيف يمكن أن ننسى؟! ما زلت أتناول الشطائر من عند عواد حتى الآن، وأحتسي على الأقل كوبًا من الشاي بالنعناع يوميًا، وأسير في الشوارع التي رأيته فيها، وتقع عيني على كتبه فوق مكتبي، وتحاصرني مقالاته على صفحتي الشخصية، التي مهما غصت في أعماقها وقلبتها ذات اليمين وذات الشمال، لن تكتشف إلا الشيء المحزن القاتل الوحيد، أن الدكتور أحمد خالد توفيق بجلالة قدره نسي أن يخبرنا طريقة واحدة وحيدة تساعدنا على نسيانه.


رسالتي إليك

بل الموت يختار ببراعة.. يختار الأفضل والأنبل والأشجع!

إلى الأب الروحي لجيلي، إلى ذلك الذي لم يشأ خيانتنا، إلى ذلك الذي قد وهب من وقته السنين ليهون علينا، إلى ابن بلدي ومدينتي، إلى العرّاب، هذه رسالتي التي أوقن بأنك لن تقرأ حرفًا منها، أعلم أنها تأخرت كثيرًا، لكن كما يقولون: أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي أبدًا.

قلت ذات مرة:

أنا يا رفاق أخشى الموت كثيرًا، ولست من هؤلاء المدّعين الذين يرددون في فخر طفولي: نحن لا نهاب الموت.. كيف لا أهاب الموت وأنا غير مستعد لمواجهة خالقي!

لكني هنا أذكرك بما قال الصادق الأمين، بأننا شهود الله في الأرض، وأنه مذ لحظة رحيلك لم تتوقف الألسنة عن الدعاء لك بالرحمة، والشهادة لك بأنك كنت القلم الأمين، تلك المراثي الغالية الصادقة لا أجد ترجمة لها إلا قوله عز وجل: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ»، ولعل شهادتي هنا لن تهم الكثير، لكني أشهد الله أنك كنت رجلًا صادقًا، لم تخن يومًا جيلنا، ولم تبع مع من باع، وكنت بنا رحيمًا قولًا وفعلًا، وقفت جوارنا كما لم يقف أحد، وساندتنا وهوّنت على قلوبنا، شاركتنا آلامنا في اللحظات التي كنا نحتاج لمن يشاركنا فيها، وفي اللحظات التي أصابت قلوبنا المتعبة بالإحباط.

لكن تلك هي سنة الحياة، قدرك مذ ولدت أن تموت في هذا اليوم، بالمرض على سرير مستشفى، أو في فراشك نائمًا، أو على مكتبك تكتب، وقدرنا أيضًا أن نتحمل المزيد من سخافات هذه الحياة، بل بالأحرى هذا الموت، ونتحمل غياب نبيل وراء نبيل، لقد فهمت الآن لماذا لا تتعدى أعمارنا الثمانين على الأغلب، لأننا سنجن من فرط الحنين إليك ولا شك في ذلك.

هل فهمت الآن الحكمة من كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟ لو عاش الإنسان مائتي عام لجُنّ من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان.

ربما في بلد آخر كان يتغير قدرك، وتصبح ذا شأن أعظم، ففي بلدان العم سام يصبح أمثالك واجهة للمجتمع، واجهة في مشهد عبثي يتصدره المخنثون والـ… عذرًا فلا يليق أن أذكر مثل هذا اللفظ في هذا الحدث الجلل، لكني أثق أنك تفهمتني تمامًا.

آه.. نسيت أنك لن تقرأ هذه الرسالة ولن تتفهمني، ما زال بعد كل هذه السطور الطويلة يأبى عقلي التصديق، ربما في عالم آخر سأقابلك وأسلم عليك وأذكرك بالموقف الذي رأيتك فيه في مقدمة هذا المقال، وسأسلمك هذه الرسالة، وأنتظر أيامًا لترد علي بأنها لم تعجبك، لأني رثيتك وأنت لم تمت!

فلتنَم ،فلتنَم، في الصباح سيمُر اليوم سريعًا وتخلد للنوم من جديد، ستفعل هذا وتواظب عليه 365 مَرة كل عام، ولمدة عشرين عامًا أخرى، ثم ينتهي كل شيء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.