في روايته الأولى يقتحم الصحفي والأخصائي النفسي المصري شادي لويس عالم المسيحيين المصريين بخفّةٍ وذكاء، ليرصد رحلة بطله شريف بولس الخاصة شديدة الغرابة والتعقيد الذي يسعى جاهدًا طوال الرواية للخلاص من مشكلات ظلّت تعرقل مسيرة حياته ليجد نفسه بعد أن يدور في متاهة طويلة من الإجراءات داخل «طرق الرب» التي يبدو أنه لا مفر منها!

لم أكن أريد إلا أن أعيش وفق الدوافع التي تنبع من نفسي الحقيقية، فلم كان ذلك صعبًا جدًا؟

هكذا قال بطل رواية هيرمان هيسه في روايته «دميان»، ويبدو أن هذا ما دار في نفس بطل رواية «طرق الرب» أيضًا. تنقسم الرواية إلى خطين سرديين متوازيين، يقوم الأول على اعترافات يقدمها الراوي/البطل بكل بساطة للقس «الأب أنطونيوس» ولكنه اعترافٌ من نوع خاص، لا يتعرّف القارئ على الهدف منه إلا في الثلث الأخير من الرواية، حينما يكتشف أن كل هذه الاعترافات (التي يأتي فيها سرد سيرة حياة البطل وأجداده كلهم، وعلاقتهم بالكنيسة) ليس إلا من أجل الحصول على شهادة تجيز/تسمح له بالزواج من حبيبته، في حين يسير الخط الثاني من السرد لكي يكشف لنا الجانب الآخر من «شريف» المتعلق بحكايته الملتبسة مع حبيبته الألمانية «إستر» وتورطه رغمًا عنه في عدد من المشكلات السياسية والقانونية التي تقوده في النهاية إلى السجن!

كنت قد قضيت طفولتي ومراهقتي منغمسًا في الكنيسة والكتب المقدسة، فبسبب ذلك التشوش الذي وجدت نفسي فيه، مع زيارتي إلى الكنائس الأرثوذكسية تارة والكاثوليكية تارة أخرى، وتشكيك والدي الدائم في نزاهة رجال الدين ووصمه إياهم بالنصب، وكل تلك الحكايات العائلية عن التمرد والظلم على يدي السلطة أيًا كان شكلها، كانت قد دفعتني للبحث عن الحقيقة بمفردي، والتشكك في كل مصادرها الجاهزة، وأنا كنت طفلاً نابغًا، كما يقول الجميع إلى اليوم، ولا أخفي عليك أني وجدت القداديس هنا في الكنيسة مملة مكررة، ولم أفهم لماذا عليّ الإنصات لتراتيل بلغةٍ لا يتكلمها أحدٌ أو يفهمها ..

بانسيابية شديدة وعبر طقس الاعتراف التطهري ذلك من جهة، والسرد الحكائي العادي من جهة أخرى يكشف شادي لويس عن عالمٍ يجهل الكثيرون تفاصيله من حياة المسيحيين في مصر، وما واجهوه ويواجهونه داخليًا وخارجيًا من اضطهاد ومعاملة سيئة منذ مراحل الطفولة المبكرة وحتى الوصول إلى مراحل فورة الشباب بل وحتى بعد محاولات الهرب!

لم تكن عائلة البطل «شريف» وحدها هي التي تواجه القهر والاضطهاد في مصر، فثمة إشارات هامة ودالة لعدد من المشكلات الأخرى في المجتمع، بل وإشارة هامة لمشكلات اللاجئين وللمفارقة فهي المرة الثانية التي ترد فيها مشكلة اللاجئين السودانيين الذين اعتصموا أمام مسجد مصطفى محمود وتم فض اعتصامهم بقوة ووحشية من قبل رجال الأمن المصري عام 2005 والتي جاء ذكرها في رواية حجي جابر «رغوة سوداء» مؤخرًا أيضًا.

اقرأ أيضًا:رغوة سوداء البحث عن الوطن في المنافي

من جهةٍ أخرى يأتي الاهتمام بسرد حكاية عائلة البطلة/الحبيبة الألمانية «إستر» وما حدث لهم من قهر في ألمانيا بمثابة إشارة إلى أن ذلك شأنٌ إنساني عام، وهي الإشارة التي ينقلها والد البطلة إلى شريف في زيارته الوحيدة له في القاهرة حينما يشير إليه أنه لا فائدة من معرفة الماضي!

كيف تنظر في عيني امرأة.. أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟ كيف تصبح فارسها في الغرام كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام. كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام.
أمل دنقل .. لا تصالح

أجاد شادي رسم شخصيات عالمه، رغم تعددها واختلاف مستوياتها الاجتماعية والثقافية، واستطاع أن ينجو بشكلٍ كبير من تنميط هذه الشخصيات من الموظف الحكومي حتى ضابط الشرطة مرورًا بالقسيس والصحفي والأجنبي وغيرهم، كما سعى أن يوضح طبيعة كل شخصية بشكلٍ يسير من خلال المواقف والأحداث التي تدور في الرواية دون تصنع ولا تكلف.

ورغم أن الرواية تسير بشكلٍ هادئ وبسيط من خلال الاعترافات، فإنها مشحونة أيضًا بالأحداث والمفاجآت التي تأخذ طابع البوليسية وتدفع القارئ لاستكمال قراءة العمل متشوقًا لمعرفة إلى أين سينتهي ذلك البطل المسكين وحكايته، كما استطاع أن يُفلت أيضًا من فخ المطلومية والخطابية الزاعقة التي يمكن أن يقع فيه أي كاتب يتناول علاقة المسيحيين واضطهادهم داخل السلطة المصرية.

لا أخفي عليك يا أبونا أنني قد تحاشيت النظر إلى المرآة بعدها لوقتٍ طويل، وأنني جرّبت كريمات تفتيح البشرة التي كان مفعولها متواضعًا جدًا، فغير الالتهابات التي سببتها فإنها لم تجدِ نفعًا مع ملامحي المكتنزة ولا في تخفيف حيرتي، فإما أن هيئتي هذه لا تشبه الأقباط، أو أنهم ببساطة سُمر البشرة كغيرهم، وإن كانت هذه الحقيقة فلماذا يطلقون علينا لقب الخواجات؟

هي رواية عن قهر المسيحي المصري في مصر بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة ولا شك، ولكنها في النهاية حكاية أخرى عن الإنسان داخل وطنه وبين أهله وأصدقائه في العالم العربي، وما يتعرض له من اضطهاد وقهر بسبب ربما يعود لديانته أو لونه أو ربما شكله، ودون سببٍ أيضًا لأخطاءٍ روتينية ساذجة قد تكون في النهاية قاتلة!

بين هذا وذاك يبقى أن الرواية تمثّل – ولا شك- إضافة مهمة وخاصة في الكتابة الأدبية بشكلٍ عام ولما يمكن أن نطلق عليه «الأدب القبطي» الذي يبتعد عن الصور الدرامية النمطية السطحية التي يتم تقديم المسيحيين بها في الأعمال العربية المعتادة، وذلك من خلال كاتب مسيحي بالمقام الأول على دراية بالكثير من التفاصيل الخاصة بعالم الأقباط وحياتهم وتاريخهم في مصر.

شادي لويس كاتب وصحفي وإخصائي نفسي مصري، يعيش في لندن منذ سنوات، حصل على الماجستير في علم النفس عن دراسته «للبنية الخطابية للحشود في الثورة المصرية»، يكتب بشكلٍ دوري في عدد من المواقع الصحفية العربية، مهتم بشكلٍ خاص برصد تغيرات المجتمع المصري وتحولاته، «طرق الرب» هي روايته الأولى صادرة، مؤخرًا، عن الكتب خان.