الله والعلم وجوجل!
(1)
كلما ذهبت إلى دولة جديدة أجدني في حيرة من أمري، أفكر في فكرة تبدو ساذجة لكنها تلح على ذهني في موضعين، أحدهما زيارة دولة جديدة، والأخرى عند تأخري عن موعد مهم بسبب الزحام في أحد الشوارع، أجد نفسي تتساءل: ماذا لو دخلت إحدى هذه البنايات المجاورة لي بشكل عشوائي، هل سأجد فيها أهلي أو أصدقائي الذين يربطني بهم موعد الآن؟ بالتأكيد لا. لماذا وهذه البناية تشبه تمامًا شكل البناية التي سينعقد فيها اللقاء؟ لماذا لن أجدهم والشارع مثل الشارع والحي مثل الحي؟ مجرد اختلاف بسيط في العنوان يؤدي إلى نتيجة مغايرة تمامًا؟ أن أدخل إلى شقة 16 في الطابق الرابع من البناية رقم 5 في شارع محمد محيي الدين بحي الدقي محافظة القاهرة بالديار المصرية، هل هو أمر مختلف كثيرًا عن دخولي إلى شقة 16 في الطابق الرابع من البناية رقم 5 في شارع الجزائر بحي الدقي محافظة القاهرة بالديار المصرية أيضًا؟ إن العنوانين شبه متطابقين، فقط اسم الشارع مختلف، كل ما قبل اسم الشارع وما بعده في العنوان متطابق باستثناء حروف يسيرة هي اسم الشارع، فلماذا يشكل هذا الاختلاف اليسير في حروف أو أرقام فرقًا كبيرًا في النتائج، فيؤدي أحد العنوانين إلى مكان ذي طبيعة مختلفة تمامًا عن المكان الآخر؟
فكرة ساذجة كما قلت لكم لكنها تثيرني جدًا، لماذا تختلف النتائج كثيرًا باختلاف يسير في المقدمات والإشارات والدلائل الموصلة؟ لماذا حين يتغير حرف من عنوان طويل لصفحة إنترنت يؤدي تغيير هذا الحرف إلى صفحة مغايرة تمامًا، بل قد تكون مضادة معادية للصفحة الأولى؟ لماذا يحدث كل ذلك؟ وهل علي أن أكون شديد الانتباه للأدلة والمقدمات لأن الاختلاف اليسير جدًا فيها يؤدي إلى نتائج مغايرة تمامًا كما رأينا؟
هذه الأسئلة تدفعني بدورها إلى أسئلة جديدة فأقول: من منكم يعرف خريطة العالم؟ هل تعرفونها بالتفصيل؟ هل يحفظ أحدكم موقع كل قارة ودولة ومحافظة ومدينة وحي وشارع وبناية وغرفة وخزانة ملابس ومحتوياتها في كل جزء من العالم؟ بالتأكيد هذه المعلومات بهذا التفصيل لا يعرفها أحد من الخلق، ولا يحيط بعلمها أحد قط إلا الله تعالى الواحد الأحد الذي لا شريك له في إحاطة علمه.
تأملت وتفكرت كثيرًا وأنا أمارس هوايتي الخاصة في التحرك عبر خريطة العالم واستكشاف مدنه الكبرى وعلاقتها المكانية ببعضها البعض باستخدام برنامج «google maps»، ورأيت من خلال هذا التأمل عددًا من الرؤى، أذكر لكم الآن منها ما لاحظته من علاقة العلم بالعالم.
(2)
إن هذين اللفظين قد أُخذا في اللغة العربية من جذر واحد هو: العين واللام والميم، «علم»، وينبغي أن نعرف أن لكل كلمة أب وأم، فآباء الكلمات هي الأفكار، وأمهاتها هي الجذور اللفظية التي تؤخذ منها هذه الكلمات، فعندما أفكر في فكرة ما أبحث عن أم يمكنها أن تلد لي لفظًا جديدًا يعبر عن هذه الفكرة، وهذه الأم (الجذر) تلد الكثير من الأبناء (الألفاظ الجديدة) باختلاف الآباء الذين قاموا بتلقيحها (الأفكار والمعاني) لكن هؤلاء الأبناء وإن كان بينهم اختلاف بسبب اختلاف آبائهم (الأفكار والمعاني) فإن قدرًا كبيرًا من التشابه يكون بينها نظرًا لاتحاد الأم (الجذر)، إذ لولا قدرة هذه الأم على ولادة هذه الكلمات الجديدة، لما وقع اختيار الآباء المتعددين عليها دون غيرها من الأمهات لإنجاب أبناء جدد يعبرون عن الأفكار الجديدة.
(3)
إن اللغة تنشأ وتتطور من خلال هذه العملية المتكررة دائمًا، توجد فكرة في الذهن أولًا، ثم نحاول التعبير عنها بالألفاظ فلا نجد في قاموس اللغة كلمات قادرة على التعبير عن هذا المعنى وهذه الفكرة الحاصلة في الرأس، هنا تتدخل الأمهات اللغوية (الجذور) معلنة قدرتها على حمل هذه الأجنة (الأفكار الجديدة) ثم ولادتها في شكل مفردات لغوية جديدة، وهذا المعنى هو ما عبر عنه خبراء اللغة العربية الأقدمين فيما سموه بقانون «الوضع»، حين قالوا: «الاستعمال من صفة المتكلم، والحمل من صفة السامع، والوضع قبلهما»، إذ لا بد من وضع لغوي يسبق الاستعمال والحمل، فالوضع كما قالوا هو: «جعل اللفظ بإزاء المعنى»، فتوجد الأفكار أولًا في الذهن ثم نضع الألفاظ المعبرة عن هذه الأفكار، وبذلك تكون اللغة صالحة للاستعمال وتبادل الأفكار بين الناس، فيقوم المتكلم بعملية الاستعمال وهي: «تحويل أفكاره إلى ألفاظ»، أو بعبارة أخرى يقوم بتشفير أفكاره من خلال الشفرة التي تم وضعها مسبقًا، وأخيرًا يقوم السامع بتحويل هذه الألفاظ إلى معان وهي العملية المسماة بـالحمل، فتغلق بذلك دائرة التواصل بانتقال الأفكار من ذهن المتكلم إلى ذهن السامع عبر هذه الوسيلة الحاملة للأفكار والمسماة باللغة.
(4)
نعود إلى موضوعنا فنقول: إن التشابه اللفظي بين كلمة «العلم» وكلمة «العالم» تشي بتشابه معنوي بينهما، فلنستعرض أولًا الكلمات الأخرى القريبة من هاتين الكلمتين، فنجد: العِلْمَ بمعنى المعلومات أو القدرة على إدراكها وتحصيلها، وجمعها العلوم، والعَلَمُ بمعنى الراية، والعَلَمُ أيضًا بمعنى الجبل، والعَلَمُ شيء منصوب في الطريق يهتدى به، والعَلَمُ رسم في الثوب، والعَلَمُ سيد قومه، وجمع الأربعة السابقة أعلام، والإعْلامُ بكسر الهمزة هو الإخبار، والعَلَامَةُ هي الرمز، والعَلَّامةُ – بتشديد اللام – هو العالِـــمُ عظيم العلم، والعالَم – بفتح اللام – هو الكون بكل ما فيه، وجمعه العوالم، والعالَم بفتح اللام أيضًا الجنس من المخلوقات، وجمعه العالمون، وهو في القرآن في قوله تعالى: «الحمد لله رب العالمين»، والعالِم – بكسر اللام – صاحب العلم، وجمعه العلماء، والعالَمي اسم منسوب للعالم معناه الكوني أو الذائعة شهرته في كل الدنيا، والاعتلام سطوع البرق في السماء، يقال اعتلم البرق أي سطع، واستعلم أي: طلب العلم بأمر ما.
هذه الألفاظ كلها تشترك في معنى الظهور والوضوح والاشتهار، فإذا عدنا إلى لفظ العلم ولفظ العالم وجدنا فيهما نفس معنى الظهور والوجود، لكن أيهما أوسع من الآخر وأعم وأشمل؟ هل العالم أسبق في الوجود أم العلم؟ وهل تفاصيل العالم أكثر أم تفاصيل العلم؟
(5)
لفهم هذه الأسئلة بشكل أفضل يمكننا تأمل رسالة شركة «جوجل» إذ تقول: «إن هدفنا هو إدارة معلومات العالم، بحيث تكون منظمة ومرتبة، ويمكن الوصول إليها من أي مكان». ثم يسترسلون في شرح هذه الرسالة فيقولون: إنهم يهدفون إلى جمع كل ما من شأنه أن يسمى معلومة، إذ إن هناك دائمًا المزيد من المعلومات التي يمكن الوصول إليها، لذلك قالوا: «نريد معرفة خريطة العالم، وأسماء بلدانه ومقاطعاته، وأسماء شوارعه، وأرقام البنايات في كل شارع، ومحتويات كل بناية من أثاث وغيره، وأسماء المقيمين في كل بناية، وأعمارهم، وتاريخهم الصحي، حتى يمكننا يومًا ما أن نعلم عدد المرات التي أصاب السعال فيها سكان هذا الشارع خلال النصف ساعة الماضية، كل هذه معلومات، لذلك نحن نريدها كلها».
هذه الرغبة الطموحة بل المجنونة للقائمين على هذه الشركة العملاقة جعلتني أفكر في طموح الراغبين في العلم والمعرفة، هل يستطيع أحد أن يعرف كل ما في العالم من معلومات؟ بالقطع لا، وذلك لأن معلومات العالم تزيد وتتغير في كل لحظة، وشكل العالم وعدد سكانه والحالة المزاجية والصحية لكل منهم كل ذلك قد تتغير في هذه الدقائق التي تقوم فيها بقراءة هذا المقال، لذلك يكفيك أن تعرف خريطة العالم إجمالًا وأنه يحتوي على قارات سبع هي كذا وكذا، ثم تعرف الدول الكبرى في كل قارة بما في ذلك الدول الكبرى في القارة التي تقيم فيها، ثم تعلم المحافظات الواقعة ضمن إطار بلدك، ثم تعرف الأحياء الرئيسة في محافظتك، ثم تعرف شوارع حيك وحواريه، ومحلات البقالة وغيرها من المنتجات والخدمات في شارعك، ثم موقع منزلك من الشارع، وموقع غرفتك من المنزل، وموقع سريرك من الغرفة، وموقع وسادتك من السرير، هذا مع علمك باسمك واسم أبيك وأمك، واسم زوجتك وشكلها، واسم أبنائك وزملائك في العمل، إلى غير ذلك من تفاصيل الحياة اليومية، ومعرفتك بهذه المعلومات اللصيقة بك يعد حدًا أدنى للحياة، وما فوق ذلك من معلومات عامة في العالم بعيدة عن حركتك وحاجتك اليومية يعد من الثقافة العامة التي يقع بعضها في إطار المعارف الأساسية للمثقف، وبعضها في إطار المعارف التكميلية والثانوية.
(6)
وهذا الذي قلناه عن معرفتك بالعالم نقول مثله عن معرفتك بالعلم، فينبغي أن تعرف أن العلوم لها دوائر كبرى، هي من العلم بمنزلة القارات من العالم، وهذه الدوائر الكبرى أربع: هي العلوم الشرعية والعلوم اللغوية والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، ثم تبدأ في التعرف إلى أهم العلوم في كل دائرة كما تعرفت إلى أهم الدول في كل قارة، ثم تتعرف إلى الخريطة الداخلية لكل علم، ثم تعرف التفاصيل والدقائق في هذا العلم، مع معرفتك بما لا يمكن الاستغناء عنه من معلومات ومهارات أساسية في العلوم كافة، لكن يجب أن تعلم وأنت تغوص في بحار العلم أن هناك جوانب بالتأكيد غائبة عنك في أعماقه أو على سطحه وشطآنه، وهذا ما عبر عنه القائل في قوله:
حاول أن تجمع من جزئيات العلم بقدر طاقتك، ولا تنس الخريطة الإجمالية له أبدًا، فإن هذا مما يقبح نسيانه، واحرص على رد كل فرع لأصله، ووضع كل معلومة في إطارها، وتحديد موقع كل فكرة من الخريطة الإجمالية والتفصيلية للعلم.
(7)
في ضوء ما سبق، نعلم أن كل ما في العلم من تفاصيل وقواعد هي بعض ما في العالم، وأن العالم المنظور فقط أكثر تعقيدًا بكثير من أن يحيط به علم البشر، فكيف بالعالم غير المنظور أو المكتشف بعد؟ لذلك نقول: إن كل ما في العلم في العالم وليس كل ما في العالم في العلم، فاعلم أيها الإنسان أن كل علمك في علم الله شبيه بالعدم، أو هو والعدم سواء، وأنه ما أوتيتم من العلم إلا قليلًا كما قال القرآن الكريم، وأن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
(8)
إن إدراك الظواهر والعناية بها ومحاولة فهمها وتفسيرها هو غاية علم البشر، أما حقائق الأشياء وتغيراتها الداخلية، ورحلة المادة والطاقة والأفكار والمشاعر على المستوى الكلي والجزئي من بداية الخلق إلى نهايته هي في علم الله تعالى وحده، وبذلك نحاول أن نفهم موقف «الخضر» حين خاطب «موسى» عليهما السلام عندما كانا في السفينة فحط طائر فشرب من النهر ثم طار فقال الخضر لموسى: مثل علمي وعلمك في علم الله كمثل ما أخذ هذا الطائر من النهر، فسبحان الله العالم العليم الحكيم السميع البصير القدير.