حرب النيوليبرالية العالمية: جذور الأزمة الأوكرانية
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
بوريس كاجارليتسكي هو عالم اجتماع ومُنظِّر ماركسي روسي شهير. كما أنه مدير «معهد العولمة والحركات الاجتماعية» (IGSO) بموسكو. عمل بوريس نائبًا بسوفييت مدينة موسكو بين عامي 1990 و1993، حيث كان عضوًا بالهيئة التنفيذية للحزب الاشتراكي لروسيا، ومؤسسًا مشاركًا لحزب العمل، ومستشارًا لرئيس اتحاد عمال روسيا المستقل. من مؤلفاته: «إمبراطورية الأطراف: روسيا والنظام العالمي» (بلوتو، 2008)، «روسيا تحت حكم يلتسين وبوتين: أوتوقراطية النيوليبرالية» (TNI / بلوتو، 2002)، و«الواقعية الجديدة، البربرية الجديدة وأزمة الرأسمالية» (بلوتو، 1999). وهذه الترجمة بناءً على إذن منه.
تهدف هذه الدراسة إلى بيان أن الأزمة الدولية في أوكرانيا مقترنة لا بأزمة داخلية أوكرانية فحسب، بل بأزمة داخلية روسية أيضًا. على الرغم من أن الأزمة الأوكرانية أكثر حدة (بما في ذلك الحرب الأهلية)، فإن عددًا من القواسم المشتركة تجمعها بنظيرتها الروسية: الحُكم الأوليجاركي، والاعتماد على الموارد الطبيعية وتردِّي الخدمات الاجتماعية. تُقدِّم هذه الدراسة تشريحًا لآليات عمل كلا الأزمتين التوأمين ضمن إطار سردية جامعة لتطورهما وروابطهما، يبتعد عن القوالب الجامدة السائدة في الدوائر الليبرالية وحتى بعض الدوائر اليسارية الأوكرانية والروسية والغربية.
إن هيمنة الأوليجاركية في كل من روسيا وأوكرانيا، لا تعني أن السياسة واحدة في كلا البلدين. أتاحت الثروات الطبيعية الروسية إقامة نظام مساومة اجتماعية مُتجدد يرتكز على إعادة البناء المتواصل لإجماع النخب وتدابير رفاه هدفها كسب التأييد الشعبي لهذا الإجماع. وتحت حكم بوتين، بلغت تلك المساومة درجة من الكمال مغايرة للصورة السطحية التي يرسمها الإعلام الغربي للديكتاتورية الاستبدادية . في المقابل، افتقرت الأوليجاركية الأوكرانية للثروات الطبيعية الكافية، بالإضافة لعجزها عن تأسيس الإجماع سواء بين صفوفها أو صفوف الجماهير ككل.
في روسيا الألفية الجديدة، نما الاستهلاك الفردي بثبات حتى بلغ ذروته التاريخية في عام 2008، ورغم أن التفاوتات الطبقية ظلت مرتفعة، شهدت المجموعات الأشد فقرًا بعض التحسن. وشعر معظم الروس بالرضى عن الوضع. تركزت المشكلات بشكل أساسي في الشح المُزمن للإنفاق على البنية التحتية، وتدهور جودة التعليم والرعاية الصحية، والتقادم المادي والأخلاقي للحواضر الصناعية، وتراجع البحث العلمي. باختصار، كان البلد يتغذى على مستقبله (IGSO 2013).
الأزمة والمعارضة داخل روسيا
كشفت أزمة 2008 عن نقاط ضعف وتناقضات الاقتصاد الروسي. واستجابت لها النخب الحاكمة بحذر خشية تقويض الاستقرار. اندلعت احتجاجات الطبقة الوسطى في موسكو وسان بطرسبرج خلال 2011 و2012، لكنها فشلت في إثارة حراك أوسع. إذ لم تكن الأغلبية مستعدة للمجازفة برفاه واستقرار تحققا بشق الأنفس، لأجل تحولات محفوفة بالمخاطر وبدائل غامضة. ومن ثم، فقد ذَوَت الاحتجاجات بنهاية المطاف، أيضًا لأن قيادتها الليبرالية هَمَّشت اليسار، ضامنة بذلك عزل الحراك عن المجتمع وشواغله. ولم تُؤدِّ الأجندة الليبرالية المناهضة لبوتين الموالية للغرب إلا إلى تأييد متزايد للنظام القائم، إذ كانت مخاطرها واضحة بما يكفي.
حَال تهميش اليسار دون استيعاب المعارضة الليبرالية والحكومة لحقيقة أن أحداث 2011- 2012 السياسية كانت متجذرة في الضغط المتزايد الذي فرضه التباطؤ الاقتصادي على الطبقة الوسطى، هذا هو السبب في أن المطالب النيوليبرالية الجوهرية (من قبيل السيطرة على التضخم أو تقليص الإنفاق الاجتماعي) لم تكن على أجندة المُحتجين. ومع ذلك، فقد فَسرت المعارضة الليبرالية افتقارها للدعم، بوصفه انعكاسًا لـ «زومبيَّة» الروس المُغيبين عبر البروباجندا، وعجزهم عن التخلص من «عقلية القِنانة» التي تمنعهم من استيعاب القيم الغربية. اعتَبرَ كثير من المثقفين الليبراليين الجماهير الشعبية «عِرقًا وضيعًا» عاجزًا ثقافيًّا أو حتى بيولوجيًّا عن التوافق مع «مُتطلبات المجتمع الديمقراطي». وتكرر ذلك لاحقًا خلال الأحداث الأوكرانية عام 2014، بما في ذلك انتفاضات القرم والدونباس.
بحلول 2013، أعلنت الحكومة الروسية بنبرة واثقة «نهاية الاضطرابات»، رغم أن المشكلات العويصة والتناقضات ظلت كما هي. واصل الاقتصاد تدهوره، والروبل انخفاضه، والإنتاج الصناعي ركوده، خاصة عقب انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية في 2012. كان توازن مجتمع الألفية الثانية الروسي في طور الانحلال، حتى أجهزت عليه تمامًا مُستجدات كييف.
الدراما الأوكرانية
في ظل غياب الموارد الطبيعية والمالية الضرورية لإقامة تسوية اجتماعية ملائمة (على سبيل المثال، كان الصُّلب الأوكراني أكثر هشاشة أمام تقلبات السوق العالمي مقارنة بالنفط الروسي) شهدت أوكرانيا صراعًا متواصلًا بين العشائر الأوليجاركية بهدف السيطرة على الموارد العامة المحدودة، ما جعل الجمهورية الأوكرانية المُسماة ديمقراطية مثالًا نموذجيًّا لجمهورية أوليجاركية بجمهور مُنزوع الحقوق جنبًا إلى جنب مع نخبة منقسمة على ذاتها. وطيلة عقدين، عُولجت كل أزمة عبر تسوية مؤقتة داخل الأوليجاركية. حتى سَددت أزمة 2008 العالمية الضربة القاضية لهذا النظام برمته.
لم تكتفِ أزمة 2008 بإنهاء صلاحية النظام السياسي القائم، لكنها أقحمت لاعبين جددًا على الساحة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، والناتو. والذين تستحق دوافعهم التوقف عندها: في خضم أزمتها الخاصة، صار التوسع أمرًا حاسمًا للمنظومة النيوليبرالية الغربية للحفاظ على استقرارها. تسببت النيوليبرالية في أزمات ديون لأعضاء الاتحاد الأوروبي الجنوبيين، الذين سعوا بدورهم للخلاص منه. وهو ما لم تكن النخب النيوليبرالية مستعدة لقبوله. وقد أمكن تهدئة هذا التناقض لبعض الوقت على الأقل، عبر توسعة النظام. هنا، ظهرت أوكرانيا، وربما روسيا كذلك، كأسواق ذات أهمية مُعتَبرة.
أضف إلى ذلك أن أوكرانيا تُوفر مصدرًا رخيصًا للعمالة المنضبطة والمتعلمة نسبيًّا، والتي قد تساهم في مزيد من تَرْخِية قيود أسواق العمالة الأوروبية وإضعاف منظومات الرفاه الخاصة بدُوله. علاوة على أن قادة روسيا وأوكرانيا صاروا يجسدون عائقًا أمام إعادة الهيكلة النيوليبرالية المأمولة. افترَض الاتفاق المُبكِّر عقب تفكك الاتحاد السوفييتي بين نخب أوروبا الشرقية والمركز الرأسمالي الغربي، أن بمقدور تلك النخب الإشراف على اندماج بلدانها في السوق الرأسمالي العالمي، لكن يبدو أن الدوائر الغربية الحاكمة حاليًّا مَيَّالة لتمكين نخبها الاحتكارية من استغلال تلك البلدان بشكل مباشر، والتخلص من الوسطاء المحليين غير الأكفاء والفاسدين.
من جانبها، عجزت الولايات المتحدة عن مساعدة غيرها من البلدان في الخروج من أزمة 2008 العالمية، وبدلًا من ذلك، صارت أكثر عدائية، معززة من قدراتها العسكرية ومن نشاطات الناتو. وقد ظل هذا النمط من «الكينزية العسكرية» (مثلما شهدناه في عصر كل من ترومان وريجان)، النمط الوحيد المقبول لتدخل الدولة في نظر أرثوذكسية السوق الحر.
بحلول خريف 2013، كانت الحكومة الأوكرانية مُفلسة عمليًّا، ولجأ الرئيس فيكتور يانوكوفيتش إلى صندوق النقد الدولي (IMF)، الذي ألزمه بتوقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي كشرط لمنحه أي قرض. وهو ما وافق عليه بيروقراطيو كييف، ومن هنا أخذت الأحداث منعطفًا كارثيًّا.
عنى اتفاق الشراكة استئصال الصناعة الأوكرانية وإدماج أوكرانيا في الهياكل السياسية والعسكرية الغربية. ونظرًا لأن العضوية الرسمية بالناتو تستلزم تعديل الدستور الأوكراني، ونظرًا لأن قادة الناتو الأوروبيين لم يحبذوا ذلك، فقد جرى الاتفاق على عضوية أمر واقع.
بدا أن كلًّا من الأوليجاركيين والعمال الأوكران المعتمدين على الصناعة كانوا الخاسر الأكبر من الاتفاق، خاصة فيما يتعلق بالأسواق وفرص الشراكة التقنية مع نظرائهم في دول الاتحاد السوفييتي السابق.
هكذا، تحت ضغط الصناعيين الأوكران في الشرق، تراجع يانوكوفيتش عن توقيع الاتفاق في اللحظة الأخيرة، ما مَهد الطريق أمام الاحتجاجات المناهضة له بحجة رفضه «سلوك الطريق الأوروبي». واحتل 20000 متظاهر ميدان الاستقلال [المشهور اختصارًا بـ «ميدان» – م] بكييف لأجل غير مسمى.
لم تكن هذه الاحتجاجات الأولى من نوعها التي تحدث في أوكرانيا، لكن ما مَيزها عن غيرها، هو تداخلها مع أزمة اقتصادية ومالية وسياسية بالغة الحدة. لكن بينما تمتع الليبراليون الموالون للغرب بهيمنة أيديولوجية على المعارضة الروسية. هيمنت على ميدان أيديولوجيا قومية متطرفة ضمت مجموعات من اليمين المتطرف على صلة بحزب «سفوبودا» (Svoboda) وتراث الحركات الفاشية والقومية في الثلاثينيات والأربعينيات. وقد كانت هذه التشكيلات مؤهلة للازدهار إلى حد ما بفعل توجهات البرجوازية الأوكرانية: ليبراليتها الاقتصادية، وانحيازها الجيوسياسي للغرب، وخلفيتها القومية. وبخلاف احتكار أحزاب الدوما مهنة المعارضة الجادة وإحباطها للاحتجاجات الجماهيرية الروسية، كانت المظاهرات الحاشدة ممكنة في أوكرانيا، لكنها اقترنت بهيمنة الوسط واليمين المدعومين من جماعات مصالح معينة على الطيف السياسي.
وفي ظل الاستقطاب اختار يانوكوفيتش تشجيع التشكيلات الفاشية وشبه الفاشية بوصفها بديلًا انتخابيًّا للمعارضة القومية اليمينية. ومن ثم، بلغ اليمين المتطرف الأوكراني مرتبة الجناح الراديكالي للتيار السائد، وليس مُجرد ظاهرة هامشية. ومن هنا، تعرض النشطاء اليساريون للضرب وطُرِدوا من الميدان.
انتشرت الراديكالية اليمينية بالأساس في غرب أوكرانيا، حيث أدى تفكيك الصناعة إلى تهميش واسع النطاق للسكان، خاصة الشباب. الاختلاف بين غرب أوكرانيا وشرقها ليس ثقافيًّا فحسب، بل له جذوره السوسيو-اقتصادية الأعمق.
كانت أوكرانيا السوفييتية جزءًا من بنية الاقتصاد السوفييتي الأكبر، وقد توحدت الرُقع التي تُشكل أوكرانيا الحالية بغرض الإسراع من عملية التخطيط المركزي عبر ربط المناطق الصناعية في الشرق بكل من الغرب الزراعي وموانئ الجنوب. لكن بتفكك الاتحاد السوفييتي. فَقدت الوحدة مبرر وجودها، لأنه بينما واصل السوق الروسي دفع عجلة الصناعة الأوكرانية في الشرق، اعتمد غرب أوكرانيا على تحويلات الأوكرانيين العاملين بدول الاتحاد الأوروبي. والآن بَروزت الانقسامات الثقافية ذلك الشرخ الاقتصادي. وحاول القوميون على نحو عبثي فرض الأوكرانية كلغة رسمية وحيدة على شعب اعتاد استعمال الروسية أكثر من الأوكرانية وثلث سكانه من أصول روسية، وثلث آخر أوكران ناطقون بالروسية حيث انتشرت اللغة الروسية بفضل موقعها كلغة أولى للتجارة والأعمال الإنتاجية.
وفي وقت ضَمر فيه الإنتاج الصناعي المحدود في غرب أوكرانيا، واصلت الصناعة عملها شرقًا، والتي دارت الصراعات الأخيرة حول السيطرة عليها. أمَّا كييف، المركز الإداري والمالي للبلاد، فقد اعتمدت بشكل طفيلي على الثروة القادمة من الشرق، والتي ساعدتها في إبقاء الأخير تحت سيطرتها ضمن أصعب الظروف.
في حين استمتع الأوليجاركيون المسيطرون على شرق أوكرانيا بالحياة المرفهة في قصور العاصمة، كانت الطبقة العاملة الشرقية ذات الأغلبية الناطقة بالروسية مُحبَطة وغاضبة. إذ ظلت تُنتِج 80% من إجمالي الناتج المحلي الأوكراني مقابل الفُتات. سيطر يانوكوفيتش – الشرقي – وحزبه: «الأقاليم» (Party of Regions) على شبكات الزبونية الممتدة عبر الشرق. بينما حافظت بعض التنازلات الممنوحة لقادة الاتحادات العُمالية والوعود الممنوحة للعمال خلال الأزمات على الأمل بأن استمرار يانوكوفيتش سيحول دون استسلام الشرق الصناعي كُليًّا [أمام الزحف النيوليبرالي. م] قائمًا. ومع ذلك، بمجرد أن اصطف اليمين المتطرف بمحاذاة النخب النيوليبرالية في كييف أثناء احتجاجات ميدان في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، خرجت الأمور عن السيطرة.
شَغَل قلة من مُحتجي ميدان أنفسهم بالأيديولوجيا في خضم الصراع بين العشائر الأوليجاركية على تولي السلطة. سبق أن هَمَّشت عشيرة دونيتسك الموالية ليانوكوفيتش نُخب العاصمة، فكان لا بد من استبدال الأولى. ومن سخرية القدر، أن الخراب الاقتصادي الذي خلقته النيوليبرالية (خَلقت معدلات البطالة المرتفعة جيلًا كاملًا من الشباب العاطل أو الموظف في مهن غير مستقرة) هو ما جعل من انقلاب فبراير 2014 ممكنًا. بعد أن أصبح هؤلاء الشباب هدفًا سهلًا لليمين المتطرف، الذي منح حياتهم بعض المعنى عبر تنظيمهم في عصابات النازية الجديدة مقابل أجر.
بالنسبة لكثيرين ضمن 10000 و15000 عاطل عن العمل أُحضروا إلى كييف ليعتصموا بالميدان، كانت تلك أول وظيفة يحصلون عليها في حياتهم. ولم يبرح بعضهم مكانه حتى الآن نظرًا لافتقارهم إلى مكان آخر يذهبون إليه. وقد حمل بعضهم السلاح عند نقطة معينة، بطريقة عفوية، كما يبدو. وعندما بدأت المناوشات المسلحة في منتصف فبراير 2014، فَرَّ يانوكوفيتش المرتبك إثر خسارته الدعم الغربي إلى روسيا وانهارت إدارته، متخليًا عن مؤيديه وعن فرق الشرطة التي حمته رغم امتلاكه الأموال والمصادر الكافية لمواصلة الصراع. وعلى أية حال، دَعَم الغرب الانقلاب اللاحق دون خطة واضحة.
حكومة جديدة لإنقاذ النظام القديم
سعت الحكومة الجديدة على الفور لاسترضاء اليمين المتطرف عبر إلغاء القانون الذي يمنح اللغة الروسية وغيرها من لغات الأقليات صفةً رسمية. والمفارقة، أن إنتلجنسيا كييف الناطقة بالروسية قد أصابتها حُمى القومية، فلوَّحت بالكلمات القليلة التي تعلمتها بشق الأنفس من اللغة «القومية» الأوكرانية، لكنها ظلت في عزلة عن مناطق الغرب. من الناحية السياسية، كان تحالف الأحزاب الثلاثة: «حزب جميع الأوكرانيين» «باتكيفشينا – وطن الأجداد» (Batkivshchina)، وحزب «التحالف الديمقراطي الأوكراني لأجل الإصلاح» (UDAR)، وحزب «سفوبودا» (Svoboda)، تحالفًا بين: الراديكاليين النيوليبراليين، والقوميين، والفاشيين، وهي تركيبة لم تكن حتى ذلك الوقت مألوفة في أوروبا، لكنها قد تُمهد الطريق أمام تراكيب مشابهة في بلدان أوروبية أخرى.
كانت السلطات على وعي تام بأن إلغاء الحقوق اللغوية سوف يُشعل شرارة السخط في جنوب شرق أوكرانيا، لكنها لم تكترث نظرًا لأن هذه المنطقة مَثلت قاعدة حزب الأقاليم المُعارض. ولأنها أرادت إلباس التناقضات الاجتماعية والسياسية حلة قومية، سعى النظام الجديد إلى تصوير روسيا، والتي ستُدين هذه السياسة لا محالة، بوصفها السبب الأول والوحيد لمشكلات أوكرانيا الماضية والحاضرة والمستقبلية.
إن الانهيار الفعلي لحزب الأقاليم قد أطلق العنان لإمكانات التمرد الاجتماعي المكبوتة، والمترسبة على مدى عقود. انفجر جنوب شرق أوكرانيا، وبينما عَارضت كييف بين كل ما هو «أوكراني» و«روسي»، وبينما كانت جماهير الجنوب الشرقي مرتبطة ثقافيًّا بكلا البلدين، فقد تطلعت تلك الجماهير إلى روسيا للمساعدة، إلا أن النخب الروسية لم تكن غير مستعدة لأداء ذلك الدور فحسب، وإنما رفضته عن وعي. ورغم أنها توجست من النفوذ الغربي المتزايد في كييف، لكنها توجست بالمثل من ثورة جماهير العمال الغاضبين في دونيتسك ولوهانسك وخاركييف. لكن لسوء حظها [أي النخب الروسية – م]، تبنَّى الروس بحماس «الربيع الروسي» في أوكرانيا وقد حكمت ذكرى احتجاجات 2011 – 2012 السياسية على الكرملين ألا يتجاهل ذلك.
أصبحت «مسألة القرم»، هذه المنطقة الروسية في الأصل والتي انتقلت للجمهورية الأوكرانية عام 1954 بفعل التوسع الاقتصادي والإداري، شديدة الحساسية. ولم يكن أحد ليتصور بأن تلك الحدود الإدارية قد تتحول إلى حدود قومية؛ لأنه على الرغم من إبداء السلطات الأوكرانية استياءها بين الحين والآخر، فقد ظلت متكيفة مع الوضعية المستقلة لشبه الجزيرة داخل أوكرانيا، لكن ما إن استولى القوميون على السلطة حتى نشأت الفوضى السياسية والإدارية. وبينما لم يكن أمام القرميين سوى التطلع إلى موسكو لحمايتهم، أَلزمت القوات الروسية نفسها بما دعته الصحافة «تدخلًا محدودًا». فلم تُهاجِم الوحدات الأوكرانية، وإنما حاصرتها، محاولة إقناعها بتسليم أسلحتها، وعندما رفضت الأخيرة ذلك بحجة أن الأسلحة هي عُهدة مملوكة للدولة، تفهَّم الروس الأمر.
بعد أن فقدت كييف سيطرتها على شبه الجزيرة، صوَّت 90% من القرميين لصالح إعادة الاندماج مع روسيا في استفتاء عام. وقد عززت هذه النتيجة من الآمال العريضة في دونيتسك، وخاركييف، وأوديسا. لكنَّ القرم بالذات مثَّلت بالنسبة لروسيا استثناءً ذا وضعية خاصة: بصفتها موقع الأسطول الروسي على البحر الأسود وقد سمحت الوضعية القانونية المميزة لشبه الجزيرة بانتقال مُنظَم للسلطة إلى روسيا.