صراع الرفاق: الجهادية العالمية في وجه التنظيمات المحلية
بعد غيابٍ ليس بالطويل، على خلاف عادته مؤخرًا، ظهر أمير تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، في كلمة مرئية له، أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ليوجه عددًا من الرسائل الصريحة والضمنية، محذرًا من استدراج «التيار الجهادي» وتحديدًا حركة طالبان الأفغانية، الحليف التاريخي للقاعدة، إلى فخ الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة (كما يصوره).
وخلال كلمته التي بلغت مدتها نحو 39 دقيقة، حاول «أمير القاعدة» تسليط الضوء على ميثاق المنظمة الدولية، وانخراطها في أفغانستان وغيرها من الدول، معتبرًا طلب عضوية الأمم المتحدة بـ «التحاكم إلى الطاغوت والشرائع الجاهلية المناقضة للإسلام»، على حد قوله.
كانت كلمة الظواهري جزءًا من حملة دعائية قام بها تنظيم القاعدة، منذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي انتهى بحلول نهاية أغسطس/ آب الماضي، ومع أن تلك الحملة -والتي تضمنت بث إصدارات مرئية ونشر بيانات وكتيبات ترويجية للتنظيم- ركزت في مجملهاـ على الإشادة بحركة طالبان ووصف سيطرتها على البلاد بأنه «نصر تاريخي كتبه الله عز وجل على أيدي الأمة الأفغانية المجاهدة الصابرة»، إلا أن «أمير القاعدة» خرج عن خط التنظيم العام، بهجومه «شبه الصريح» على الحركة.
وسعى أيمن الظواهري، في ثنايا حديثه، لاستقطاب مكونات طالبان الأكثر تشددًا وحثها على رفض توجه الحركة للانضمام إلى المنظمة الأممية، بعد طلبها الحصول على مقعد أفغانستان بالمنظمة، وكذلك تحريض «مجلس العلماء» الذي يشغل حيثية هامة في إطار الحركة الأفغانية على قيادة الحركة، مذكرًا إياه بالاختيارات الفقهية لشيوخ المذهب الحنفي -مذهب طالبان- وينتشر على نطاق واسع في أفغانستان، والتي تؤيد فكرة «جهاد الدفع التضامني» الذي تتبناه القاعدة.
من المغازلة إلى النقد
مثّل نقد الظواهري لحلفائه القدامى في حركة طالبان تطورًا هامًا في العلاقة بين الطرفين، لا سيما وأن التنظيم التزم الصمت طوال السنوات الماضية، في ما يتعلق بنهج الحركة التفاوضي وعلاقاتها بالقوى الإقليمية والدولية، مدفوعًا بدافع براجماتي يتعلق بحاجته إلى الإبقاء على تحالفه معها، في خضم الضعف والتآكل الذي يضرب بنيته التنظيمية وشبكاته العالمية.
وآثر التنظيم في السابق مغازلة طالبان وغض الطرف عن أحاديث وتصريحات قادتها الذين أكدوا أن «العلاقة مع القاعدة أصبحت من الماضي، ولم يعد للتنظيم وجود في أفغانستان»، كما لم يشر إلى حقيقة وضعه الحالي أو تواجده في مناطق الحدود الأفغانية- الباكستانية، مستجيبًا لطلب الحركة الذي وجهته للمقاتلين الأجانب وتنظيماتهم بعدم الإعلان عن وجودهم في البلاد بأي صورة من الصور.
على أن هجوم «الظواهري» على حلفائه القدامى سُبق بمتغيرين لافتين، أولهما توسط سراج الدين حقاني، وزير الداخلية في الحكومة الأفغانية المؤقتة وأحد أبرز قادة شبكة حقاني الموصوفة بأنها المكون الأكثر تشددًا داخل طالبان الأفغانية، لإبرام هدنة بين حكومة إسلام آباد وحركة تحريك طالبان (طالبان باكستان)، بما يعني أن «حقاني» ذاتها أصبحت أكثر انفتاحًا على النهج التفاوضي من وقف القتال، وهو ما سينعكس بالطبع على وجود القاعدة في منطقة الحدود القبلية بين أفغانستان وباكستان وسيحرمها من ملاذها الآمن الذي اختبأت به طوال العقدين الماضيين، وثانيهما قيام بعض المنظرين والجهاديين المحسوبين على الحركة الجهادية المعولمة -في مقدمتهم الأردني أبو محمد المقدسي- بالهجوم على الحركة الأفغانية، قائلين إن ممارستها تتنافى مع «صحيح التوحيد» و«الولاء والبراء» الذي يُعد أحد الأصول المنهجية للجهاديين، وهو ما يعني نقدًا ضمنيًا لتحالف القاعدة معها.
ويبدو أن تلك التطورات وغيرها حفزت «أمير القاعدة» للهجوم على الحركة الأفغانية، رغم أنه اختار عباراته بدقة وظهر وكأنما يمارس نوعًا من «خطاب الذات الجهادية»، لاستقطاب المكونات الأكثر تشددًا في طالبان، لا سيما «شبكة حقاني» و«مجلس العلماء الطالباني»، والضغط على تيار القيادة الحالي المنتمي لما يُعرف بـ «مجلس شورى كويته» ، الذي يتميز بنهج براجماتي يُعلي مصالح طالبان الذاتية، ويرفض دعم الحركة الجهادية العابرة للحدود الوطنية.
أعمق من خلافات الحلفاء السابقين
إلى ذلك، يكشف التدقيق في سياق الرسائل الدعائية الأخيرة لـ «القاعدة» أن قيادة التنظيم أصبحت منغمسة جزئيًا في الصراع بين الجهادية المعولمة التي يعد القاعدة أحد رأسيها، بجانب غريمه التقليدي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومن جهة أخرى الجهادية المحلية، وهو الصراع الذي طفا على السطح، مؤخرًا، في ظل الانتكاسات التي يتعرض لها التنظيم الأول.
فبينما راهنت قيادة التنظيم على ساحتي سوريا وأفغانستان بشكل رئيس لإعادة ترميم شبكات التنظيم الجهادية المتضررة، ومواصلة العمل على إستراتيجيته القديمة لاستهداف الولايات المتحدة والدول الغربية، ضمن «حرب القاعدة العالمية»، أثبتت الأحداث التي شهدتها الساحتان أن رهان أيمن الظواهري ورفاقه كان خاسرًا تمامًا، وأن المجموعات التي تحالف تنظيمه معها كحركة طالبان الأفغانية، وهيئة تحرير الشام السورية، أصبحت تُقدم مصالحها الذاتية على ارتباطاتها السابقة بالتنظيم.
ففي غمرة احتفال واحتفاء «القاعدة» بسيطرة حركة طالبان على أفغانستان، بدأت الحالة الصراعية الدائرة بين الجهادية المعولمة ونظيرتها المحلية، تُلقي بظلالها الثقيلة على التنظيم، إذ أعلن منظرون جهاديون كانوا محسوبين على القاعدة، منهم أبو محمود الفلسطيني، أن على القاعدة، التي وصف الفلسطيني حالها بانسداد الأفق والعجز، أن تُعيد حساباتها وتتخلى عن الأيديولوجيا الصارمة التي ميزتها في السابق، وأن تقبل بنهج أكثر واقعية (براجماتية) لكي تصل إلى أهدافها، بدلًا من مواصلة القتال الذي لا تلوح له نهاية قريبة.
وأتت تلك الدعوات، للمفارقة، وسط حالة من الشقاق الجهادي خارج أفغانستان، بين هيئة تحرير الشام (ذات النهج الجهادي القُطري/المحلي، والتي تشكلت على أنقاض جبهة النصرة لأهل الشام المبايعة للقاعدة سابقًا)، وبين فرع القاعدة السوري «تنظيم حراس الدين»، وذلك بعد أكثر من عام، على حملة الهيئة المتواصلة ضد «حراس الدين»، والتي تم خلالها طرده من معقله في شمال سوريا، قرية عرب سعيد (ريف إدلب الغربي)، واعتقال مجموعة من أبرز كوادره ونشطائه، بدعوى أنهم يُفسدون الساحة السورية ولا يلتزمون بتوجيهات الهيئة، بينما اختفى أميره أبو همام الشامي وشرعيه العام سامي العريدي، وغيره من قادة التنظيم خوفًا من الاعتقال أو القتال، وفق تعبير الأخير في بيان صادر عنه مؤخرًا.
وبدورها، قامت هيئة تحرير الشام باتباع مقاربة أمنية استئصالية في التعامل مع رفاق السلاح القدامى من «جهاديي القاعدة»، فرصدت أبرز القيادات المسؤولة عن تنظيم حراس الدين بالتنسيق مع جهاز الاستخبارات التركية، وعملت على تجميد ملف العمل الخارجي لـ «قاعدة سوريا» والمعروف تنظيميًا بملف «خلف خطوط العدو»، والوصول إلى المسؤولين عنه، وهو ما أفضى إلى كشف هوية عبد الحميد المطر (معروف بأبي محمد الرقاوي وكذلك أبي عبد الله العراقي)، مسؤول العمليات الخارجية بـ «حراس الدين»، ومن ثم اغتياله في غارة جوية أمريكية، أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
كما رفضت الهيئة ومجلسها الشرعي بصورة رسمية، في سبتمبر/ أيلول الماضي، مبادرة أبو همام الشامي، أمير حراس الدين، لحل الخلافات بين الطرفين، واصفة «قاعدة سوريا» بالتنظيم المغالي في التكفير، ومتهمةً إياه بالتعاون مع تنظيم الدولة الإسلامية «داعش».
البراجماتية تتغلب على الأيديولوجيا
ويتبين من صياغة البيانات الصادرة عن المجلس الشرعي لـ «تحرير الشام» أن خلافات الهيئة مع تنظيم القاعدة، تجاوزت الخلافات حول أولوية وإستراتيجيات العمل الجهادي، وصارت خلافات أيديولوجية ومنهجية مرتبطة بالنظر إلى مسائل عدة في مقدمتها، مبدأ «الولاء والبراء»، أحد أهم المرتكزات في المنظومة الأيديولوجية للحركة الجهادية، والذي دعا منظرو الهيئة، ومنهم نائل غازي الفلسطيني، لإعادة النظر فيه وفقًا لـ «فقه الواقع»، الذي يُوجب على الحركات الجهادية المحلية إقامة علاقات مع الدول والحكومات الأجنبية (والتي يعتبرها التنظيم حكومات طاغوتية كافرة).
وبناءً على هذه الرؤية والتحورات في الحالة الجهادية المحلية، أبرزت هيئة تحرير الشام نفسها كـ «خصم أيديولوجي وحركي» للقاعدة، وهو نفس ما أكد عليه تيار «مجلس شورى كويته» بحركة طالبان الأفغانية -وعلى رأسها الملا هبة الله آخوند زاده، ورئيس الوزراء الأفغاني الحالي محمد حسن آخوند- الذي يعتبر القاعدة و«الأفغان العرب» خصومًا مذهبيين للحركة الأفغانية ذات النهج الديوبنديّ (يدين بالمذهب الماتريدي عقيدةً، والحنفي فقهًا)، وفق تعبير أبو الوليد المصري، مصطفى حامد، في كتابه: «صليب فوق سماء قندهار».
ومن الواضح أن سعي «حلفاء القاعدة القدامى» لنفي ارتباطهم الحركي والأيديولوجي، على حد سواء، بتنظيم القاعدة منشؤه التشوه الذي اعترى «علامة التنظيم الجهادية»، والخسائر العالية التي تكبدتها المجموعات المرتبطة به جراء حملة الملاحقة الدولية لـ«قاعدة خراسان» والمجموعات المرتبطة به، والتي أدت لإضعافه إلى حد كبير.
ولعل حالة الضعف التي اعترت تنظيم القاعدة خلال سنوات «الحرب على الإرهاب» أثرت على التنظيمات القُطرية/المحلية التي ارتبطت به، ودفعت حلفاءه السابقين إلى إعادة التفكير في الارتباط به، لا سيما أن غالبية الجماعات والتنظيمات المرتبطة بـ«الجهادية العالمية» فشلت في تحقيق أهدافها من «التمرد المسلح» الذي تخوضه، في مقابل نجاح المجموعات المحلية (كطالبان وتحرير الشام)، في تحقيق أهدافها بدرجات متفاوتة، وتمكنها من تأسيس «إمارات جهادية مستقلة»، بالاستعانة ببعض الحكومات والفواعل الدوليين أحيانًا.
وفي حين تحاول قيادة القاعدة وفي مقدمتها أميره الحالي، أيمن الظواهري، إعادة إنشاء التحالف مع المجموعات الجهادية المحلية وجذبها، من جديد، إلى خندق تأييد «الجهادية العابرة للحدود الوطنية»، عبر مقاربة «التغريب والترهيب المزدوجة»، تمضي الجماعات والتنظيمات القُطرية/ المحلية، في طريقها الموازي لـ«الجهاد المعولم»، مثبتةً أن تحولات الحالة الجهادية الجديدة أمست مرتبطة بـ«البراجماتية لا الأيديولوجية»، وأن زخم القاعدة الكبير قد خفت، في سنوات الانزواء الأخيرة، خلف عوامل الفشل والانكسار التي ألمت بالتنظيم الذي قاد «دفة الجهادية» سابقًا.