10 سنوات على الأزمة المالية العالمية: الدروس غير المستفادة
عشر سنوات مضت على وقوع الأزمة المالية العالمية، لم تكن الظروف الاقتصادية لكثير من دول العالم سهلة خلالها، فبلدان كثيرة عانت من التقشف، وأخرى من الانكماش، وآخرون واجهوا مزيدًا من نقص السيولة، وكثير من البلدان عانت من التضخم وارتفاع أسعار الفائدة فضلاً عن التحديات العديدة التي واجهها القطاع المصرفي حول العالم.
وفي الذكرى العاشرة للأزمة، تتجدد المخاوف من وقوع أزمة مثيلة في القريب العاجل -ربما بحلول العام 2020- فالاقتصادات الرئيسية حول العالم ما زالت تفتقر إلى الأدوات المالية والنقدية اللازمة لمكافحة التباطؤ الراهن بنموها الاقتصادي. ويخشى الاقتصاديون من حدوث ركود مستعصٍ على الحل أكثر من الركود الذي عانى منه العالم إثر وقوع الأزمة المالية العالمية في العام 2008.
ماهية الأزمة المالية العالمية: الأسباب والنتائج
في سبتمبر/أيلول من العام 2008، شهد العالم أكبر اضطرابات مالية واقتصادية منذ الكساد الكبير الذي وقع في العام 1929. ووقعت تلك الأزمة رغم المزيد من الجهود المبذولة من قبل الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية لمنعها.
وكانت بوادر الأزمة قد ظهرت في عام 2006، وذلك عندما بدأت أسعار المساكن في الانخفاض، وظن أصحاب العقارات حينذاك أن سوق الإسكان سيعود إلى مستوى أكثر استدامة في القريب العاجل، وظل المستثمرون ينفقون المزيد ويستدينون من أجل انتهاز الفرص واقتناء مزيد من المساكن بأسعار متدنية للغاية.
ولم يدرك السماسرة والبائعون وقتها أن هناك الكثير من أصحاب المنازل قد حصلوا على المزيد من الائتمان المشكوك فيه من أجل شراء المساكن، وسمحت البنوك للمواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية بالحصول على قروض مقابل رهن 100% أو أكثر من قيمة منازلهم الجديدة، وتفاقمت الأزمة بالهبوط الحاد في أسعار المساكن والذي بلغ 31.8٪ خلال العام 2018.
وكان قانون غرام-رودمان يسمح للبنوك بالمشاركة في تجارة المشتقات المربحة -والمقصود بها أوراق الرهن العقاري- التي باعوها للمستثمرين، هذه الأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية في حاجة إلى قروض المنازل كضمان، خلقت المشتقات طلبًا لا يشبع للمزيد والمزيد من الرهون العقارية.
ومن فقاعة السوق العقاري الأمريكي، انطلقت الأزمة العالمية، وتطورت إلى أزمة مصرفية دولية شاملة مع انهيار بنك الاستثمار «ليمان براذرز» في 15 سبتمبر/أيلول 2008. وساعد الإفراط في المخاطرة من جانب البنوك مثل «ليمان براذرز» على تضخيم الأثر المالي على الصعيد العالمي. ومن ثَمَّ لم تكن أزمة الرهن العقاري محصورة في قطاع الإسكان الأمريكي فحسب، بل طالت صناديق التحوط والمؤسسات المالية الأخرى التي تتعامل بالأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية في جميع أنحاء العالم.
وهنا زاد قلق البنوك عندما أدركت أنها ستضطر إلى استيعاب الخسائر، وتوقفوا عن إقراض بعضهم البعض، ونتيجة لذلك ارتفعت تكاليف الاقتراض فيما بين البنوك. وتدهور الوضع أكثر فأكثر، مما اضطر المؤسسات المالية الأمريكية والعالمية لاستخدام عمليات إنقاذ ضخمة بمليارات الدولارات، واتباع العديد من السياسات النقدية والمالية اللازمة لمنع حدوث انهيار محتمل في النظام المالي العالمي.
ومع ذلك وقع الاقتصاد العالمي في شباك الانكماش، ثم سقطت أوروبا في أزمة ديون حادة؛ وهي أزمة في النظام المصرفي للدول الأوروبية المستخدمة لليورو. ولتعزيز التعافي من أزمة عام 2008، طبعت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم مبالغ طائلة من النقود. واتجهت معظم تلك الأموال –البالغة نحو 290 تريليون دولار- إلى الأسواق المالية، التي تشمل الأسهم والسندات والأصول المالية الأخرى.
ومع إبقاء البنوك المركزية على أسعار الفائدة المنخفضة، اتجه المستثمرون إلى وضع الأموال في استثمارات ذات نوعية رديئة، وكان ذلك هو الخطر الأكبر.
هل تعافى الاقتصاد العالمي؟
بعد مرور عقد من الزمان على سقوط بنك «ليمان براذرز» الأمريكي، والأزمة المالية العالمية اللاحقة لهذا الانهيار، بدأت التوقعات تشير إلى إمكانية وقوع أزمة عالمية أخرى. فهل نحن على وشك، أم أن تلك التوقعات مبالغ فيها؟ وإن كان هناك بوادر لأزمة ثانية؛ فما هي؟ ومن أي منطقة يُمكن أن تنطلق الأزمة؟
لا تزال العديد من التأثيرات المباشرة لأزمة عام 2008 تمثل بواعث قلق نشطة حتى الآن:
1. مستويات الديون في مختلف الاقتصادات المتقدمة ما زالت مرتفعة، بل أصبحت أكبر بكثير من مستواها قبل الأزمة؛ فقد بلغ إجمالي الديون في الاقتصادات المتقدمة 106% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016 مقارنة بـ 72% في عام 2007.
2. رغم أن البطالة في أوروبا بدأت في الانخفاض، إلا أنها لا تزال مرتفعة بشكل لا يعقل في بعض بلدانها، فنجدها أكثر من 15% في إسبانيا و20% في اليونان.
3. بينما قام القطاع المصرفي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشطب القروض المتعثرة واستعادة بعض القوة مجددًا، لا تزال العديد من بنوك منطقة اليورو تحتفظ بقروضها غير المنتظمة قبل عام 2008 في دفاترها، حيث يُقدر البنك الدولي أن ما يزيد عن 4% من قروض منطقة اليورو لا تزال غير مستحقة، في حين تصل النسبة إلى 17% في إيطاليا.
وتوقع كل من جورج سوروسوبيل جيتس وغيرهما من النقاد أزمة مالية أخرى، وحذّر كل من بيتر ديتوس وهيرف هامون كبار المسئولين السابقين في بنك التسويات الدولية، في كتابهما الأخير «الثورة المطلوبة»، من قنابل موقوتة في النظام المالي العالمي في انتظار الانفجار، في ظل السياسات المتبعة من الدول المتقدمة الرئيسية.
وتبرر الأحداث الأخيرة مثل تلك المخاوف بعد تعرض العديد من عملات الأسواق الناشئة لمزيد من الضغوط، حيث تكافح الروبية الإندونيسية والروبية الهندية والراند الجنوب أفريقي منذ بداية هذا العام 2018. هذا وتراجع النمو الاقتصادي في البرازيل بشكل حاد في يونيو/حزيران 2018، وفشلت الأرجنتين في تحقيق الاستقرار لعملتها المحلية «البيزو» على الرغم من طلب مساعدات من صندوق النقد الدولي، بينما تكافح تركيا من أجل تثبيت الليرة.
فصانعو السياسات لم يفشلوا فقط في معالجة نقاط الضعف بالاقتصاد العالمي في أعقاب الأزمة المالية العالمية 2008، ولكن أيضًا تفاقمت مشكلات أخرى.
فقاعة الديون قد تشعل فتيل أزمة جديدة
استمرت تأثيرات الأزمة، حيث شهدت الاقتصادات الناشئة والنامية زيادة في ديونها الخارجية لتصل إلى أكثر من 40 تريليون دولار منذ الأزمة، وارتفع الدين المجمع لـ 26 من الأسواق الناشئة الكبيرة من 148% من إجمالي الناتج المحلي في نهاية عام 2008 إلى 211% في سبتمبر/أيلول 2017، وفقًا لمعهد التمويل الدولي.
وساهمت التدفقات النقدية المرتفعة إلى الأسواق الناشئة في زيادة ديون الشركات والأفراد، الأمر الذي أدى إلى تأجيج الفقاعات العقارية وأسعار الأصول المالية. ووفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي -الصادر في إبريل/نيسان 2018-بلغت الديون العالمية ذروتها عند 164 تريليون دولار أمريكي في عام 2016؛ أي ما يعادل 225% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مقارنة بـ 125% قبل الأزمة المالية العالمية.
ووفقًا لمعهد التمويل الدولي، ارتفع الدين العالمي إلى أكثر من 247 تريليون دولار أمريكي في أوائل عام 2018؛ أي ما يعادل 318% من الناتج المحلي الإجمالي. وتشكل مستويات الديون المرتفعة مخاطر سلبية خطيرة على الاقتصاد العالمي. ومع مواصلة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي اتباع سياسة رفع سعر الفائدة، سيدفع ذلك رؤوس الأموال إلى التدفق نحو الولايات المتحدة هروبًا من الأسواق الناشئة، التي أصبحت أكثر خطرًا على المستثمرين، مما يقوض عملات الأسواق الناشئة أكثر فأكثر.
وعندما يزداد التخلف عن سداد الديون مع أسعار الفائدة المرتفعة، بينما يظل نمو الدخل ضعيفًا، يصبح العالم أكثر عرضة للأزمة المالية. فمعظم الحكومات تعاني من ارتفاع حجم الديون بعد عمليات الإنقاذ المالية الهائلة، وتلا ذلك التخلي عن الجهود الرامية إلى الحفاظ على التعافي القوي.
ووفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي -الصادر في إبريل/نيسان 2018- بلغ متوسط الدين العام في الاقتصادات المتقدمة 105% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، مما حد من القدرة المالية للاستجابة للأزمات. وبلغت نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة والاقتصادات المتوسطة الدخل تقريبًا 50% في عام 2017، وهو مستوى لم يظهر سوى خلال أزمة الديون في الثمانينيات.
قروض الشركات في عصر الفائدة المنخفضة: قنابل موقوتة
خلال فترة طويلة من أسعار الفائدة المنخفضة، تمكنت العديد من الشركات حول العالم من الحصول على مزيد الديون الرخيصة، وتضاعف دين الشركات العالمية غير المالية، بما في ذلك السندات والقروض، ليصل إلى 66 تريليون دولار في منتصف عام 2017.
وبحسب معهد ماكينزي العالمي، فإن ربع الشركات في البلدان الناشئة معرض لخطر التخلف عن السداد، وتلك النسبة يمكن أن ترتفع إلى 40%، وذلك يشكل خطرًا محتملاً، خاصةً عندما يكون هذا الدين بالعملات الأجنبية.
وكانت الصين هي المحرك الأكبر لهذا النمو في الديون الرخيصة، فمنذ عام 2007 إلى عام 2017،أضافت الشركات الصينية ديونًا بقيمة 15 تريليون دولار بما يمثل 163% من الناتج المحلي الإجمالي، حتى أصبحت الصين الآن واحدة من أعلى نسب الديون للشركات في العالم.
وعلى الرغم من أن الاقتصادات المتقدمة تحاول استعادة التوازن مرة أخرى عن طريق الاتجاه إلى القطاعات الاستثمارية ذات الأصول المالية المنخفضة، مثل الصحة والتعليم والتكنولوجيا والإعلام، لكن يبدو أن نظمها الاقتصادية قائمة بالفعل على كميات كبيرة من الديون.
فرص النمو المُهدرة خلال العقد الماضي
أهدرت الحكومات في جميع أنحاء العالم الفرصة لتحسين القدرات الإنتاجية من خلال الاستثمار في البنية التحتية والسلع الاجتماعية عندما كانت أسعار الفائدة الحقيقية عند مستويات تاريخية منخفضة. ولا يزال معدل الاستثمار العالمي دون مستوى ما قبل الأزمة، والبالغ نحو 27%، مع انخفاض معدلات الاستثمار في المؤسسات الاقتصادية الإلكترونية أو ركودها منذ عام 2010.
واستمر الفشل في معالجة الأجور المتدنية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وسط ارتفاع أجور المديرين التنفيذيين، مما تسبب في تفاقم التفاوت المتزايد في الدخل. وفي الوقت ذاته، فإن التخفيضات الكبيرة في الإنفاق الحكومي والخدمات العامة، مع تخفيض معدلات الضرائب المرتفع، تسبب في تراجع الإيرادات على مستوى العالم مما كان له أكبر الأثر في ضعف الإنتاجية.
فبعد مرور عقد على الأزمة المالية العالمية، لا تزال البلدان النامية تشهد معدلات نمو واستثمار أقل، وأصبحت القطاعات المالية الحيوية في اقتصادات الأسواق الناشئة أكثر ارتباطًا وأعمق مع الأسواق المالية الدولية، وهو ما يشير أيضًا إلى ارتفاع الملكية الأجنبية للأسهم والسندات الحكومية، مع تدفقات كبيرة من رؤوس المال الساخنة، التي تتسبب في الكثير من الأزمات المالية في ظل قرارات الهروب من الأسواق الناشئة إلى الأسواق المتقدمة، وكذلك بالعكس، وفقًا لأسعار الفائدة السائدة.
أحد أهم الدروس المستفادة من الأزمة المالية العالمية؛ هو مدى صعوبة التعرف على الفقاعة وأسبابها أثناء تكونها وتضخمها، والمؤكد أنه إذا وقعت أزمة مالية جديدة فلن تكون لنفس الأسباب، فهناك مشكلات مالية خطيرة ومتراكمة، والسياسات التي تم اتخاذها بعد أزمة 2008 لم تكن كافية لحل تلك المشكلات.