أشباح «كازابلانكا»: حب ضائع ووداعات لا تنتهي
رؤية بروست هذه كثيرًا ما تتحقق في السينما، إذ نرى شخصيات نعرفها من أفلام أقدم في شخصيات أفلام أخرى. حالة ما، أو أنماط علاقات تتكرر كثيرًا بين أفلام وأخرى. عن مسرحية غير معروضة بعنوان «الجميع يأتي إلى ملهى ريك»، إنتاج عادي وفيلم غلب على صناعته طابع الارتجال، جاءت كلاسيكية «كازابلانكا Casablanca» والتي تحكي قصة الحب بين «ريك/همفري بوجارت»، و«إلسا/إنجريد برجمان» زمن الحرب العالمية الثانية.
قصة حب موسومة بالضياع في زمن مضطرب، تقول إلسا لريك في شرفة باريسية قبيل دخول النازي إليها: «العالم كله يتحطم ونحن نقع في الحب». سيتحول الفيلم مع الزمن إلى مرجعية يتم الاقتباس منها والإحالة إليها مرارًا وتكرارًا. سنرى ظلالاً من إلسا وريك في أبطال كثُر، وكلما أبصرنا شبح كازابلانكا من بعيد تنسمنا رائحة وداع قادم ودموع حب يضيع. هل هذه رؤية بروست لمحدوديتنا كبشر، أم مثلما يقول رولان بارت في «شذرات من خطاب العشق»: تتشابه الخيبات في الحب لأنها تأتي من الصدع نفسه؟ تقول أغنية الفيلم «متى مرت الأيام»:
هيروشيما حبيبي – Hiroshima, My Love
ياباني وفرنسية بلا أسماء يهيمان معًا كشبحين، يلجأ العاشقان بعد طول تجوال في ليل هيروشيما إلى ملهى يحمل اسم «كازابلانكا»، تحية عابرة. قصة الحب العابرة بين الفرنسية والياباني هي انبعاث جديد لقصة حبها القديم، قصة حب مستحيلة بين فتاة فرنسية وجندي ألماني زمن احتلال النازي لفرنسا، أحيانًا في غمرة هذيانها تخاطبه كما لو كان حبيبها القديم. لمذاق حبهما طعم الدم.
حب بلا غاية، حب مخنوق كالحب الذي جمع ريك وإلسا، حب منذور للنسيان، حب أبدي. يربح العالم ويخسر المحبون. الفرق هنا هو الفرق بين كلاسيكية ككازابلانكا التي صنعت زمن الحب، وعمل حداثي كـ«هيروشيما حبيبي» صنع بعدها بما يقرب العقدين، هو غلبة صوت الجماعة على صوت الفرد، عزف نشيد «المارسليز» في ملهى ريك في فيلم «كازابلانكا» كان لحظة مقاومة وانبعاث للأمل، بينما عزف المارسليز في «هيروشيما حبيبي» حين يتناهى إلى سمعها وهي حبيسة في قبو منزلها هي لحظة ملؤها الألم، لحظة تعني أن حبها المقتول عدو فرنسا كلها، وأن لحظة انتصارهم هي عين هزيمتها.
صوت المأساة الفردية هنا أعلى والبطلة أكثر ضياعًا وتيهًا من أبطال «كازابلانكا» حيث ريك يقول لإلسا، حين ينتصر صوت الجماعة على صوتهما الفردي في مشهد النهاية مضحيًا بحبهما: «لن تحتاجي كثيرًا من الوقت لملاحظة أن مشاكل ثلاثة أشخاص ليست شيئًا في هذا العالم المجنون».
اعزفها ثانية يا سام – Play It Again, Sam
عن مسرحية لـ«وودي آلن» تحمل نفس الاسم عرضت بنجاح كبير على مسارح «برودواي» عام 1969. هي محاكاة ساخرة لكازابلانكا، الفيلم ينتمي لروح آلن رغم أنه يكتفي فقط بالكتابة وأداء الشخصية الأساسية. الصلة مع «كازابلانكا» تبدأ مع العنوان، المشهد الافتتاحي والختامي للفيلم هو مشهد النهاية من فيلم «كازابلانكا».
يستغل آلن حالة «كازابلانكا» ويقدم من خلالها ما يقدمه دائمًا في سينماه؛ تأمل الذات. وضع نفسه في مقارنه مستمرة مع بوجارت، كان يفجر الضحك طيلة الفيلم. عبثية الحب، وفوضى العلاقات. إحدى الأساطير التي يفككها دائمًا في أفلامه؛ فكرة أن ما تعرضه السينما هو الواقع. يخبرنا آلن أن هذا هو ادعاء أو تظاهر، فحكاية فيلمه لا تحيل إلى الواقع بل تحيل إلى فيلم آخر.
تقول مارلين فيب في كتابها «أفلام مشاهدة بدقة» في تحليلها لأفلام آلن؛
لا لا لاند – La La Land
إعادة إحياء لفيلم الميوزيكال مع إحالات كثيرة لأفلام كلاسيكية. قصة حب بين «ميا/إيما ستون» التي تحلم أن تصير ممثلة، و«سيباستيان/ريان جوسلنج» موسيقي جاز يحلم أن يمتلك ناديًا للجاز ينقذ خلاله موسيقى الجاز التي يراها تحتضر.
كيف نعرف أن علاقة الحب بينهما لن تكتمل وأن الوداع بينهما قريب؟ أشباح «كازابلانكا »التي تحاصرهما منذ البداية، جزء من بوستر لإنجريد برجمان في فيلم «كازابلانكا» في غرفة نومها، في بداية علاقتهما يتجولان في إستوديوهات الإخوة وارنر، تشير له ميا إلى إحدى الشرفات، هذه هي الشرفة التي وقف بها بوجارت وإنجريد برجمان في فيلم «كازابلانكا».
قصة الحب بينهما من البداية محكومة بالتردد وبهواجسهما الخاصة. أبطال «شازيل» هنا أو في فيلمه الأول «ويبلاش» دائمًا ما تجدهم مأخوذين بحلم بعيد، يضحون في سبيله بكل شيء. يخسر العشاق حبهم ويدركون أحلامهم، مثلما ضحى ريك وإلسا بحبهما من أجل ما رأياه خلاصًا للعالم. هذه النظرة المرة التي يتبادلها سيباستيان وميا وقد حققا حلمهما في نهاية الفيلم أليس معناها أن هذا ثمن أحلامنا؟