استاد الأشباح
(1)
كانت الدقيقة الثانية من الوقت الضائع، النتيجة واحد صفر، هذا يعني عدم التأهل إلى كأس العالم. الجماهير التي كانت تملأ الاستاد عن آخره وقفت على أقدامها وأخذت تهتف بكل طاقتها «كااااس العالم»، اشتعل الإستاد بالهتاف، واشتعلت معه أقدام لاعبي المنتخب الأحمر. جاءت الكرة عرضية من ناحية اليسار بقدم الجناح، ليقتنصها المهاجم صاحب القميص 10 برأسه في المرمى. لحظتها صاحت الجماهير «هدف»، تعالت الصرخات والهتافات، وتلاحمت الأجساد بالأحضان والابتسامات. كان الإستاد مملوءا عن آخره.
(2)
قبلها بثلاث سنوات، كان المنافس مختلفا، لكن المباراة كانت أصعب. انتهت المباراة بتعادل سلبي. المدرجات كانت مزدحمة حتى فاضت، والجماهير لم تهدأ طوال المباراة تهتف باسم بلدها «مصر» مع ثلاث تصفيقات في هتاف أثير سينطبع في الذاكرة طويلا. في ركلات الجزاء، ساد المدرجات الصمت، أمسكت الجماهير قلوبها في ترقب، تقدم اللاعب رقم 22 ليضع الكرة بسلاسة في قلب الشباك، لتنتفض بعدها الجماهير مجنونة من الفرحة وهي تهتف «مصر». كان الاستاد مملوءا عن آخره.
استاد الذكريات
«استاد القاهرة الدولي» هو الواجهة الرياضية الرسمية لمصر، أو كان يُعتبر. أسسه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في عام 1960 احتفالا بذكرى الثورة في نفس العام؛ ليكون أحد أساسيات البنية التحتية للتوسع القاهري الجديد آنذاك «مدينة نصر». وفي الألفية الجديدة تم تجديد الملعب بمبلغ 150 مليون جنيه ليتسع لـ 100 ألف متفرج أو 120 ألفا بسعة كاملة بعد أن كانت سعته أربعة وسبعين ألفا فقط.
بعيدا عن الأرقام والإحصائيات، فإن هذا الاستاد لا يشكل الواجهة للمؤسسة الرسمية فقط، وإنما أيضا يشكل تكوينا من ذاكرة ومشاعر جيل الشباب المصري الحالي، حيث ارتبط في ذهنهم بأهم الأحداث الرياضية التي عايشوها وتفاعلوا معها، بداية بتتويج الزمالك بدوري أبطال أفريقيا في مطلع الألفية، ثم الأهلي في عام 2005، واحتفالات المئوية لكلا الناديين ضد أتليتيكو مدريد وبرشلونة على الترتيب، ثم تتويج المنتخب المصري ببطولة أمم أفريقيا عام 2006 واستضافة الملعب لبطولة كأس العالم للشباب 2009؛ وطبعا المباراتين اللتين لا ينساهما أحد أبدا، مباراة مصر والجزائر في تصفيات كأس العالم، ومباراة الأهلي والزمالك ستة واحد.
لكن في كل هذه المباريات لم يكن الملعب حاضرا بالفِرق والأهداف والأحداث فقط، وإنما كان الجمهور هو السمة الأبرز للملعب، فقد شهد الاستاد عددا كبيرا من الدخلات والأغاني والأهازيج التي تجلى فيها إبداع الجماهير، خاصة شباب الأولتراس، مثل دخلة جمهور الزمالك الرائعة في احتفالات المئوية، وكذلك دخلة جمهور الأهلي البديعة في نهائي دوري الأبطال أمام سوبر سبورت، والدخلة التي شكلت لوحة فنية رائعة في مباراة قمة الأهلي والزمالك في عام 2010، وغيرها من الدخلات والأغاني التي يزخر بها موقع يوتيوب، والتي دائما ما يكون فيها «الاستاد مملوءا عن آخره».
رياضة أم سياسة؟
في الحقيقة، لم يكن الاستاد محطة للرياضة فقط، وإنما كانت السياسة حاضرة فيه بقوة، تسير مع الرياضة خطوة بخطوة، بل تسبقها أحيانا وتتقدم عليها في محطات كثيرة، مثل يوم أن جلست السيدة سوزان مبارك جوار زوجها في المنصة الزجاجية العازلة للرصاص في المباراة النهائية لأمم أفريقيا 2006، جلست تحمل علما صغيرا تلوح به، وفور ما أحرز المنتخب البطولة مالت لتطبع قبلة على وجه فخامة الرئيس راعي الرياضة في مصر آنذاك. نجلا الرئيس كانا حاضرين بقوة أكبر من أبيهما، ففي المباراة المشهودة في تصفيات كأس العالم أمام الجزائر، وبعد هدف متعب، كانت الأحضان والقبلات تنهال عليهما من أعضاء اتحاد الكرة ونجوم الرياضة والفن المصاحبين لهما في مقصورة الاستاد الرئيسية. وبعدها بأشهر عندما عاد المنتخب حاملا كأس الأمم الأفريقية من أنجولا كان نجلا الرئيس حاضرين في الحفلة التي أقيمت في نفس الاستاد، حيث تردد الهتاف الشهير «زي ما قال الريس.. منتخب مصر كويس».
لكن الاستاد لم يكن ليعبر عن النظام فقط، بل كان ملاذا للجماهير لتعبر عن رأيها، خصوصا بعد الثورة. ففي مدرجات الاستاد كانت الجماهير الشابة، وتحديدا الأولتراس، ترفع شعارا، كمبدأ أساسي لهم «تمحي العبودية وتتمرد بيها ع الخضوع.. وطريق الحق واضح ومعاها مفيهاش رجوع». في حين كانت المؤسسة الرسمية تملك كل شيء، كانت الجماهير لا تملك إلا أجسادها وأصواتها ومدرجات الاستاد، فخرجت الأغاني والأهازيج تعبر عن آرائهم وأفكارهم؛ فتارة يتغنون عن الأحلام التي تداعب قلوبهم «غني الحرية دي أغلى غنوة في الوجود.. شمس الحرية اتولدت ولا يمكن تموت». وتارة يعلنون معاداتهم لقمع الشرطة فينشدون في عناد «بتدمر ليه متعة حياتنا.. مش هنمشي على مزاجك.. ارحمنا من طلة جنابك»؛ وعندما تحدث المأساة ولا يجدون تعاطفا أو مساندة من أحد، لا يكون أمامهم غير المدرجات ينشدون فيها لأرواح زملائهم «في جنة الخالدين».
ويبقى السؤال؟
في الآونة الأخيرة، بدأ البساط ينسحب من تحت استاد القاهرة ناحية استاد برج العرب، ذاك الاستاد الذي نبت في الصحراء في منطقة منعزلة مقارنة باستاد القاهرة الذي يقع في قلب مدينة نصر قرب جامعة الأزهر وشارع صلاح سالم وعلى بعد 30 كم تقريبا من وسط البلد، لكن على الرغم من حيوية موقعه وأهمية اسمه فإنه بات خارجا عن الأضواء والمباريات المهمة منذ قرابة سنتين، بعدما كانت مدرجاته تملؤها الجماهير الغفيرة، صارت اليوم فارغة كأنه استاد للأشباح؛ ويبقى التساؤل: متي يعود الاستاد «مملوءا عن آخره».