(1)

– من أين أنتم؟

– من تل الملح.

– مُهجَّرون؟

– لا، لا، من تل الملح.

مُهجّرون؟ لاجئون؟ من أصحاب أرض مفتوحة على مدى البصر والعين، من مُلًاك الشمس والتراب والريح، من أصحاب الملح أصبحنا مُهجّرين؟ لم يستمر بحديثه مع سائق سيارة الأجرة، الذي استدعاه زوج أخته لنقل «غصون» إلى المستشفى في بئر السبع، ولدت زوجته ثلاث مرات دون مشاكل، لا تحدث مشاكل للمرء في بيته.

يوم واعد بالمطر، شديد البرد، نظر ناصر إلى السماء، تغطيها غيوم ملونة بكل ألوان الرماد، وقد أحكمت إغلاقها فلا تتسلل منها زُرقة. حركة الغيوم بطيئة فهي لا تدرِك ما الذي يجري تحتها، أو تدرك ولا تريد اتخاذ موقف، لا بل أكثر من هذا ستُمطِر فوق المعسكر ولن تمطر فوقهم.

يا الله، كيف تُصلح من الغريزة؟ فالغريزة تُرحِّب بالمطر، ولكن هل هو بحاجة إلى المطر الآن؟ وهل من بقي من الأهالي في تل الملح، وهل ما بقي من تل الملح، في حاجة إلى المطر؟ على الغريزة الآن أن تصدّ المطر عن الخِرَب التي انتقلوا إلى العيش فيها خارج حدود المعسكر، ألواح صدئة تلمه وعائلته، ومثلها تفصله عن أهله وإخوته، وعن الصحراء وعن بيوتهم القديمة المحجوزة داخل المعسكر، وتفصلهم عن المدرسة وعن بئر الماء.

انتقلوا قبل شهر إلى رهط عند بيت أخته، فقد اقتربت ولادة «غصون»، وما كان من الممكن أن تلد في الشتاء بين هذه الحيطان الصدئة. وعد أباه أن يعود، أن يعودوا كلهم، فما زال الشيخ الكبير يُصر على البقاء. لكِ الله يا «غصون»! هي تئنّ في السيارة ولا يتوقف الماء الحار عن التدفق تحتها حتى وصل ثيابه.

وجد نفسه يخاطب السائق:

– سامحنا يا أخي، سنتعبك معنا.

نظر السائق إلى عينيه في المرآة، وأشار بعينين مترددتين إلى غصون الملقاة قربه:

– أم العيال بخير؟ دقيقتان ونكون داخل المستشفى.

انخفض صوت «غصون» وبقي منه لهاث محموم.

– غصون! غصون! سامعة؟

(2)

كان قلبه متوجسًا من الولادة هذه المرة، فما كفّ قلبه عن التوجس في السنة الأخيرة، متوجس مُتعَب باستمرار دون توقّف، دون راحة، حتى اعتاد الأمر وأصبح هو قلبه. اتفق مع أخته فاطمة وزوجها أن يأتوا لتلد «غصون» في بيتهم في رهط. وسكنوا في البيت المبني لابن شقيقته، لم يكن البيت جاهزًا للسكنى لكن فاطمة جهّزت غرفتين، لناصر و«غصون» غرفة وللأولاد غرفة.

فاطمة لم تكن أختًا شقيقة ولكنها الابنة الكبرى لأبيه، تأخرت بالزواج مقارنة بالفتيات في عمرها، وبهذا أصبحت لهم جميعًا أمًا ثانية، تتبادل الأدوار مع أمها وزوجة أبيها في البيت بطيبة وأريحية، فأخذت مكانًا خاصًا في حياتهم لم يكن بينهم من هو أكثر جدارة منها به، تزوجت من رجل طيب وانتقلوا للعيش في البلدة الجديدة (رهط)، صانها وحفظ لها منزلتها وعزّزها في نفوس من حولها.

انطلق السائق من السيارة بسرعة خبير يطلب مساعدة من مكتب الاستقبال في المستشفى، وما هي إلا دقائق حتى اجتمع فريق من الناس حولهم لم يعلم ناصر لهم عددًا. نقلوا «غصون» إلى سرير متحرك وأخذوا يركضون وهو يركض خلفهم بالكاد يهتدي إلى طريقه. رأى «غصون» تختفي وراء باب كبير، عندما اقترب من الباب أشارت له امرأة ترتدي لباسًا أبيض أن يقف عنده ولا يتقدم، فهم منها أن ينتظر ولا يدخل، ورمت في الهواء بضع كلمات بالعبرية خلطتها بمفردات عربية بلكنة عجيبة، فهم منها كلمتين: «عمليّة وهويّة». ناول المرأة بطاقته وبطاقة «غصون»، اختفت لبضع دقائق ثم عادت بهما إليه.

جلس ناصر على الأرض وأسند رأسه إلى الحائط وثبّت نظره على الباب الكبير الذي دخل وخرج منه عدد من الرجال والنساء دون أن يقترب منه أحد، انتبه لأول مرة أن البقعة الرطبة على بنطاله هي بقعة دم.

أحس بيد على كتفه، فرفع رأسه ليرى السائق بقربه.

– لن أتركك، سأنتظر معك هنا. الوضع صعب؟ لا تخف، هذه ليست أول مرة لي أنقل نساء حوامل من البلدة في حالات صعبة.

أخرج علبة سجائره وأشار لناصر أن يـأخذ منه واحدة.

– والنساء تقوم منها بالسلامة، هناك مقعد في الخارج، فلننتظر هناك.

فُتِح الباب الكبير، وخرجت امرأة ورجل يجران أمامهما مهدًا، أشارا إليه بالاقتراب. نظر إلى الطفل الملفوف بقماش أبيض، لونه وردي وعيونه مفتوحة فبادرته المرأة بلكنة مختلفة عن سابقتها.

– ولد، مليح.

– وأمه؟

رد الرجل هذه المرة، أيضًا بلكنة وأيضًا بكلمة.

– عملية.

استمرا بطريقهما جارّين المهد معهما، وسمع صوت السائق من خلفه.

– مبروك، مبروك الولد. أهو الأول؟

– لا، هو الولد الرابع، كلهم أولاد.

– ما شاء الله. ما اسمك؟

– ناصر.

– أبو من؟

– أبو يعقوب.

– والنعم بك. فلندخّن سيجارة في الخارج ونعود.

(3)

يا ترى ما الذي يحدث لـ «غصون»؟ أين هي الآن؟ نزفت بشدة إذن، بدأ يتسلل إلى قلبه الخوف والندم.

حاولت فاطمة إقناعه بأن يأخذها مبكرًا إلى المستشفى، ألمها كان شديدًا والولادة لم تتقدم.

جلس خارج الباب وباله مشغول، وجلس بقربه السائق وانهمك في حديث مع ناصر لم يسمع منه الأخير شيئًا، اكتفى بإشارات برأسه عرفانًا للرجل ببقائه معه، لا سبيل له للتواصل مع فاطمة أو زوجها. لكنّ حواسه كلها تنبّهت عندما سأله الرجل:

– أين ذهبتم بعد أن أخرجوكم من تل الملح؟

– لم نذهب، بقينا فيها.

– خارج المعسكر؟

– نعم، شمال المعسكر.

مد الرجل يديه وقدميه أمامه:

– لا يهم ما الذي يحدث، حرب… سلام… أرض العرب تذهب ولا تعود.

ما إن أنهى كلامه حتى ظهرت ممرضة من باب المستشفى تمدّ برأسها وتجول بعينيها في العتمة المضاءة بأضواء جانبية ضعيفة، تجعل منهم خيالات لا يمكن تمييزها من حيث تقف المرأة. وثب ناصر عن المقعد وأسرع الخطى باتجاهها، وخلفه السائق، لقيتهما بالسؤال:

– «غصون»؟

لم يكن ما نطقته هو اسم زوجته ولكن شيء شبيه به. هز رأسه، فأشارت لهما بالدخول ومن ثَمَّ إلى طبيب شاب يقف عند باب غرفة العمليات، بدأ الرجل يرطن بكلام له رنة خطيرة، وقد حوّل وجهه نحو السائق دون ناصر فقد بدا وجه السائق أكثر تجاوبًا مع الكلام.

– ماذا يقول الدكتور يا أخي؟ ما الذي جرى لـ «غصون»؟ ماتت؟

– لا لا سمح الله، لم أفهم كل شيء قاله.

كان السائق يتكلّم وهو يشيح بوجهه عن ناصر، ابتسم الطبيب ابتسامة متعبة وابتلعته البوابة مرة أخرى.

فجأة صرخ السائق كمن وجد كنزًا.

– سأجد ماجد، هو سيفهّمنا.

– من ماجد؟

– ممرّض عربي من الشمال، لا أذكر من أين بالضبط، من «باقة» أو من «كفر قرع»، المهم هو شهم وسيساعدنا، انتظر هنا.

لم يطمئن ناصر لإجابة السائق، شكّ أنه فهم ما حدث لـ «غصون» ولكنه لا يريد أن يخبره، فبحث عمّن ينقذه من الورطة.

بضع دقائق وعاد الرجل بصحبة شاب طويل القامة، ابتسم بوجهه دون كلام ودخل أيضًا عبر ذات البوابة الكبيرة. غاب لبرهة ثم عاد حاملًا كلامًا.

«غصون» بخير الآن، فقدت الكثير من الدم واضطروا أن يقوموا بعملية توليد، كل هذا مفهوم فما هو الكلام الباقي، ذلك الذي لم يخرج حتى الآن؟ بقي ناصر صامتًا. تباطأ الممرّض بالحديث وبدت تعلو وجهه ملامح مختلطة من الشفقة والحذر، وقف السائق بعيدًا عنهما.

– النزيف استمرّ، ونقلوا لها دمًا، وفي النهاية اضطرّوا أن يسـتأصلوا الرحم، يعني أن يُخرِجوه. هي تحت التخدير، لكنها مستقرّة، وستبقى في الإنعاش حتى نطمئن عليها.

ثم أردف بعد صمت، لم يقطعه ناصر بسؤال أو استفسار، بل بنظرة حائرة نحو الباب الكبير:

– لا داعي إلى بقائك هنا يا…

– ناصر.

– يا ناصر، عد في الصباح، بعد العاشرة، لن تستطيعوا الدخول قبلها، سلامتها.

(4)

في صباح اليوم التالي عاد هو وفاطمة وزوج فاطمة إلى المستشفى مع نفس السائق من البارحة. تقلّب طوال الليل في الفراش، يفكر ولا يفكر، تمر به لحظات يفكّر فيما حدث، ولحظات لا يشعر بها بشيء، فراغ يملأ رأسه حتى يشعر أنه سينفجر فيعي لنفسه ويعاود التفكير. عندما أخبر فاطمة صرخت والتف حوله الأولاد فزعين، ومنْ يستطيع منهم الكلام ظل يسأل عن أمه. أمّا فاطمة فاستمرت بصوت ملهوف:

– عاش الولد؟

– عاش الولد، هو بخير.

– ولد؟

– ولد.

استمرّ الفراِغ يملأ رأسه وهو في الطريق إلى المستشفى، فعاد إلى تل الملح، إلى القرية وليس إلى الخِربة الجديدة، كيف يمكن لخِربة أن تكون جديدة؟ في القرية تزوّج «غصون»، أجمل البنات وقريبة أمه. اجتمعت كلّ القرية في بيتهم نهار العرس، بقي الرجال والنساء حتى المغرب وتعالت المواويل والدّحّيّة في سماء القرية المفتوحة، وزفوه إلى عروسه في غرفتهما الصغيرة.

«غصون»، امتلأ الفراغ، وصَغُر رأسه، «غصون» بين الحياة والموت، وهي حية أو هكذا كانت حتى مساء الأمس، «غصون» أم أولاده وأول فرحته، أسراره الصغيرة وأحلامه الكبيرة، همس الليالي وحديث الروح، فتوّته وشبابه، كانا نضرين يانعين يجري الدم في عروقهما نارًا ونورًا. لم يتخطّاهما غمز ولمز نساء القرية، فكيف يحبّ الزوج زوجته؟

في الوقت الذي كان العالم يرتب للسلام ويُوقِّع الاتفاقيات ويحضر الاحتفالات، بدأت تَرِد إليهم إشاعات تليها تـأكيدات ثم إخطارات بترحيلهم، يجب أن ينقل المعسكر من أرض سيناء المحرَرة إلى أرض النقب الـ…، ولا مكان إلا فوق تل الملح.

علت الأصوات ثم خمدت، وتوالت على هذا المنوال، تعلو وتخمد بعد كل قرار وبعد كل ترحيل، رويدًا رويدًا وسريعًا سريعًا، تمزق المكان وقام المعسكر.

كيف تحب وأنت ترحل؟ كيف تربي وأنت تُهزم؟ وكيف تبني مستقبلًا وأنت تُشرّد؟ أين الغربة إن لم تكن في الأوطان ولا حلّ للغربة إلا في الأوطان؟ هي خطط تْؤجَل للجيل الذي يليه، أمّا الآن فما علينا إلا البقاء. بقيت «غصون» نضِرة عطِرة أشبه شيء بهما.

(5)

وجهتم موظفة الاستقبال إلى قسم النساء، حيث ترقد «غصون» بعد العملية، زوج فاطمة يعرف كيف يتصرف وهو رجل كبير له هيبة، أشار له بالدخول إلى الغرفة مع فاطمة، وانتظر هو في الصالة على مقعد طويل خالٍ. لم تكن ساعات زيارة رسمية، اقترب من «غصون»، ونادت عليها فاطمة. ففتحت عينيها وحاولت شد جسدها إلى الأعلى، فوضع يده على كتفها.

– استريحي، حمدًا لله على السّلامة، كيف أنتِ؟

– موجوعة.

فردت فاطمة:

– لا بأس عليك يا «غصون».

– كيف الولد؟ البنت؟ لم يقولوا لي شيئًا أو قالوا ولم أفهم.

– ولد وهو بخير. المهم أنتِ!

– لا أذكر شيئًا، ناس كثيرة وغرفة كبيرة وأصوات وضجة، ولا شيء. هل رأيته؟

– لمحته، بعد قليل موعد زيارة المواليد.

– ناصر، ماذا جرى معي؟

لم يُجِبها. فتداركت فاطمة:

– ناصر، لا تترك أبا محمود وحده. أنا سأبقى مع «غصون»، ما شاء الله عنها، هي بخير، بخير.

ثم قالت بهمس:

– سأخبرها بما جرى.

شعر بضيق وراحة من الحل الذي اقترحته فاطمة، ثم خرج.

جلس قرب زوج أخته، فبادره بالسؤال:

– كيف البُنيّة؟

– بخير.

فأكمل دون تردّد:

– لا تقلق يا أبا يعقوب، إن شاء الله تجد بنت حلال، وتتزوج وتنجب دزّينة من الأولاد.

أسند ناصر رأسه إلى الحائط ناظرًا إليه ببلادة شديدة:

– لم تتزوج أنت على فاطمة.

– فاطمة زوجتي الثانية بعد أن ماتت الأولى، وفاطمة أصيلة، ربّت الأيتام وأنجبت لي ولدين وست بنات. ماذا ستسمي الولد؟

اعتدل ناصر، وابتدأ رأسه يفرغ من جديد ويكبر.

– ما اسم السائق؟

– سليم.

– هو سليم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.