غسان كنفاني: من جعل القلم أشرس من البارود
كان واقفاً هناك في الصحراء الجرداء، تحت أشعة الشمس الحارقة يستمع إلى دقات وصرخات رجال الشمس على جدران الخزان، ولكنه لم يستطع إنقاذهم، فهو في الوقت ذاته كان يترقَّب وصول سعد إلى أمه في زيارته الأخيرة قبل استشهاده، والتي أهداها خلالها رصاصة مدفع رشاش لتكون حجابها في لحظات النكسة. وكانت أذنه تحاول التقاط كلمات سعيد وزوجته صفية إلى ابنهما الذي سلبهما الاحتلال إياه، يوم سلب أرضهما، قبل أن يتلفظ سعيد بجملته الشهيرة إلى زوجته:
أديب المقاومة الفلسطينية
وُلد «أديب المقاومة الفلسطينية» غسان كنفاني في عكا، شمال فلسطين، في التاسع من إبريل/نيسان عام 1936، وعاش في يافا حتى مايو/آيار 1948 حين أجبر على اللجوء مع عائلته في بادئ الأمر إلى لبنان ثم الى سوريا. عاش وعمل في دمشق ثم في الكويت وبعد ذلك في بيروت منذ 1960، وفي يوليو/تموز 1972، استشهد في بيروت مع ابنة أخته لميس في انفجار سيارة مفخخة على أيدي عملاء إسرائيليين.أصدر غسان كنفاني حتى تاريخ وفاته المبكّر ثمانية عشر كتاباً. وكتب مئات المقالات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني. في أعقاب اغتياله تمت إعادة نشر جميع مؤلفاته بالعربية، في طبعات عديدة. وجمعت رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ومقالاته ونشرت في أربعة مجلدات. وتُرجمت معظم أعمال غسان الأدبية الى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلداً، وتم إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة. اثنتان من رواياته تحولتا إلى فيلمين سينمائيين. وما زالت أعماله الأدبية التي كتبها بين عامي 1956 و1972 تحظى حتى اليوم بأهمية متزايدة.ومن أشهر أعماله الأدبية: «رجال في الشمس»، «عائد إلى حيفا»، «أم سعد»، «أرض البرتقال الحزين»، «موت سرير رقم 12».
حينما تصبح الكتابة عملية فدائية
لم تتمثل عبقرية غسان في منح قلمه صفة المقاوم فقط، لكنه كان أيضاً تجسيداً للصحافي العبقري، الذي عرَّف الصحافة على أنها «قضية»، فكانت هي الأكاديمية التي قذفت به إلى هذا المجال، فهو يكتب أي شيء تدفعه القضية إلى طرحه على الورق، دونما التزام بقالب مُحدد، فكان تارة يطرح أفكاره في شكل قصة، وتارة أخرى في شكل مقال سياسي أو مقال أدبي نقدي، فقد كان يختار أقصر طريق إلى فلسطين. فاستحق لقب الصحافي المقاتل، بل صحافي الحياة.وموهبته الفريدة هي ما أهَّلته ليكون أحد أصغر رؤساء تحرير الصحف العربية اليومية، حيث ترأس تحرير صحيفة «المحرِّر»، دون أن يبلغ الثلاثين. ومع منصبه الجديد، ازدادت غزارة كتاباته، فلم يترك لوناً من ألوان الصحافة لم يمارسه: كتب الافتتاحية السياسية، والمقال السياسي الطويل، والخواطر الوجدانية، التي تختلط فيها السياسة بالمشاعر الشخصية، والنقد الأدبي والثقافي، وخاض المعارك السياسية الحزبية المباشرة اليومية، وبرع في كتابة الفكرة اليومية الساخرة الخاطفة. فقام بتعريف أدب المقاومة في الأرض المحتلة، وأصدر ملحق فلسطين، الذي كان ثاني مجلة فلسطينية متخصصة.وفي أعقاب نكسة 1967، خفت نجم غسان، إلى أن عاد مُجدداً ليكتب باسم «فارس فارس»، وقد اختار لنفسه اسماً مستعاراً حتى يتمكن من الخروج عن النهج الذي كان يكتب فيه، فأطلق العنان لسخريته اللاذعة، وكتب تحت هذا الاسم مجموعة من المقالات النقدية الأدبية الحارة والصادقة، التي تركت وراءها، حتى اليوم، فراغاً لا يعوَّض، ونكهة في النقد الأدبي ليس من السهل استعادتها.وبعدها عاد غسان إلى أوج تألقه كصحافي، وكأديب، وكناقد أدبي، لتصبح لديه الكتابة عبارة عن عملية فدائية داخل الأرض المحتلة، فأصبحت الصحافة والقصة والكتابة السياسية وكل شيء في الحياة يتلخص لديه بعملية فدائية.
الباحث الفذ
كان كنفاني باحث فذ، أثرى القضية ببحوثه التاريخية والأدبية، وأهمها بحثه التاريخي عن ثورة 1936، وبحوثه الأدبية: أدب المقاومة في فلسطين، والأدب الفلسطيني المقاوم، وفي الأدب الصهيوني.ويمكن القول أن كنفاني كان مثقفاً جرامشي النزعة، فهو سعى إلى التأسيس لثقافة أخرى تغاير الثقافة المُسيطرة، بل وتنقضها، ثقافة لا تنفصل، في الوقت ذاته، عن الممارسة الكفاحية بوصفها إطاراً لا استغناء عنه للوعي بالواقع. فقد أدرك أن الثقافة أصل، من عدة أصول، للسياسة وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي.فقد حاول ترسيخ أسس ولادة الفلسطيني الجديد، الذي يعي أسباب نكبته ويدرك أحوال العالم العربي ويعرف أكثر ماهية الصهيوني الذي يواجهه.لذا، تعتبر دراستيه الأدبيتين «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة»، و«في الأدب الصهيوني»، الدراستان الرائدتان في هذين الحقلين. ففي الأولى تُعرِّف الشارع العربي الثقافي على الأدب الفلسطيني، فقبل هذه الدراسة لم يكن القارئ العربي يعرف إلا القليل عن أسماء مثل محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد. وبدورهم لم يكن هؤلاء الأدباء يدركون على نحو واضح ما يمكن أن يؤديه أدبهم من ديناميكية كبيرة في الاتصال والتواصل مع العمق العربي.وفي الثانية، برزت ريادته في دخول مناطق ملتبسة، في محاولة لاشتقاق معرفة الذات من معرفة الآخر، فذكر في مقدمة هذه الدراسة: «قاتلت الحركة الصهيونية سلاح الأدب قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي». فكان الأدب الصهيوني جزءا لا يتجزأ ولا غنى عنه، استخدمته الصهيونية السياسية على أوسع نطاق، ليس فقط لخدمة حملاتها الدعائية ولكن أيضا لخدمة حملاتها السياسية والعسكرية.وتعتبر هذه الدراسة ولادة الصهيونية السياسية، نقطة تبلور في تاريخ الصهيونية الحقيقي، وأنها كانت نتيجة إرهاصات أدبية صهيونية مبكرة ما لبثت أن اندفعت، بعد ولادة الصهيونية السياسية، لتصير جزءًا أساسياً منها، وتعمل بانضباط تحت شعاراتها وبتوجيه منها ولخدمة أهداف محددة لها سلفاً.
السلاح أيقونة الجمال الفلسطيني
في أعقاب نكسة يونيو/حزيران 1967، بدأ غسان في رسم ملامح علاقة الشخصية الفلسطينية بالسلاح، حيث بات يستخدم لغة جديدة تُبدع وتُجسِّد امتزاج الإنسان بالسلاح بصورة فريدة.وكانت «أم سعد» إحدى تجليات هذه العلاقة الفريدة عند غسان، فهذه المرأة لم تكتسي فقط بوعي الثورة، ولكنها جسَّدته، فهي التي ارتدت طلقة المدفع الرشاش الذي تركها لها ابنها الشهيد، كسلسلة في صدرها، وهي من وصفت البندقية (البارودة) بالحصبة، فقالت:
وهناك في ميدان القتال، كان ابنها سعد يتذكر رائحة الخبر، وهو خارج لتوه من الفرن، حينما تتساقط الأمطار على أسلحتهم الرشاشة.وفي معظم أعماله الأدبية كان كنفاني حريص على أن يصور الحياة الذليلة التي يعيشها الفلسطيني في ظل الاحتلال، وأن السلاح هو طريقه الوحيد ليعود إلى فلسطين، فيتحول السلاح عند كنفاني إلى معادل جمالي للحياة الحرَّة.بل ذهب كنفاني إلى أبعد من ذلك، بعدما دبَّ الروح في السلاح، فلم يصبح مجرد أداة جامدة في يد الفلسطيني بل عضواً من أعضائه. ففي ختام القسم الأول من مجموعة «عن الرجال والبنادق»، وصف استشهاد والد منصور على النحو التالي:
الرمز في خدمة القضية
كانت أعمال كنفاني الأدبية تتبع الأسلوب الواقعي المبسط، ولكن هذا لا يتنافى مع أنه قد برع في استخدام الأسلوب الرمزي، فالنص الأدبي عند كنفاني يتخطى المساحة الجغرافية التي يقف عليها أبطاله، لينسج في الفضاء الواسع دلالات أرحب.ففي رواية «أم سعد» نجد أن البطلة هي رمز المرأة والأم الفلسطينية، التي تعطي ولديها للثورة، حيث يقول عنها «أبو سعد»: «هذه المرأة تلد أولاداً فيصيرون فدائيين، هي تخلِّف وفلسطين تأخذ».فأم سعد هي أم الجميع، إنها الفلسطينية في داخل فلسطين، وهي أم الفدائي الذي شب على أرض المنفى، هي أيضاً الأم الروحية للمثقف الثوري الذي يريد أن يكون ابناً باراً لفلسطين الثورة وفي فلسطين الكادحين.وفي رواية «رجال في الشمس»، يمكن أن نرى في شخصية «أبو الخيزران» رمزاً للقيادة الفلسطينية. فهي الشخصية التي تؤدي دور المُهرِّب القاتل المغرور المخادع، شأن المهربين ممثلي القيادات العربية الأخرى، حتى أن فقدان أبو الخيزران لقدرته الجنسية رمز لعجز القيادة وعنتها في 1948، وظلت مع ذلك، تدعي أنها تستطيع توجيه الفلسطينيين وإنقاذهم.واستطاع كنفاني تجاوز الرؤية الرومانسية للمرأة وانطلق في عالم الكتابة عن الرجل والمرأة في إطار الكفاح الوطني، في قصة «العروس»، حيث تغدو المرأة، أحياناً، مصدر إيحاء بالبقاء في الوطن والتمسك بالأرض، وأحيانا تصبح رمزاً للطريق إلى الوطن وأحيانا تكون ذاكرة الشعب الحية التي لا تموت ولا تنسى ولا تغفر لأعداء الوطن.وكذلك ارتقى غسان بالمرأة رمزاً عندما ضمَّنها معنى السلاح ورمز الحرية، حتى تصبح العروس البندقية، أو البندقية العروس رمزاً متلاحماً لا انفصام فيه يجسِّد معنى البشارة والولادة الجديدة.لم يكن غسان كنفاني مجرد أديب أو صحافي فلسطيني خدم قضية بلاده حتى آخر لحظات عمره، بل مثَّل مشروعاً متكاملاً للمقاومة الفلسطينية، فحاول تشكيل جيلاً جديداً من المقاومين، شحذوا أقلامهم لإسقاط الضربات بالاحتلال الإسرائيلي، والتي عادلت أحياناً، بل وتجاوزت ضربات البارود. لذلك، لم يكن من المستغرب أن يسعى الاحتلال لإجهاض هذا المشروع في بواكيره، حينما اغتال كنفاني في الثامن من يوليو/تموز عام 1972.
- أنطوان شلحت، "ماذا يتبقى من غسان كنفاني؟"، الموقع الرسمي لغسان كنفاني.
- ماجدة حمود، "جماليات السلاح لدى غسان كنفاني"، الموقع الرسمي لغسان كنفاني.
- توفيق علي إسماعيل، "الرمز في أدب غسان كنفاني"، الموقع الرسمي لغسان كنفاني.
- إلياس سحاب، "غسان كنفاني: صحافي يبحث عن فلسطين.. ظل يتوهج ويتوتر حتى انفجر"، الموقع الرسمي لغسان كنفاني.