مسلسل «جزيرة غمام» وطوفان نوح وسفينته
مسلسل «جزيرة غمام» هو كالجواب الذي يُعرف من عنوانه، أظهرت روعة شارة البداية وعمقها في آن واحد أننا أمام عمل بنفس الروعة والعمق أو أكثر، كلمات «إبراهيم عبد الفتاح» رمزت إلى فحوى القصة ببراعة بالغة، مع الأخذ في الاعتبار الصور البلاغية في المقطع الأول على سبيل المثال، في استخدام الجناس التام، في كلمة «مجراشي» وتكرارها في ثلاثة مواضع بمعانٍ مختلفة في كل مرة:
بمعنى لم يجرِ مرة أخرى بل ركد على السطح، كنايةً عن الغجر الذين انشق عنهم البحر في أول القصة، ولم يتمكن أهل الجزيرة من التخلص منهم.
بمعنى لم يحدث، كنايةً عن أكاذيب خلدون ونفاقه وقصصه المُلفقة، والتي يختلقها لتحقيق أغراضه.
كلمة دراجة بالعامية المصرية بمعنى كل شيء سيمر، وكأن شيئًا لم يكن، وسوف يصفو البحر في النهاية.
ثم تتدفق كلمات القصيدة بتناغم تام، حتى ينتهي بها الحال للنتيجة الحتمية:
كما يخدم لحن شادي مؤنس الكلمات بشكل مثالي وكذلك صوت علي الحجار، الذي عبر عن الكلمات ببراعة تامة، كل هذه العوامل تمكنت من خدمة العمل والخروج به في هذه الصورة المتكاملة، كل العناصر متناغمة لا يمكن أن يشعر المتلقي بخلل في إيقاع الموسيقى ولا في إيقاع المسلسل بشكل عام.
تجليات «عبد الرحيم كمال»
في عام 2012 أطل القدير يحيى الفخراني في رائعة «الخواجة عبد القادر»؛ يحكي المسلسل قصة حدثت في منطقة ما بين السودان وصعيد مصر، رجل تحوّل من التخبط والرغبة في الموت -بل وأحيانًا السعي إليه- إلى حب الحياة والرغبة فيها. أحب الله حينما عرفه لأول مرة في الحَضرة، ثم أحب زينب ورغب أن يعيش معها ما تبقى له من الأيام أو السنوات.
لمع نجم عبد الرحيم كمال في ذلك الحين، وصفه لصعيد مصر وعادات أبنائه وحبهم للأولياء والصالحين، الذين تحوّل الخواجة إلى واحد منهم واختار أن يسمي نفسه باسم شيخه عبد القادر.
أردت أن أشير هنا لمسلسل الخواجة عبد القادر لما بينه وبين جزيرة غمام من تشابه، طرح فكرة المتصوف في الدراما، الشخص الذي ينتقل من مكان إلى آخر ومن حال إلى آخر، دون أن يعلم كيف حدث له ذلك. شخص يُسلِّم أمره كله لله، راضٍ بقضائه، ليس له في الدنيا وبهرجها مطمع، وجد نفسه في بؤرة النور الإلهي، يخرج من ضيق نفسه إلى رحابة هذا النور، فيضيء لمن حوله، بنفاذ بصيرته، لا يحزن ولا يشقى إلا ليصبح أطهر وأنقى، أدرك بكل جوارحه معنى الآية: «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (سورة يوسف: أية 21)، فاطمئن قلبه.
صورة الشيطان في الدراما
كان الشيطان يُصوَّر في الدراما قديمًا بأنه ذو أنياب وقرون وربما ذيل، أحمر العينين، أشعث الشعر، سيئ الخِلقة، وربما هكذا تصوره الإنسان، فإذا كان شيطانًا فلا بد أن يكون قبيحًا، ولكن الشيطان في جزيرة غمام جاء مختلفًا تمامًا عن تلك الصورة الساذجة، فقد كان «خلدون» ذا مظهر عادي، ولكنه متلوّن حسب ما تقتضي مصالحه، فإذا كان بحاجة إلى الشخص تذلّل إليه، إلى أبعد حد، وقال فيه من الإطراء ما ليس فيه. وإذا نال غرضه منه انقلب عليه، وأسمعه ما لا يرضيه.
دخل خلدون إلى جزيرة غمام خفيض الصوت مُطأطئ الرأس، أوهم أهل الجزيرة أنه لا يطمع إلا في خيمة على البحر، يريد أن يتكسب من الفتات الذي يسقط من الكبار، ثم ما إن اطّلع على أسرار الجميع، حتى ارتفع صوته وخرج من جحره ليُرهِب الناس ويجني منهم الإتاوات، ويصنع بينهم العداوات التي تصل إلى حد القتل، جلس في قلب سوق البلد وهدّد الجميع، أظهر أعلى درجات الخِسة وهو يُهدد الناس بزلاَّتهم التي يخفونها منذ زمن، ولا يمكنهم المخاطرة بإعلانها، مهما كان الثمن المدفوع في سبيل ذلك.
لم يترك كبير البلد ولا شيخ المسجد ولا كبير قساوسة الدير، طال أذاه الجميع، دخل الجزيرة من خلال ثغرة فيها، شخص يتغذى على الباطل، أسماه عبد الرحيم كمال «البطلان»، شخص مثالي ليتسلل الشيطان من خلال مطامعه وقبح نفسه، بالإضافة إلى قربه من كبير البلد وعمدتها.
تلوّن خلدون بكل الألوان، فهلّل لعمدة البلد تارة ولـ «البطلان» ضعيف النفس تارة، وأخرى للشيوخ ورجال الدين، وللصيادين والضعفاء، لم يسلم أحد من وسوسة خلدون، ولمّا تمكّن من آذان الجميع رفع صوته، وتجرّأ على أن يطلب أن يخطب بالناس في المسجد، فماذا سيقول الشيطان لو تُرِك ليعظ؟!
رحلة عرفات
عرفات هو ثالث ثلاثة هم تلاميذ الشيخ مدين، شيخ جزيرة غمام والعارف بالله الذي يثق به الجميع. تربّى عرفات في كنف الشيخ مدين منذ وفاة والديه، مع اثنين آخريْن؛ محارب ويسري، فاختار الشيخ مدين أن يترك لكل واحد منهم منحة قبل أن يموت، فسأل عرفات عن مبتغاه فأجاب: «عايز الرضا».
فأعطى محارب مكانه في مشيخة الجامع، وأعطى يسري بيته، وأعطى عرفات –مع الرضا- مسبحته، فلم يعترض ولم يناقش شيخه، بل دعا الله أن يكون على قدر هذه العطية. أمّا يسري فقد أخرج رفيق عمره عرفات من بيت الشيخ في نفس يوم وفاته، ومحارب لم يدافع عن صاحبه ولم يحرص على بقائه على الرغم أنه ليس له بيت آخر.
تنقل عرفات بين الطرقات، كان ينام بالقرب من البحر، ليس على لسانه سوى الحمد لله، ثم يحمد الله على أن هداه لشكره، بجملته «الحمد لله على الحمد لله».
يجوب طرقات القرية بأدواته كنجَّار ليكسب قوته الضئيل الذي بالكاد يُبقيه على قيد الحياة، يجمع حوله أطفال القرية ليُحدِّثهم عن الله، يرتاح لصحبتهم، لنقاء قلوبهم وبراءتهم، استعان بهم للخلاص من فتنة أصابت الجزيرة، حيث انقسمت على يد خلدون والبطلان، فاخترق عرفات السور مُمسكًا بأيدي الصغار، وانتهت الفتنة على يده، فاستشاط الشيطان غضبًا، فحاول فتنة عرفات نفسه، بأن سخر كل من جاءوا معه من وراء البحر، لنفاق عرفات والتهليل له وتقبيل يديه، وانتهى المشهد بأن ارتدى عرفات عباءة خلدون نفسه، وهكذا تحقق غرض الأخير.
بعد أن فُتن عرفات، كان لا بد له من أن يتطهر ويُنقِّي قلبه ونفسه مرة أخرى من وسوسة الشيطان؛ تاه عرفات في الصحراء بعد أن اختطفته مجموعة من قطّاع الطرق، تنقلت به السبل ورأى في رحلته شخوصًا ربما أنبتهم الله في الصحراء لأجله خصيصًا: عازف الناي، وراعي الغنم الذي طلب منه مسبحة شيخه مقابل شربة ماء، فرفض عرفات في البداية، ولكن راعي الغنم قال إن السِّر ليس في مسبحة الشيخ وإنما في عرفات نفسه. ثم قابل الشيخ الذي يدفن عمله الصالح وعمله السيئ حتى يعود كما ولدته أمه، والذي نصح عرفات بأن يلقي بنفسه في البئر حتى يستعيد «عرفات»، ثم قابل امرأة تبكي على أطلال قرية أخذها وباء ولم يُبقِ منها أحدًا، وكبير قطّاع الطرق «غاشي» والذي تاب إلى الله بعد أن تحدث إليه عرفات بما في نفسه عن نفسه، ولومه لها لأنها تركت مكانًا ليتسلل منه الشيطان.
أعادت تلك الرحلة عرفات سيرته الأولى بعد أن خلع عنه عباءة خلدون وتاب من فتنتها، وتخلّى عن مسبحة شيخه لأنه لا سر فيها ولكنها رمز فقط، وخلع نعليه وأكمل طريقه حافي القدمين.
الطوفان وسفينة النجاة
تشابهت هذه القصة كثيرًا مع قصة نبي الله نوح الذي ظل يدعو قومه للإيمان بالله ولم يستجب منهم إلا قلة قليلة، ومن ثَمَّ أمره الله ببناء سفينة ليأخذ فيها عباد الله المؤمنين عندما يأتي الطوفان.
نسج «عبد الرحيم كمال» عالمًا خياليًا بالكامل، مليئًا بالرموز، جعله بعيدًا عن الواقع إلى أقصى درجة، ولكنه واقعي جدًا من حيث الصراعات بين جميع المتناقضات والثنائيات، وتحديدًا ثنائية الخير والشر، ليس بين شخص وآخر فقط، ولكن في داخل نفس الإنسان، يظل يتأرجح ويصارع بين هذا وذاك حتى يرسو في النهاية على أحد الوجهين.
حذّر الشيخ «مدين» أهل الجزيرة من الزوبعة والتي سوف تأتي لتحصد في سبيلها كل النفوس الخرِبة والضعيفة، النفوس التي غلب فيها الشرُ الخيرَ، وهذه الزوبعة لها علامات، منها قلة الرزق وكثرة الفتن، وخروج الشيطان ليعظ الناس، وأمر عرفات أن يعظ الناس بدوره وأن يحذرهم من الزوبعة وعلاماتها، فلم يجد منهم إلا التكذيب والتنكيل والاعتداء بالقول والفعل، كان يحب قومه ويكرهونه، يعذرهم ولا يعذرونه، يريد لهم الخير ويصدقون هم عليه ما يروّج له خلدون.
صنع عرفات مكانًا بعيدًا، قال إن الزوبعة لن تصل إليه مهما طالت قوتها، لن يحتمي به إلا صاحب القلب النظيف. فمهما كانت أخطاء الإنسان، فإن باب التوبة مفتوح أمام كل منْ كان في قلبه مثقال ذرة من نور.
احتمت تلك القلة بالمخبأ ذي الألواح والدُسُر، حتى انقشع الضباب وهدأ البحر وأشرقت الشمس من جديد بعد أن تطهرت الجزيرة من الشرور وأصحابها.
ثم يأخذنا مخرج هذه الملحمة «حسين المنباوي» إلى آخر مشهدين في المسلسل؛ الأول للشيخ عرفات وقد اشتعل رأسه ولحيته شيبًا وحوله تلاميذ ثلاثة، وزّع عليهم تركته كالتالي: أخذ أحدهم البيت والآخر أخذ مكانه في المسجد، وأما الثالث فقد أخذ الرضا والمسبحة.
وأمّا المشهد الثاني فهو لخلدون بنفس صورته قبل أن يقتله أهل القرية، ومعه كل أتباعه وأعوانه، وجاءت براعة الكاتب هنا في اختيار هذا الاسم تحديدًا والمشتق من الخلود والبقاء، حيث إن هذا الشيطان باقٍ إلى الأبد، وإن الصراع بين عرفات وخلدون وأتباعهم، باقٍ إلى يوم يُبعثون.