جيرارد وشانكلي وكلوب: فانتازيا الثلج والورود الحمراء
يسير ممسكًا يد العجوز بخطوات أثقلها الثلج الذي يأبى أن يذوب منذ ما يقارب ربع القرن وكأننا على وشك عصر جليدي جديد. لا يعكر بياض الثلج الذي انتشر في مدينة ليفربول بأكملها سوى معطفين حمر يرتديهما الرجلان ووردة حمراء يمسك بها الرجل بإحدى يديه والأخرى ما زالت تتشبث بيد العجوز.
يمر الرجلان بجوار تمثال لرجل فاردًا ذراعيه، لم يستطع الثلج أن يخفي ملامح وجهه فهي نفس ملامح الرجل العجوز، ينحني جيرارد لكي يمسح قاعدة التمثال من آثار الثلج فتظهر الكتابة المنقوشة بوضوح: «بيل شانكي. لقد استطاع أن يجعل الناس سعداء».
يقطع الحلم -الذي يتكرر كثيرًا في الآونة الأخيرة- رنين الهاتف الذي لم يتوقف منذ أمس. فبعد فوز ليفربول بدوري أبطال أوروبا الجميع يهنئ ستيفي كأنه هو شخصيًا ليفربول، إلا أنها سعادة لا تكتمل. لا زال يشعر جيرارد بشيء من الألم كونه لم يعد جزءًا من ذلك النجاح.
هذا الألم الذي عرفه جيرارد صغيرًا عندما اخترقت شوكة قدمه، كان يلتف حوله الجميع يملأهم الرعب بعد أن أكد لهم الأطباء أن الحل الوحيد هو بتر إصبع ستيفي، إلا أن ستيفن تجمدت كل أفكاره إلا واحدة: «هل سأتوقف عن اللعب لليفربول للأبد؟» ربما هذا ما شعر به جون بول في ملعب هيلزبورو.
جون بول هو ابن عم جيرارد وقد تعاهدا على اللعب سويًا في صفوف ليفربول، إلا أن جون كان أحد ضحايا كارثة هيلزبره الشهيرة.لم يغب عن ناظري أبدًا وجه جون بول، كان يكبرني بعام وكنا قد تعاهدنا صغارًا على اللعب في صفوف ليفربول، يجري في عروقنا دم أبناء العمومة وشغف ليفربول، إلا أني لم أكن أعلم أن هذا العهد سينقض في ملعب هيلزبورو. توفي جون رفقة 96 مشجعًا لليفربول جراء التزاحم في ذلك اليوم، إلا أني حافظت على عهدي مع جون في كل مرة ألبس قميص ليفربول أرى وجه جون بول يبتسم لي، لكن منذ أن خلعت قميص ليفربول وأنا لا أرى جون إلا في أحلامي.
يجلس طفل في العاشرة على قاعدة رخامية اللون تتقدم نصبًا تذكاريًا يحمل أسماء ستة وتسعين مشجعًا لليفربول لم يعودوا من ملعب هيلزبرو، ينظر جيرارد بنظرة معتادة إلى أسفل النصب دون أن يأبه كثيرًا بالثلج ليقرأ اسم الطفل الناظر إليه “جون بول”. يجلس ستيفن بجوار الطفل على قاعدة التمثال محدثًا إياه:
يترك جيرارد الطفل الذي لا يبارح قاعدة النصب أبدًا لكي يكمل طريقه متشبثًا بيد العجوز.
تسعون دقيقة من العرق. إذا قررت أن تمرر الكرة إلى أقصى الملعب فإما أن تفعل ذلك من خلال أربعة أو خمسة لاعبين وإما أن تكون ستيفن جيرارد. يركض بطول الملعب من أجل أن يمنع هدفًا ثم يركض الملعب بطوله رجوعًا لكي يحرز آخر. لم يعرف الأنفيلد قائدًا مثل جيرارد، كان الأمل في وقت انحدار ليفربول. وردة حمراء نمت في قلب ثلوج أنفيلد روود لكي تبلغ الجميع أنه كان هناك ليفربول وما زال وسيبقى.
بدأ جيرارد اللعب لصفوف الفريق الأول لليفربول في عامه الثامن عشر واحتاج جيرارد إلى عامين لكي يصبح لاعبًا أساسيًا ويحرز لقب كأس الاتحاد الإنجليزي ثم يحرم الأفيش الأسباني من كأس الاتحاد الأوروبي ليكتب جيرارد أول ألقابه الأوروبية. عامان آخران انقضيا ليصبح جيرارد كابتن ليفربول ويعرض عليه تشيلسي عشرين مليون إسترليني وهو العرض الذي رفضه ستيفن بالطبع ليبدأ مرحلة جديدة مع ليفربول مع المدرب الجديد آنذاك رافا بينيتيث، لكي يأتي أفضل يوم في مسيرة جيرارد على الإطلاق؛ 25 مايو 2005.
غرفة تغيير الملابس بملعب أتاتورك بإسطنبول. لا أستطيع أن أسمع شيئًا من حولي. فقط أنظر في وجه كل من بالغرفة لكي أرى الهزيمة في كل مكان. العار الذي سيلاحقنا بدأ بالفعل، ثلاثة أهداف في شوط واحد. هل سيكون ليفربول أضحوكة أوروبا هذا العام؟ الفريق الذي وصل النهائي لكي ينهزم بخماسية، هل هذا ما تستحقه جماهير ليفربول؟
لقد بدأنا المباراة مهزومين بالفعل، كان يتردد في التدريبات الحديث عن المباراة بنبرة خائفة دومًا. هل نستطيع مجاراة فريق مكون من ديدا، ستام، مالديني، نيستا، كافو، جاتوزو، بيرلو، سيدورف، كاكا، شيفشينكو، وكريسبو؟ أحد عشر لاعبًا من الفئة الأولى ينتظرهم على الدكة روي كوستا وتوماسون هزموا مانشستر ذهابًا وإيابًا وأنهوا مباراتي الديربي مع إنتر بمجموع خمسة أهداف. لم يكن اللاعبون واثقين بأنفسهم أو ببعضهم البعض. هل نفعلها بهجوم مكون من ريزا وكيويل وباروش؟
لم يتحدث معي أحد من اللاعبين مطلقًا حتى هيبيا، إلا أن أمورًا كتلك لا تخفى على لاعب كرة قدم قط. أخبرني بينيتيث أني سألعب الشوط الثاني في مركز خط الوسط المهاجم، لم أجبه حتى بإيماءة رأس فقط ووقفت في منتصف الغرفة ثم نظرت إلى كل لاعب على حدة، نظرت في أعينهم تمامًا، نستطيع أن نفعلها. سنفعلها لأننا نرتدي قميص ليفربول، تلك القمصان التي تهب مرتديها الآلاف من ورائه لا يتركونه وحيدًا أبدا، سنعود لأننا ليفربول وسنعود من أجل ليفربول.
بدأ الشوط الثاني وأحرزت هدفًا بالرأس من تمريرة ألونسو ثم أخذت أركض بطول الملعب ألوح بيدي إلى الجماهير، لا تتركونا، ليفربول لا يسير وحده أبدًا، سنفعلها سويًا.
فعلناها، أحرزنا هدفين آخرين وفزنا بالبطولة بضربات الترجيح. جماهير ليفربول تستحق ذلك النهائي بالفعل.
في عام 2009 صرّحزين الدين زيدان أن جيرارد هو أفضل لاعب في العالم. هو لا يخطف الأنظار مثل ميسي أو رونالدو، لكن لديه قدرة عظيمة على التمرير، يستطيع أن يتحصل على الكرة بسهولة كما أنه يحرز أهدافًا أيضًا، إلا أن ميزانه الأكبر في رأي زيدان هو شخصيته. جيرارد يستطيع أن يمد كل من حوله بقدر كبير من الثقة، تلك أشياء يولد بها المرء.
لعشرة أعوام تالية لعب قلب ليفربول النابض محاولاً أن يعيد ليفربول للصدارة. تحمل عبء ليفربول وحيدًا. اقترب كثيرًا من النجاح دون أن يحققه. يكفي مشهد سقوطه في مباراة تشيلسي أمام ديمبا با مهاجم تشيلسي لكي يحرز الأزرق لقب الدوري الإنجليزي الذي اقترب منه ليفربول كثيرًا ذلك الموسم، إلا أن القدر كان يتمعن في توضيح حقيقة بسيطة رغم كل تلك الإخفاقات سيبقى جيرارد فخر ليفربول، سيبقى هو الرجل الذي حافظ لليفربول على اسمه في عصره الجليدي.
لن تحقق شيئًا بل سيأتي الإخفاق بقدمك أو بعجزها، فهل ستتغير أو سيتغير ليفربول؟ لا، ستبقى دومًا رجل ليفربول الأول الذي يسير ويسير وراءه الملايين حتى لا يتركوا ليفربول وحيدًا كما عاهدوه منذ البداية، ليبقى جيرارد هو التمثيل الحي لنشيد ليفربول.
عندما تسير عبر العاصفة أبقِ رأسك مرفوعًا
ولا تخشَ الظلام.
عند نهاية العاصفة توجد سماء ذهبية
وغناء طائر اللارك الفضي الجميل
سر عبر الرياح
سر عبر المطر
حتى ولو قُذفت أحلامك وطارت
سر، سر والأمل في قلبك
ولن تسير وحدك أبدًا
لن تسير وحدك أبدًا.
لقد كان على وشك أن يعيد الربيع للفيربول إلا أنه اكتفى بوضع وردة جديدة اليوم وكتب عليها بدوره أبال أوروبا 2019، لكنه لن يتوقف عند ذلك مثلما فعلت أنا.
سيفعلها يا سيد شانكلي، سيعود الربيع وينقشع الثلج عن مدينة ليفربول بفضل هذا الألماني ورفاقه. إنهم سيتوجون باللقب قريبًا صدقني. أنا أعرف جيدًا كيف يقترب المرء من النجاح دون أن يدركه. لكن هؤلاء سيفعلونها، حتمًا سيفعلونها.