متسللًا إلى أروقة السياسيين، يضرب كورونا دول العالم الأول بلا هوادة. فمن لم يصبه الداء، أصابه أثره. بلا محسنات بديعية، بلا مورابة أو تورية، صار السياسيون يخرجون متشائمين، ناكسي رؤوسهم.

وجهًا لوجه مع جائحة في عصر العولمة وقنوات التواصل الاجتماعي، يساريون متربصون باليمين الشعبوي المسيطر على حاضرة ديموقراطيات العالم. جعلتهم (اليمين الشعبوي) الأخبار الاقتصادية الكئيبة المتوالية، يرفعون أكف الضراعة، فهل هم حقًا مؤمنون، أم أنها حيلة سياسية؟

 تنوعت مواقف السياسيين عالميًا، بين التكذيب وطمأنة الجمهور، وبين التشاؤم، آخرون تذرعوا بلباس ديني وإشارات ميتافيزيقية، وما إن انجلى الشهر الأول من الأزمة تبدلت الأمور وسعى كلٌ إلى تعميق مكاسبه أو خفض خسائره، كيف كانت أنماط التعامل السياسي في مواجهة كورونا؟

السياسات العامة وعدم المساواة

مع انتشار الجائحة ترددت مقولة أن الفيروس يعاملنا سواسية، يصيب الطبيب ويصيب العالم، الغني والفقير، حتى السياسيين ليسوا في مأمن منه، فهل حقًا يعاملنا الفيروس سواسية؟

يجيب أندرياس كلُث في مقالةٍ له بالنفي؛ لا يعاملنا الفيروس بمساواة، فسؤال العدالة الاجتماعية سيرتفع وبقوة، انطلاقًا من الرعاية الصحية التي لا يتلقاها أغلب الفقراء. هل تلقى الفقراء نفس الرعاية التي تلقاها بوريس جونسون؟

بحسب البنك الدولي لا يتلقى 3.5 مليار إنسان الرعاية الصحية الكافية، بسبب ضعف الإنفاق الحكومي على الصحة. أشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سرعة انتشار العدوى بين الأمريكيين من أصل أفريقي، لا يعود ذلك إلى طبيعة العرق الجيني، بالقدر الذي يعود لأسباب مثل الفقر وضعف الرعاية الصحية، كذلك الكثافة السكانية في أحيائهم، لكن ردها ترامب فقط إلى مدى ترابطهم الأسري وعدم التزامهم بالتعليمات.

شبح انهيار النظام الصحي، الذي سيفتح وبقوة السؤال حول نماذج بناء السياسة العامة، ونسبة الإنفاق الحكومي للصحة، بالطبع ستكون مساحة صراع شديدة بين اليمين واليسار عالميًا، كما ستفتح شقوقًا للاحتقان الطبقي. وصولًا للآثار المدمرة التي سيتعرض لها 195 مليون عامل حول العالم للتسريح، بحلول نهاية الربع الثاني من 2020 وذلك بحسب منظمة العمل الدولية.

تحتل المنطقة العربية أعلى نسبة للمسرّحين من وظائفهم عالميًا، بنسبة تصل إلى 8.1% من العمالة العربية، أي أن 5 مليون إنسان سيفقدون وظائفهم.

بحسب كلُث فإن الهدوء الحالي سيتبعه ارتفاع لوتيرة الاحتجاج، يدرك السياسيون أيضًا أن الجائحة ستعمق من أزمة الفروقات الطبقية، وسؤال العدالة الاجتماعية وعدم المساواة.

هل يمكن اعتبار كورونا عدوًا؟

نحن نواجه عدوًا خفيًا، وستنتصر أمريكا عليه.
دونالد ترامب

بادئ الأمر كانت المصلحة الاقتصادية ومصلحة المنتفعين الرأسماليين تقتضي تجاهل الأمر، فكان موقف ترامب منكرًا الذي أنكر فيه تأثر بلاده بالجائحة، وكان التدليس الصيني في تقييم حجم الكارثة يفيد المصالح الرأسمالية الغربية.

مع ارتفاع الهلع عالميًا، كان ترامب يطمئن شعبه، واعدًا إياه بانتهاء هذا الأمر قبل الأول من أبريل/ نيسان، وأن النظام الصحي الأمريكي لا يقهر، لكن الواقع كان صادمًا لإدارته، باغتهم من حيث لا يتوقعون، ارتفاع مطرد في الإصابات والوفيات حتى تصدرت أمريكا العالم أجمع، عندها تحولت إستراتيجية ترامب لاعتبار الفيروس عدوًا خفيًا.

حاول ترامب تجاوز الأزمة الداخلية المترتبة على الانتشار الوبائي بتسريح 7 مليون عامل من وظائفهم، بحزمة إجراءات اقتصادية ضخمة قيمتها 2.2 ترليون دولار، نصف ترليون كحزمة لدعم الشركات والبنوك العملاقة التي تضررت، كما قدم دعمًا ماديًا لجموع الشعب الأمريكي.

شبح الاحتجاج الشعبي وخسارته الانتخابات بات قائمًا وبقوة، ما جعله يسعى لتوحيد الجبهة الداخلية، لا سبيل إلى ذلك إلا بالحرب! فكان من تصريحات ترامب الأولى أنه اتخذ الفيروس عدوًا لتوحيد شعبه خلفه، فهل نجح في ذلك؟

الحياة لا تقاتل الموت والروح لا تصارع الجماد، الروح تصارع الروح والحياةُ الحياة، ومن قوة المعرفة النزيهة بذلك ينشأ نظام الأشياء الإنسانية.
كارل شمت – كتاب مفهوم السياسي

يجيب شمت بكلماته البليغة، لا يمكن اعتبار الفيروس عدوًا بالطبع، من هنا تحولت السهام نحو الصين ومنظمة الصحة العالمية. الأخيرة أخفت معلومات عن الأولى ما أدى لتأخير الإنذار من الجائحة، الآن الولايات المتحدة في حالة حرب ضد فيروس انتشر بسبب اعتداء دولة في عرف السياسة الأمريكية.

الحكمة في التشاؤم أم الدروشة؟

الأسوأ لم يأتِ بعد.
بوريس جونسون

خرج جونسون ليعلن أن هناك العديد من الأسر ستفارق أحباءها، سيصيب المرض نسبة كبيرة من السكان، كانت تصريحاته الصادمة إعلانًا كثيف التشاؤم، في حين انبرى العديد يدافع عن الخطة البريطانية في مواجهة الفيروس.

كانت الخطة تقتضي ألا خطة في مواجهة الفيروس. لن تغلق بريطانيا الاقتصاد، ليمرض الناس، فتتكون مناعة القطيع. كانت الخطة تهدف بالأساس لحماية الاقتصاد المضطرب في ظل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ بدت الحكومة عاجزة أمام جائحة ستحدث مهما بذلنا من خطط لمواجهتها.

كان هدف التشاؤم هنا رفع الحرج والعبء عن تقاعس الحكومة، التي غيرت إستراتيجيتها قليلاً بعد إصابة أعداد كبيرة. ممارسة الضغط على الحكومة أيضًا كان عاملًا حاسمًا في إجبار الحكومة لاتخاذ بعض الإجراءات. في حالة أخرى خرج ترامب ليدعو الشعب الأمريكي للصلاة من أجل حماية الولايات المتحدة من هذا الفيروس، كذلك الحال في مصر أتى خطاب الرئيس المصري الأول عن الجائحة بتلاوة بعض الأدعية الدينية.

التشاؤم وادعاء البعد الميتافيزيقي مع الجائحة في ظاهره عجز وفي باطنه حيلة سياسية، لتعليق التقاعس على قوى خارجة عن حدودنا البشرية. لم يعد هناك ممكن تقديمه في مواجهة الجائحة، وهو بمثابة تنصل من الواجبات التي يمكن تقديمها وإظهاره بأنه عجز للبشرية وليس للنظم السياسية دخل. سعت هذه الحيلة لخفض سقف المطالبات الشعبية لاتخاذ إجراءات حاسمة.

تحجيم الخسارة وتعميق المكاسب

منذ 2014 تحاول الدولة المصرية بسط سيطرة مطلقة على الدين في الدولة، عمليات الإخضاع العنيفة تلك شملت دور العبادة. لم تفلح الدولة في إصدار قانون دور العبادة الموحد بصورته الأولى، التي كانت تشترط مساحة معينة، وتستثني الزوايا الصغيرة المنتشرة بطول القطر المصري وعرضه.

ضيقت الدولة على التيار السلفي المتحالف معها في دروسه وخطبه منذ مطلع عام 2016، لكنها لم تبسط نفوذها الكامل. استغلت الدولة الإغلاق في إجراءات علمنة، فعلى سبيل المثال منعت الزوايا من الآذان في بعض محافظاتها، كما صادرت مفاتيح المساجد وحذرت القائمين عليها من محاولة فتحها، من خلال جهاز الأمن الوطني.

هذا القرار يستهدف بالطبع إخضاع دور العبادة لقرارات لم تستطع إنفاذها الدولة، كما حالت دون استغلال التيار السلفي لها، حيث لجأ التيار لها بعد التضييق عليه في الجوامع الكبرى ومدارسه المنتشرة.

السمة الأهم التي تتسيد السياسة العالمية اليوم هي توسع دور الدولة، موجة استبداد وسيطرة تمارسها الدول، أكثر سلطوية حتى في ديموقراطيات العالم الغربي. وذلك من خلال إتاحة صلاحيات أكبر للسلطة التنفيذية متذرعة بحالة الاستثناء، كما حدث من تأميم القطاع الصحي في إسبانيا، وتفعيل ترامب قانون الدفاع الوطني.

وفي صراعهم مع الصين هناك موجة عنيفة من هروب الاستثمارات الأمريكية إلى الهند، ضربات يوجهها العالم الغربي للصين مصنع العالم الأول، تأتي الجائحة في سياق مأزوم تحاول جميع الأطراف استغلاله لتعميق المكاسب.

غواتيريش والإنسان الأخير

خرج الأمين العام للأم المتحدة متحدثًا بما يعني وإنْ منكم إلا واردها، الأسوأ لم يأت بعد! لم يكن إعلان غواتيريش التشاؤمي كبقية السياسيين، بل له مسار آخر خاص به.

بعد الحرب العالمية الثانية سعت المنظمات الدولية حسب أهدافها المعلنة إلى حفظ الأمن والسلم العالمي، ساهمت أيضًا في عولمة الديموقراطية الليبرالية كنموذج للحكم عالميًا. في وجه آخر كانت تلك المنظمات تساهم في حالة اللا حرب واللا سلم التي سيطرت على العالم، حالة من الاحتراب الأهلي العالمي كما يشير كارل شميت في كتابه «نظرية البارتيزان»، وبحسب المدرسة الواقعية فالمنظمات الدولية ليست سوى آليات للتوفيق المؤقت بين الدول، فلم تستطع إيجاد حالة السلم العالمية المنشودة.

جاء تصريح غواتيريش بعد فشل تلك المنظمات في خفض الحروب بعد 11 سبتمبر/ أيلول، وحالة الحرب الأهلية العالمية، التي ارتفعت وتيراتها بعد ثورات العقد الحالي، حيث وقفت تلك المؤسسات عاجزة أمام حالة الاحتراب تلك.

سعى غواتيريش من هذه التصريحات إلى وضع أسس جديدة لتقنين الحروب، حيث أصدر وثيقة لإعلان السلام العالمي وعقد هدنة عالمية في ظل الجائحة، وقعت على هذه الوثيقة سبعون دولة، كما دعا في ذات الخطاب إلى إعلان هدنة في كل من اليمن وسوريا والعراق وليبيا والعديد من الدول الأفريقية.

على اعتبار أن جيلنا أمام تهديد حقيقي، نهاية الجنس البشري، يحتاج منا لمزيد من التعقل. مزيد من اللبرلة، ودعوة إلى تقنين الحروب. لم تلقَ هذه الدعوة القبول عالميًا، بالقدر الذي كان غواتيريش يتوقعه، فأمريكا تصعد في العراق بشكل غير مسبوق منذ انسحاب القوات الأمريكية في 2011، وهدنة إدلب قاب قوسين وأن تُخرق، إلا أن هناك بادرة ما تلوح في الأفق بقبول السعودية لها في الملف اليمني.

الإنذار المبكر والديموقراطية الاجتماعية

كانت المستشارة الألمانية ميريكل أول المحذرين من انتشار الفيروس عالميًا قبل منظمة الصحة. توقعت إصابة 70% من شعبها خلال العامين المقبلين. جاء استشرافها طبقًا لبيانات وتحليلات دقيقة، ابتعدت في خضم إعلانها عن بث روح التشاؤم.

تنفق ألمانيا والسويد 11.1% من الإنفاق الحكومي على الصحة، فهي من أعلى الدول إنفاقًا على القطاع الصحي، كما تنهج تلك الدول أيديولوجيا الديموقراطية الاجتماعية، وهي حالة وسيطة بين الاشتراكية والرأسمالية. تتدخل الدولة بموجبها في قطاعات كالتعليم والصحة لتضمن توزيعًا قد يكون عادلًا لتلك الخدمات.

كذلك الحال كان في كوريا الجنوبية واليابان، اللتين اتخذتا إجراءات مبكرة جدًا حالت دون انتشار الفيروس، أما ألمانيا التي تأخرت قليلًا حققت نسبة شفاء تصل إلى 58% مقارنة بكوريا التي حققت نسبة 73%. كما حافظت ألمانيا على نسبة وفيات منخفضة نسبيًا (3%) مقارنة بدول العالم الأول التي جاءت نتائجها كارثية.

السويد حققت نسبة وفيات عالية، وذلك لبطء اتخاذها لإجراءات التباعد الاجتماعي، كما تأخرت في التوسع في إجراءات المسوح الطبية، مقارنة بألمانيا وكوريا الجنوبية، اللتين خدم إنفاقهما العالي على قطاع الصحة، والإنذار المبكر في السيطرة على تفشي الوباء.

الإنفاق الصحي المرتفع، والإنذار المبكر هما مسألة تتعلق بالسياسة، بقدرتها على التعامل الصحيح، وهما المخرج الوحيد لتلك الأزمات. أكدت حالة هذه الدول أن للفعل السياسي دور وليس العجز أو الدروشة التي ساقها عدد من الرؤساء، وهو درس عملي تقدمه الديموقراطية الاجتماعية اليوم.