المستشرقون الألمان والتصوف
انتشر الاهتمام بالتصوف في العصر الحالي بشكل لافت للنظر، سواء في مجال البحث في الجامعات أو الصحف والمجلات، أو الفنون المسموعة والمرئية، يستوي في ذلك الشرق والغرب، وإن كانت ثمة فوارق بين هذا الاهتمام هنا وهناك. بعض هذا الاهتمام مؤسس على معرفة وممارسة، أو تعرّف على الواقع ومدارسة لما كُتب عن التصوف في المصنفات القديمة والحديثة، وجزء من الاهتمام منبعث من أزمة عاناها البعض مما يُقال عن الإسلام، أو مما يظهر من ألوان التدين المعاصرة التي لا تظهر الإسلام في ثوب جمالي، ولا تبين عن الروحانية الكامنة فيه.
يمكن الإشارة بيُسرٍ إلى كثير من الكتابات الاستشراقية التي أدانت الإسلام وأهله، وكم من دراسة عربية وغربية ظهرت لتفنّد آراء المستشرقين وتوضح أخطاء هذه الكتابات، ولا تزال الدراسات للآن تصدر في هذا المضمار، كذلك اهتمّ بعض الكُتّاب من العرب بدراسات استشراقية صدرت عن الإسلام – وهي ليست مثل سابقتها في الكثرة – وشاعت في بلاد الإسلام الناطقة بالعربية، باعتبارها منصفة للإسلام وللنبي الكريم، وصُنّفت مؤلفات عربية اعتمدت بالأساس على شهادات غربية تصبّ في تبجيل هذا الدين الحنيف.
لم يعد الاستشراق على صورة واحدة، فهناك ألوان من الاهتمام تختلف تبعًا للمدرسة الاستشراقية، وتختلف بحسب الدارس وطبيعة المسألة التي يهتم بها، وأضحت الدراسات الاستشراقية لفروع الإسلاميات تتناول بالتفاصيل ما يتصل بالإسلام تاريخًا وبيئة وأفكارًا، فمن اللغة إلى القرآن ومن العقيدة إلى التصوف ومن السنة إلى التشيع ومن الأشعرية إلى الحنابلة، يتخصص المستشرقون في درس كافة التفاصيل التي تحويها العلوم الإسلامية.
ويحتل التصوف اليوم مكانة بارزة في الدرس الاستشراقي، أوسع وأغنى مما كان بالأمس، فمن يطالع المؤلفات العربية المدوّنة في التصوف في بدايات التأليف الأكاديمي يتعرّف على أسماء بعينها اهتمت بأفكار محددة أو جعلت محور اهتمامها شخصية معينة، فمصدرية التصوف كانت شاغلاً رئيسًا لأغلب الدارسين سواء منهم من حاول نزع الأصالة عن هذا العلم وردّه إلى مصادر خارجية مسيحية كانت أو يهودية أو هندية أو غير ذلك، ومعنى التصوف في حياة النبي وهل كان النبيّ متصوّفًا؟ كذلك ظهرت أسماء أعلام صوفية ظلّ الاهتمام بها مستمرًا دون غيرها كالحلاّج ورابعة والغزّالي والهروي الأنصاري والجيلاني وابن عربي وغيرهم من المشاهير، لكننا لم نقرأ عن كثيرين أثّروا في صوغ معالم التصوف وتطوير مسائله.
لم ينقل إلينا من المعارف الاستشراقية الألمانية عن التصوف سوى نزر يسير جاء عرضًا في كتابات جولد تسيهر، وبعض دراسات ترجمها عبد الرحمن بدوي، ومباحث قصيرة جاءت في ترجمات عبد الهادي أبو ريدة، كان الاهتمام أكثر بالمدرسة الإنجليزية والفرنسية، وليس بخاف على أغلب الدارسين ما كتبه نيكلسون عن التصوف وأعلامه وما حققه من تراث صوفي وما نقله عن اللغة العربية والفارسية، ولا عجب في ذلك فقد تتلمذ عليه أساتذة كبار تخصصوا فيما بعد في درس التصوف أو ترجماته، من أمثال صاحب الثورة الروحية في الإسلام (أبو العلا عفيفي) ورائد الدراسات الشرقية (عبد الوهاب عزّام). والحال نفسه مع شخصية استشراقية كبيرة شغلت دراساتها المعمقة الجمهور العربي من العراق إلى مصر ومن دمشق إلى تركيا، ولم يقتصر الاهتمام على ترجمة أعمالها بل ألّفت كُتب عنها، وأصبح (ماسنيون) موضوعًا للكتابة على مستوى شخصه ودراساته، فوجدنا كتبًا تصدر عن رسائله مع علماء المسلمين في عصره، ورسائله مع العلماء النصارى، ورحلته في بغداد ومصر، ويحتفى به في الجامعة المصرية وتصدر البحوث تكريمًا لذكراه.
سنركز في هذا المقال على موضوع التصوف واهتمام المستشرقين الألمان به، فأغلب ما طالعته من أوراق وكتب لا يولي كبير عناية لهذا الموضوع ويأتي عليه عرضًا في تناوله لفكرة كمصدرية التصوف، أو دراسة لشخصية صوفية كالحكيم الترمذي، أو لديوان من الشعر كتائية ابن الفارض، وغرض هذه المقالة هو التنبيه على أهمية الدراسات الألمانية للتصوف عسى أن يلتفت إليه أحد الباحثين الأكفاء ويقدّموا في هذا المجال ما يثري الدرس العربي.
اعتقد بعض المستشرقين الألمان [1] أن التّصوف تشويه لحقيقة الإسلام، أو بتعبير البعض حديثًا هو مجرد ترقيع وتجميل لتعاليم هي في الأساس صعبة وجافة تتناسب مع العقلية البدوية، ويعود التصوف الإسلامي في صلبه ومادته إلى الفكر والفلسفة الهندية وإلى أنماط التدين المتنوعة، وقد رأت المستشرقة أنّا ماري شيمل مثل هذه الأحكام طبيعية بالنسبة للمبشّرين البروتستانتيين ومتّسقة مع ثقافتهم، مضيفة أن الإلمام بتاريخ التّصوف أمر لم يكن شائعًا في الاستشراق الألماني المبكّر، وما حُقق من كتابات تراثية لم يكن يمثّل بعد المصادر الأصيلة للتصوف، وهو ما حال دون سبر أغوار التجربة الصوفية والوقوف عليها بشكل واضح.
رغم رأي أرنست ترمب [2] السلبي في التصوف الإسلامي، إلا أنه لم يكن مانعًا له من العناية بأعمال صوفي مسلم من السّند عاش في القرن الثامن عشر، فحقق ترمب الأعمال الشعرية لشاه عبد اللطيف [3]، وهي الأعمال التي ما زالت تستهوي أفئدة النّاس في مختلف البقاع في شبه القارة الهندية، قدّم ترمب بعض القصص الصوفي لشاه عبد اللطيف للقارئ الألماني، وإن لم يوفّق في حسن الاختيار نظرًا لعنايته باللغة أكثر من المعنى.
بفضل إجادة المستشرق هامر للغات الشرقية نقل للقارئ الألماني عن العربية والتركية والفارسية نصوصًا ساهمت في التّعرّف على التصوّف الإسلامي، فنشر لأبي حامد الغزّالي رسالة (أيّها الولد)، وترجم (التائية) لابن الفارض، ونقل عن الفارسية لمحمود الشبستري (كلشن راز)[4]، وتعد ترجمته لديوان حافظ الشيرازي إلى الألمانية من إسهاماته البارزة في هذا الحقل، وإن كان ممن يرون في حافظ شاعرًا ليس صوفيًّا على عكس المستشرق الفرنسي دي ساسي الذي رأى في حافظ صوفيًّا كبيرًا، ورغم نقد المستشرقين لترجمات هامر نقدًا عنيفًا جعل نيكلسون على سبيل المثال يرى أن من سوء حظّ ديوان ابن الفارض أن هامر هو من ترجمه، إلاّ أن أعمال هامر مهّدت السبيل لكثير من الدّارسين للتعرّف على روحانية الإسلام، ومن خلال إنتاجه الثريّ تمكّن المهتمون بالأدب الفارسي من مطالعة نصوص التصوف الفارسي والتأثر به في صياغة أشعارهم التي غلبت عليها الروح الشرقية، وممن شهد بالفضل لهامر الأديب الألماني جوته فقد مدحه وأثنى عليه أكثر من مرّة كونه السبب الرئيس في اطلاع جوته على كنوز الشرق، وإن لم يكن هامر معجبًا بأشعار جوته، فإنه أعجب بروكرت [5] الذي أفاد منه فيما بعد في أعماله وترجماتها التي قدّمها للجمهور الألماني.
من خلال اهتمام جورج ياكوب بدراسة علم أخلاق الشّعوب كتب عن الخمر والخمّارة الفارسية كما تبدو في أشعار حافظ الشيرازي، وفي سياق اهتمامه الكبير بالدّراسات التركية الذي جعل أنظار الألمان تتوجّه إلى هذا الحقل المعرفي عرّف القارئ الألماني بقصص وأشعار صوفية من الأدب التركي، وقدّم دراسة كانت الأولى في الألمانية عن (الطّريقة البكتاشية)[6]، افتتح بها درس التصوف الشعبي في ألمانيا، ومما يظهر اهتمامه بالأسس النظرية للتصوف الإسلامي ضمّه لكتاب ريشارد هارتمان البديع إلى المكتبة التركية في قالب واضح وسهل الفهم.
صرف فيشر أغلب جهوده إلى الدراسات اللغوية، التي عُرف شرقًا وغربًا من خلال إنتاجه في هذا الحقل، ورأى في التصوف أخطارًا ومزالق، ولم يلتفت إليه إلاّ من الوجهة اللغوية، لكنه كان يرجّح عبارات الصوفية على أقوال أهل الكلام، ومما وجّهه في خطابه إلى شيمل: «إن التصوّف أعظم جاذبية من العقائد وعلم الكلام، فهو يأخذ بلُبّ الإنسان أكثر منها، ومن المعتقد أن التصوف الفارسي سيمن على العالم بكثير من الهبات».
من خلال هذه الشذرات يتضح لنا أن للتصوف مكانًا كبيرًا في الدرس الاستشراقي الألماني.
[1] : تدين فكرة هذا المقال لما كتبته السيدة أنّا ماري شيمل من شذرات ومعلومات عن المستشرقين الألمان في تاريخها لحركة الاستشراق وفي رحلة حياتها شرقًا وغربًا.[2] : خصّت أنا ماري شيمل أرنست ترمب بورقة من تاريخ الاستشراق الألماني فتحدثت عنه وعن جهوده مركّزة على اهتمامه بالسّند وترجمته للكتاب المقدس للهندوس، وتحدثت عنه في رحلتها شرقًا وغربًا.[3] : هو الشاه عبد اللطيف البتائي السندي، ولد في 1102هـ/1689م، وتوفي في 1165هـ/1752، ونشأ في بيت صوفي، وعلى نهج الصوفية في اختيار العزلة والخلوة فترة من الزمن عاش، تأثر في كثير من أفكاره بمولانا جلال الدّين الرومي.[4] : كلشن راز هي منظومة صّوفية كانت سببًا في تخليد اسم صاحبها، ومن أفضل الشروحات لها شرح الشيخ اللاهيجي، وكانت وفاة الشبستري عام 720 ﻫ تقريبًا .[5] : اهتمت أنّا ماري شيمل بالأشعار الشرقية التي ترجمها ريكرت إلى الألمانية وبمناسبة مرور 175 عامًا على ميلاد الشاعر اعتنت بهذه الأشعار وأصدرتها في كتاب في دار كارل شينان بمدينة بريمن عام 1963، وقدّمت للكتاب بمقدمة ضافية. وبعد ثلاثة أعوام خصت شيمل في يناير 1966 في مجلة فكر وفن ريكرت بدراسة حملت عنوان: ورقة من تأريخ الاستشراق في ألمانيا، وفي يناير 1988 احتفت به مرة أخرى في هذه المجلة وكتبت عنه ورقة بعنوان: مرور مائتي عام على ميلاد أب الاستشراق الألماني. ومن العرب ممن احتفى بأشعاره وقدّمها وعالجها محمد عوني عبد الرؤوف من مصر في كتاب صدر له في عام 1974 عن الجمعية الأدبية المصرية، بخلاف مقالاته وبحوثه عنه في المجلات العربية، وخصّ فريد قطاط التونسي ترجمته للقرآن بمقال نُشر في مجلة الحياة الثقافية.[6] : الطريقة البكتاشية طريقة صوفية من أبرز الطرق التي ظهرت في أيام الدولة العثمانية وتنتسب الطريقة إلى حاج بكتاش ولي المولود 646هـ في خراسان، بدأ حاج بكتاش دعوته في الأناضول بعد أن انتقل إليها وأنشأ فيها خانقاه كانت له صلة كبيرة بالجند العثمانيين ورأى البعض أن الجيش الانكشاري قد أنشئ بمباركة هذا الوليّ، ولم يقتصر حضور البكتاشية على تركيا، بل انتقل إلى مصر، وكانت لهم فيها خانقاه ولا يزال للشيخ عبد المغاوري مقام في مصر وهو أحد مؤسسي الطريقة.