الانتخابات الألمانية: مستقبل المستشارة في مهب الريح
تشهد ألمانيا هذه الفترة حالة من الترقب الشديد للانتخابات البرلمانية القادمة، المُزمع عقدها في الـ 24 من سبتمبر/أيلول المقبل، والتي سيترتب عليها تشكيل حكومة جديدة ومن ثم انتخاب مستشارٍ جديدٍ للبلاد. وسيكون نحو 61.5 مليون ناخب ألماني على موعد مع تلك الانتخابات للاختيار من بين الأحزاب الألمانية ما يعتبرونه قادرًا على تمثيل مصالحهم والتصدي لكافة التحديات التي تواجهها ألمانيا.
ولعل أبرز الأحزاب السياسية في ألمانيا، والتي تمثل ثقلًا سياسيًا في الشارع الألماني، «الحزب الديموقراطي المسيحي» والمرشح عنه لشغل منصب رئيس الحكومة الألمانية هي المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل»، و«الحزب الديموقراطي الاشتراكي» المرشح عنه «مارتن شولتز»، وحزب «البديل من أجل ألمانيا» وهو الحزب اليميني الشعبوي الأول في ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية، والمناهض في توجهاته للمسلمين واللاجئين، وحزب «الخضر» المرشح عنه «جيم أوزديمير».
وفيما يخص الانتخابات المقبلة، أشار الكاتبان «كلير جرينستين» و«براندون تينسلي» في مقال نُشر في صحفية «فورين أفيرز» الأمريكية، إلى أن الانتخابات المقبلة ستكون أكثر إثارة من المعتاد، وأرجعا ذلك إلى سببين؛ السبب الأول، يرجع إلى الانتصارات الأخيرة التي حققها حزب «البديل من أجل ألمانيا» ونجاحه في استقطاب المجتمع الألماني وإثبات تواجده في انتخابات الولايات، الأمر الذي يجعل منه منافسًا قويًا لميركل وحزبها. أما السبب الثاني، فيتمثل في منافسة مارتن شولتز المرشح عن الحزب الديموقراطي الاشتراكي لأنجيلا ميركل، وهو الذي يعد المنافس الشرعي الأول لها على مدار العقد الماضي.
تفرد النموذج الألماني
تساءل الكاتبان جرينستين وتينسلي في مستهل مقالهما عن سر نجاح ألمانيا في أن تصبح رمزًا للديموقراطية، رغم ما عانته في سبيل توحيد شطريها ونضالها ضد الإرهاب منذ عام 1970. وكانت الإجابة على هذا التساؤل تتلخص في «المؤسسات»، فقد خرجت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية مُنهكة اقتصاديًا ونفسيًا وماديًا، ولهذا حاولت النخب الألمانية الوقوف على أخطاء الماضي والتعلم منها، لذا وضعوا نصب أعينهم ضرورة خلق هيكل سياسي يُجنبهم أخطاء الماضي، وذلك من أجل منع ألمانيا الغربية من العودة مرة أخرى إلى سياساتها النازية.
وفي سبيل ذلك عمدوا إلى تنفيذ مجموعة من القواعد التي من شأنها تعزيز الاعتدال والاتساق في السياسة الألمانية ولو بشكل جزئي، ووضعوا ركائز النظام الانتخابي الألماني في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام1949، والذي تم اعتماده دون إضافة تعديلات جوهرية بعد توحيد الألمانيتين عام 1990.
ويقوم النظام الانتخابي الألماني على مبدأ التمثيل النسبي، الذي يُفرز بدوره نظامًا تعدديًا، ففي ظل هذا النظام الانتخابي تُترجم نسبة الأصوات التي يحصل عليها كل حزب إلى مقاعد في البرلمان. إذ يمتلك كل ناخب ألماني بلغ سن الثامنة عشرة بموجب هذا النظام صوتين، الصوت الأول، يختار بواسطته مرشحه المباشر في دائرته الانتخابية وبهذا يتم انتخاب نصف أعضاء البرلمان، أما الصوت الثاني، فيمنحه الناخب لحزب ما دون اختيار نائب بعينه، وهذا الصوت هو الذي يحدد توزيع المقاعد البرلمانية على الأحزاب السياسية. وبعد الانتخابات البرلمانية، يصبح في منصب المستشار غالبا قائد الحزب صاحب الأصوات الأكثر.
وتجرى الانتخابات البرلمانية في ألمانيا كل أربع سنوات، والرئيس هو من يحدد وقت إجراء الانتخابات وذلك بالتشاور مع الحكومة الاتحادية وحكومات ولايات ألمانيا الـ 16،ويبلغ عدد الدوائر الانتخابية 299 دائرة، يجرى فيها انتخاب 598 نائبًا ولكن هذا العدد قابل للزيادة نظرًا للطبيعة المعقدة في توزيع أصوات الناخبين بالدوائر الانتخابية على المقاعد الفائزة.
التحديات الألمانية قبيل الانتخابات
تقع ألمانيا أسيرة تحديات داخلية وخارجية سيكون من شأنها التحكم في اختيارات الناخبين الألمان، فلعل القدرة على «مواجهة الإرهاب» تقف على رأس أولويات المواطنين الألمان نظرًا لما تشهده القارة الأوروبية من هجماتٍ إرهابيةٍ متكررة، الأمر الذي يمس قضية الأمن القومي لدى المواطنين، علاوةً على ذلك، فإن تردي مستوى العلاقات الألمانية التركية يعد متغيرًا شديد الأهمية بالنسبة للمواطنين وهو أيضًا ما سيلعب دورًا هامًا في انتقائهم لمرشحيهم، هذا إلى جانب قضية اللاجئين والرفض الشعبي المتزايد لسياسات ميركل الانفتاحية نحو طالبي اللجوء السياسي، وهو ما يجعله ملفًا شديدًا الحساسية، تلعب على أوتاره كافة الأحزاب الكبرى المتنافسة.
تدني مستوى العلاقات التركية الألمانية
ارتبطت ألمانيا وتركيا بعلاقات ذات جذور عميقة، إذ يتدفق الملايين من الألمان كل عام إلى الشواطئ التركية والمدن التاريخية، ويتواجد نحو سبعة آلاف شركة ألمانية على الأراضِي التركية، فضلاً عن ذلك، فإن حجم التجارة بين البلدين يبلغ سنويًا نحو 36 مليار دولار. ليس هذا فحسب، بل إن الأتراك في ألمانيا يمثلون أكبر أقلية عرقية، إذ تقدر أعدادهم بنحو 3.5 مليون مواطن متجنس وحامل تأشيرة مزدوجة.
ورغم ذلك واجهت تلك العلاقات رغم صلابتها حالة من التعثر نظرًا لتصاعد الحرب الكلامية بينهما حول القيم الديموقراطية، فقد وصلت العلاقة بين الحليفين إلى أدنى مستوياتها في أواخر يوليو/تموز الماضي، عندما احتجزت تركيا مجموعة من نشطاء حقوق الإنسان وكان من بينهم مواطن ألماني يُدعى «بيتر شتويدنر»، الأمر الذي اعتبرته «أنجيلا ميركل» تصرفا غير مبرر، وأعلنت بدورها عن «إعادة توجيه العلاقات بين البلدين»، وحذرت الشركات الألمانية في تركيا من عمل أي مشاريع أو ممارسة أي أعمال تجارية هناك، كما حذرت المسافرين الألمان من زيارة تركيا، وهو ما اعتبره الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» شكلا من أشكال الانتقام.
وفي تصعيدٍ آخر، دعا الرئيس التركي أردوغان، يوم الجمعة 18 أغسطس/آب الحالي، الأتراك القاطنين في ألمانيا إلى دعم الأحزاب السياسية غير المعادية لتركيا في الانتخابات التشريعية القادمة، وانتقد ميركل واتهم حزبها بمعاداة تركيا، وحث الناخبين الأتراك على عدم التصويت لـ «حزب الاتحاد المسيحي الديموقراطي» الذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، و«الحزب الديموقراطي الاشتراكي» و«حزب الخضر» الذي يتزعمه «جيم أوزديمير»، وهو من أصل تركي، ويُعد من أشد المنتقدين لأردوغان، معتبرًا إياهم بأنهم أعداء لتركيا.
وعلى إثر تلك التصريحات، ندد وزير الخارجية الألماني «زيغمار غابرييل» في نفس اليوم بتلك الدعوة واعتبرها «تدخلًا في الحملة الانتخابية»، كما استهجنت ميركل تلك التصريحات وعبرت عن رفضها لهذا التدخل مساء يوم الجمعة،خلال ظهور انتخابي لها بمدينة هيرفورد، قائلًة:
الإرهاب المتزايد
المسشارة الألمانية، في أعقاب الهجمات الإرهابية في إسبانيا
إثر الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها إسبانيا يوم الخميس الماضي، والتي أسفرت عن مقتل 13 شخصًا، توصلت ميركل لاتفاق مع الأحزاب الألمانية جميعها باستثناء حزب «البديل من أجل ألمانيا » على تخفيض الدعايا الانتخابية لمدة 48 ساعة، وحثت قادة الأحزاب على ضروروة احترام الأحزاب لبعضها البعض، والحرص على إجراء الانتخابات في أجواء هادئة.
ولعل الحادث الأخير في إسبانيا هو ما جعل ألمانيا قلقة بشأن تكرار تلك الهجمات لديها وخاصةً بالقرب من موعد الانتخابات المقبلة، إذ أصبح مرتبطًا في ذهن المواطن الأوروبي عامةً أن هناك ثمة علاقة تربط بين الهجمات الإرهابية وقرب موعد الانتخابات.
ففي إبريل الماضي وقبل موعد الانتخابات بثلاثة أيام شهدت فرنسا هجومًا إرهابيًا، ونفس الأمر حدث في إسبانيا عام 2004 قبل الاقتراع بثلاثة أيام عندما شهدت هجومًا إرهابيًا على قطارات ركاب مدريد والذي أسفر عنه مقتل نحو 192 شخصًا، ومؤخرًا الهجوم الإرهابي الذي شهدته لندن قبل موعد الانتخابات العامة في 8 يونيو/حزيران بأسبوع، لذا يبدو أن الهجوم الذي شهدته مدينة برشلونة الإسبانية الخميس الماضي، لن يكون الأخير في سلسلة الهجمات التي يشنها تنظيم «الدولة الإسلامية» على القارة العجوز وفق تحليل «آفي يسسخاروف» محلل الشئون السياسية بموقع «walla» العبري، الأمر الذي يجعل ألمانيا على مستوى الساسة والمواطنين يخشون من تكرر هذا السيناريو المؤسف.
ملف اللاجئين السوريين
كان لألمانيا دور بار.. في دعم اللاجئين السوريين الفاريين من ويلات الحرب في سوريا، ففي عام2012 و 2013، منحت ألمانيا نحو 440 مليون يورو للمساعدات التنموية والانسانية للأفراد الذين يعانون من الحرب في سوريا. وبلغ عدد اللاجئين السوريين في ألمانيا نحو 50 ألف لاجئ في العام 2013، وفقًا لإحصاءات الفرع الألماني لمنظمة العفو الدولية، وظلت طلبات اللجوء في ألمانيا تتزايد على نحو مستمر حتى وصلت إلى 203 آلاف طلب حتى يونيو/حزيران 2015 .
لعبت ألمانيا دور القائد بين دول الاتحاد الأوروبي في مسألة اللاجئين، وتبنت المستشارة الألمانية سياسة الباب المفتوح تجاه اللاجئين وطالبت الدول الأوروبية باستقبال مزيد من اللاجئين السوريين للمساهمة في حل الأزمة.
وكان كلما حدث هجوم ارهابي خرجت ميركل للدفاع عن سياستها؛ فبعد الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له ألمانيا في أواخر يوليو/تموز 2016، استماتت ميركل في الدفاع عن سياسة الباب المفتوح وأكدت أنه لا علاقة للعمل الإرهابي بتزايد أعداد اللاجئين السوريين، وأنه لا استعداد لديها لتقليل تدفق الآلاف من المهاجرين واللاجئين إلى ألمانيا.
ولكن غالبًا ما يتحرر الساسة من المبادئ إذا كانت المصلحة غير مواتية، ففي بدايات عام 2017، أظهر استطلاع للرأي، أن نحو 40% من الألمان يريدون من ميركل الإقلاع عن سياساتها تجاه اللاجئين، وأكدوا عدم رضاهم تجاه الموقف الترحيبي للمستشارة الألمانية نحو طالبي اللجوء من الشرق الأوسط وأفريقيا، خاصة بعد وصول حوالى 1.1 مليون لاجئ إلى البلاد فى العام الماضى.
ولأن موعد الانتخابات البرلمانية التي سيفضي عنها انتخاب مستشار جديد للبلاد قد اقترب، فإن المصلحة تقتضي التخلي عن المبدأ ولو جزئيًا، وخاصة وأن حزب «البديل من أجل المانيا» يستغل ملف اللاجئين كنقطة ضعف لدى ميركل في حملته الانتخابية، لهذا تعهدت ميركل بتخفيض عدد اللاجئين هذا العام بمساعدة شركاء دوليين كتركيا، وبالفعل أبرمت اتفاقًا مع ائتلافها من اليسار في مواجهة اليمين المتطرف في سبيلٍ لتشديد سياسات اللجوء وبالأخص تجاه القادمين من شمال أفريقيا.
الخلاصة، أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل واقعة وسط تحديات كبرى، يحاول استغلالها خصومها السياسيون في الداخل، فتُرى هل ستنجح ميركل في الظفر بولاية رابعة، أم أن تلك التحديات ستطيح بها أرضًا؟