جورجيت — قصة قصيرة
(1)
بقيت جالسة في كرسيها عند دخول زوجها خليل من الباب. لم تتحرك عضلات وجهها وكأنّ العضلات الرقيقة، تعلن تضامنها مع صاحبتها. في الماضي ليس البعيد، مجرد سماع مفتاحه يدور في القفل كان يدفعها إلى ترك ما تفعل والذهاب إليه أو حتّى الركض، لاستقبال تلك القامة المهيبة والوجه الوسيم، وكان دائمًا ما يحتضنها ويطبع قبلة حنونًا على أقرب جزء منها إليه.
وضع طربوشه على المنضدة القريبة من الباب، لمحها بطرف عينه جالسة في مقعدها دون حراك، نزع وشاحه ومعطفه وعلّقهما على المشجب تحت السلم. كان أنيقًا وبقي أنيقًا بل وازدادت وسامته مع تقدمه بالعمر.
لم يلق السلام عليها، بل جلس على أقرب مقعد منها، فتح أزرار معطفه الرمادي واسترخى سائلًا:
– كيف حالك اليوم؟
– الحمد لله.
انتصب في مقعده في حركة مفاجئة، ونظر إليها:
– ما بك؟ ما بك؟ لسنا أول الناس ولا آخرهم، يمر الناس بأزمات في حياتهم. أنا لا أفهم رد فعلك أبدًا جورجيت، أبدًا. تحوّلين حياتنا إلى جحيم وكأن حنّا قد تحوّل إلى غريب، هو المريض، ابنك هو المريض وليس أنتِ.
صوته يعلو وينخفض، ينفعل فيعلو ثم يفطن إلى وجود الأولاد في الأعلى فيُخفِّضه.
نزلت دموعها اليوم أيضًا مثلما نزلت كل يوم في الشهور الأخيرة.
– حنّا يقطع قلبي، أنا الأمّ الغريبة، أنا العاجزة عن مساعدته، فأنا لا أستطيع، لا أستطيع، وأنت أيضًا يا خليل.
– قد أفهم الحزن، لكني لا أفهم الغضب.
هو أيضًا غضب من القهر والعجز، عندما شرح لهما الطبيب حالة ابنهما البكر حنّا، أجمل طفل في الطالبية وابن خليل إسكندر، زينة شباب القدس، صاحب المطبعة وصاحب الكلمة بين أهلها.
(2)
وُلد حنّا وهو يحمل مشروع نجاح، خطة محكمة، برعاية خليل وتنفيذ جورجيت، أن يكون حنّا علمًا آخر من أعلام العائلة، بخاصة أنهم رُزقوا من بعده ببنات دون صبيان، فحرصوا على تعليمه وتربيته على آخر طراز، كان من المفروض أن يكون حنّا الآن في كامبردج أو أكسفورد. لاحظ خليل تأخرًا في نمو ابنه، لم تطل قامته ولم ينبت شاربه، ظل يراقبه عامًا ونصف دون تغيير، في ذات الوقت نضجت منى وزهرة لتشبها أباهما طولًا ووسامًة. يوم فاتح جورجيت بالموضوع أول مرة، جفلت وخافت، فقد رأت ولم تعرف ولاحظت ولم تُدرِك وشكّت ولم تصدق.
منذ حداثته وخليل صاحب شأن ورأي، أسّس مطبعة صغيرة وكبّرها وحوّلها إلى أهم مطابع القدس، بل وتُنافس مطابع يافا. وفرة المال والكرم والعقل فتحت له أبواب أهل القدس وقلوبهم. وتعفّفه عن أبواب الإنجليز المفتوحة لمن مثله، رفعت من شأنه بين الناس. تزوج جورجيت وهو في الخامسة والعشرين، قريبة أمه من بعيد، ولم تمض سنة حتى وُلد حنّا ومن بعده البنات تباعًا.
عندما أخذ حنّا للفحص، لم يكن في خياله أن يبشّره الطبيب بشرى سوء. أخذه ليطمئن ولتطمئن جورجيت. فعادا منهكين من الهمّ والغمّ، لم يعد ولدهما معهما، عاد معهما شخص آخر. فحصه الطبيب فحصًا مفصلًا وأخرج كتبًا من خزانته، وقرأ وعاد وفحصه وقام وقعد. ثم قال وهو يرمق خليل بعينيه ويشير إلى جورجيت:
– ألا تنتظر عمي حنّا خارج الغرفة لبعض الوقت؟
استجاب خليل سريعًا فقال:
– أمّ حنّا انتظريني وحنّا في الخارج.
لم تقل «لا» لخليل أبدًا. في أثناء الفحص، امتلأت قلقًا وخوفًا، لا تحتاج إلى ذكاء، فهمت ما فهم خليل أن شيئًا سيئًا سيحدث فهربت إلى خارج الغرفة برفقة حنّا.
غضبت مع مرور الوقت، بعد رجوعهم من عيادة الطبيب، لم تغضب ولم تحزن عندما شرح لها خليل بالتفصيل ما فهمه هو عن حالة حنّا، هو لم يخبرها بما لدى ابنها بل أخبرها بما ليس لديه وعمّا لن يكون لديه. خافت، اعتراها خوف شديد على حنّا وخليل والبنات وعلى نفسها. سألت خليل يومها:
– هل سيموت؟ هل سيموت صغيرًا؟
– جورجيت! لا سمح الله، ماذا تقولين؟
لا تعرف لماذا سـألت ما سـألت، سؤال آخر:
– هل أخطأنا؟ هل أسأنا في تربيته؟ أكله؟ شربه؟ نظافته؟ صحته؟
– لا تستمري بهذا الكلام.
سؤال آخر:
– هل آذينا أحدًا؟ هل أضررت بأحد يا خليل؟
– توقفي جورجيت!
– لا؟ لا؟ ألم نفعل شيئًا؟
(3)
غضبت بالتدريج، مع تراكم الأسئلة دون إجابات. توتّر الجوّ في البيت، باتت الأربعين قريبة، وحملها الأخير كان قبل سبع سنوات وأجهضت ولم تحمل بعدها. لم تفكر بالأمر من قبل، استمرت هانئة بحياتها الوديعة، لكن مرض حنّا أو حنّـا نفسه أثار فيها كل ما لم تفكر فيه من قبل، وغدت الحياة صعبة لا تحتمل.
لم يجدوا إجابات، جاب خليل البلاد وسافر بحنّـا إلى القاهرة وكل مرة يعود كما ذهب. لجـأ إلى العطّارين، شاركته في البداية بتحضير الوصفات وإقناع حنـّا بابتلاعها ثم كفّت عن هذا. يئست واحتلها غضب ومرارة وسخرية. تحوّلت إلى امرأة سوداء، لم يتذمر خليل إلّا قليلًا، في حال شهد موقف شدّة لا مبرّر له مع البنات أو حتى مع حنًا. أدخل أخاه مراد في الصورة، فقد كبر في بيتهما وله معزّة عند جورجيت، ولكنها غضبت وحلفت على كليهما ألّا يتحدثا في الأمر مع أحد.
كانت خائفة، خائفة أن تفقد حنّا أو أن يتركها خليل وأن تتعثر البنات في الزواج، فهي نفسها لم تعد مقتنعة بصورة عائلتها التي رسمتها. أمّا خليل فتجاوز الأمر سريعًا وقرّر أن يحارب على مستقبل حنّا كما أراده، ستكون أسرة وسيكون حنًا وسيكون له أحفاد من بناته ولن تنقطع سلالته ولا لن يترك جورجيت لامرأة أخرى… تحمّلها، اقتنع أن ألمها أكبر من ألمه وأنه سيصبر.
(4)
دقّ الباب، فسمعوا مباشرةً صوت أقدام مهرولة على الدرج وزهرة تصرخ في لهفة:
– سأفتح للأستاذ زكي.
فقال أبوها في صوت صارم:
– أنا من سيفتح له، اذهبي واستعدّي للدرس.
مشت زهرة بهدوء نحو الصالة، وتقدّم السيد خليل ليفتح الباب لأستاذ البيانو. دخل من الباب شاب طويل القامة ضعيف البنية يرتدي بدلة تكبره بمقاس أو باثنين. دخل وبادر خليل بالسؤال:
– وصلت أخبار جديدة أبو حنّا؟
– لا أعرف غير أن الأمور شديدة على المحاصرين في يعبد، الله يستر. ما في اليد حيلة يا زكي، ما في اليد حيلة.
ثم مستدركًا عندما انتبه إلى لون وجه زكي الشاحب:
– أتريد أن نلغي درس زهرة إذا كنت تعبًا؟
– لست تعبّا أبو حنّا، لكن هذا هم كبير، كبير… سيقتلون الشيخ.
أطرق أبو حنّا ولم يجد بما يجيب الشاب القلق أمامه، هو أيضًا قلق ولولا هموم لما تدارك هموم.
أشار إلى غرفة استقبال الضيوف حيث يقبع في الصدر منها بيانو ضخم، وصلهم منذ بضعة أشهر، إرضاءً لزهرة التي برعت بالعزف المدرسي وألحّت عليه أن يقتني واحدًا للبيت كي تتمرّن عليه.
عاد إلى مقعده قبالة جورجيت متعبًا أكثر من ذي قبل، يلفّه قلق على المستقبل كله. تتأزّم الأمور أمام حكومة الانتداب والبلد تتبدّل أمام أعينهم. في اجتماع الوجهاء الأخير، دعوا إلى التصدّي للحكومة. خرج مُثقلًا بهم من هذا اللقاء، لم يتحدث كثيرًا، أدار رأسه بين وجوه الحاضرين، لم يرتب بحماسة أو بصدق أي منهم لكنه لم يطمئن، لم يحدّد لماذا، وتعاظم قلقه وزادت ريبته كلما طال الحديث، كان ينقصه شيء ما. تداول العمّال في المطبعة أخبار ملاحقة الشيخ عز الدين، وإشفاق الناس مما هو آت، ولم يطب خاطره لحظة، ما الذي يريده الإنجليز منهم؟ وما الذي يريدونه للقدس؟
(5)
في الطريق من المطبعة إلى بيته في الطالبية، حملته ريح باردة على العجلة، فشد معطفه على جسده وأسرع الخطى حتى وصل أول الحي، أحبّ مشهد البيوت يلوّنها رذاذ خفيف من المطر.
جورجيت في انتظاره… لا لم تعد تنتظره… وعندما تذكّر أبطأ من مشيته.
طُرق الباب مرة أخرى، هذه المرَة ركض حنّا من فوق بمرحه المألوف.
– أنا سأفتح.
فلم يتحرك خليل ولا جورجيت من مكانهما.
– عمّي مراد!
بعد لحظة ألقى مراد التحية عليهما مُشيرًا إليهما بعدم الوقوف، وقف حنّا بقربه وقد تجهّم وجهه هو الآخر تعاطفًا مع عمه الأستاذ مراد، العامل في قسم اللغة العربية في هيئة الإذاعة.
– في وجهك أخبار.
لمح خليل الأستاذ زكي يقف عند الباب، يطل بنصف جسد.
– وصلت أخبار سيئة من الشمال.
– قل…
– استشهد الشيخ وسقط معه ناس واعتقل آخرون… إني أغلي من الداخل يا خليل، هذا كثير.
همست جورجيت:
– حرب؟
فرد مراد:
– منْ يُحارِب منْ؟ ربما يستيقظ الناس.
– لن يفعلوا… لن يفعلوا…
كرّر خليل، ما هو الشيء الذي ينقصه في المشهد، هم يسمعون من الأخبار ما يكفي كي يخافوا ويرون في الشوارع ما يكفي كي يقلقوا، هذا الصدام ليس الأول وليس الأخير. فتور وضعف، فما الذي يجري؟ عادت الموسيقى ترتفع من غرفة الاستقبال.
جلس مراد على المقعد قرب خليل. فنهضت جورجيت:
– سأعدّ لكما القهوة وللأستاذ زكي.
وقف نظرها على حنّا، وهو يقترب ليجلس مع أبيه وعمّه، فالتفتت نحو خليل وخاطبته:
– أتعرف أنّ حنّا لا يشمّ؟ ستة عشرة عامّا من عمره وهو لا يشمّ. أكنت تعرف؟ لاحظت؟ لن يشمّ القهوة التي سأعدها الآن، هو لا يشمّ طعامي ولا يشمّ عطرك، هو لا يشمّ رائحة بيتنا في الشتاء ولا يشمّ الأعياد. هو لا يشمّ الورد ولا يشمّ رائحة السوق. هو لا يشمّ رائحة طفل صغير، هل شممت مرة رائحة طفل رضيع يا خليل؟ هي أقرب روائح الجنة إلينا. حنّا لا يشمّ، وأنا أعرف هذا منذ زمن، ولم أهتم لأنني لم أفهم ما معنى ألّا يشمّ الإنسان. لكن الشمّ مهم، هو ما يربطك بالدنيا، هو طعمها أيضًا، الحلو والمر. هو رسالة الأشياء من حولك، الروائح لا تستأذن لتدخل أنفك ثم عقلك وقلبك. تفرض نفسها إلّا إذا كنت لا تشمّ مثل حنّا.
– جورجيت ما بالك؟ يكفي الآن.
نظر باتجاه ابنه مُشفقًا فحوّلت وجهها نحوه أيضًا مرورًا بوجه مراد، توقف العزف من داخل الغرفة.
– لكن حنّا أيضًا لا يشمّ رائحة العفن، ولا يشمّ رائحة بيض فاسد ولا حوض ماء آسن، ليس بالأمر السيئ. لكنه يا أخي مراد، لا يشمّ رائحة حريق، ولا طلق بارود، ولا دم يسيل، فلن يستطيع الهرب مبكّرًا في حال الخطر.
حوّلت ظهرها لهم جميعًا وسارت باتجاه مطبخها، يبتعد صوتها وكأنها لا تبالي إذا سمعوا أم لم يسمعوا.
– أنتم أيضًا في اجتماعاتكم، تسمعون بعضكم البعض، ترون ما تريدون أن تروا. تقفلون آذانكم عمّا يجري حولكم، تغمضون عيونكم عن البلد. لأنكم أيضًا لا تشمّون، لا تشمّون فتبقون في أماكنكم، لا تهربون ولا تهجمون.
عاد صوت البيانو يعزف لحنًا غربيًا مُكرّرًا، فأمسك مراد بيد حنّا وقبّل رأسه برفق. وأسند خليل رأسه إلى الخلف مُغمضًا عينيه. تسلّل إلى أنفه خليط من الروائح القوية، فأسكتت الروائح عزف زهرة. داخ رأسه وشعر بوهن شديد، لم يستطع أن يُميِّز الروائح من بعضها، لكنها اختلطت بأصوات وصور من أزمنة مختلفة: بيت أهله داخل السور… واليوم الأول للمطبعة… جورجيت عروسًا… ولادة حنًا… سقوط القدس ونهاية الحرب… دخول الإنجليز… دخول الجنود… البيت الجديد في الطالبية… ولادة البنات… عام 1929… المنشور الأول… استشهاد إبراهيم عامل المطبعة.
سمع صوت الأستاذ زكي يحيّيهم قبل رحيله، ودخلت زهرة الغرفة بحذر، حاملة بضع أوراق مبعثرة، ناولتها لمراد.
حنَا يكتب الشعر يا عمي، يكتب شعرًا جميلًا، يصف فيه بيتنا والطالبية، وزيارات بيت جدّي داخل السور، والعيد. وقد كتب قصيدة لك وقصيدة لأبي وأخرى لأمي.
دخلت جورجيت حاملة القهوة. فاستطردت زهرة تقرأ من الورق: