جورج سوروس: بحثًا عن عالم ليبرالي
السابع والعشرين من يناير/كانون الأول 2018 تبدأ الإعلامية «أماني الخياط» حلقة جديدة من برنامجها «بين السطور» على قناة OnTV ضمن سلسلتها عن حروب الجيل الرابع والخامس والخطط والمؤامرات التي تُحاك ضد مصر والشرق الأوسط.
شخصية تلك الحلقة تبدو مهمة للغاية. ملياردير أمريكي من أصول مجرية يُدعى «جورج سوروس» تزعم الخياط أنه الرأس المدبر لثورات الربيع العربي ومن قبلها الثورات الملونة في شرق أوروبا، وهو الممول الأكبر لخطط هدم الشرق الأوسط، وتفتيته وتحويله لدويلات صغيرة فاشلة من أجل إخضاع شعوبها.
يبدو كلام الإعلامية رطانة اعتادت تكرراها في كل حلقاتها، ولكن الأمر مختلف تلك المرة. إذا بحثنا عن جورج سوروس في محركات البحث في الويب العربي، فسنجده يؤكد ما قالته الخياط، بل سيزيد عليه القول، فهو ذلك الماسوني المخرب الذي حطم بريطانيا وآسيا، وموَّل ثورات الربيع العربي، ودعم الإخوان والجماعات الإرهابية في الوطن العربي من أجل تفكيك دوله وإحلال الفوضى به، وهو الذي اجتمع الحلفاء والخصوم على كرهه وعدواته، فهو العدو المشترك لترامب و نتنياهو وأردوغان والسيسي.
في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطابًا عرَّج فيه على أحداث ميدان تقسيم الشهيرة في 2013. زعم أردوغان أن شخصًا واحدًا حرك المتظاهرين وموَّل احتجاجاتهم من أجل أجندته السياسية، ليس هو فتح الله جولن أو كيليتشدار أوغلو:
لا تتوقف حدود العداء لسوروس وحياكة نظريات المؤامرة حوله عند مصر أو تركيا، بل لا في حدود الشرق الأوسط، وإنما يمتد الأمر إلى أبعد من ذلك؛ أوروبا والولايات المتحدة.
في بريطانيا، حيث لا تمر الأيام إلا وتزداد أزمة البريكست تعقيدًا، نشرت صحيفة «التليجراف» المقربة من دوائر المحافظين واليمينيين على صفحتها الأولى في فبراير/شباط من العام الماضي تقريرًا عن مؤامرة خفية يقودها جورج سوروس للتأثير على الرأي العام البريطاني في اتجاه عقد استفتاء جديد ضد قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي.
في المجر، مسقط رأس الرجل، لم تتوقف لعبة القط والفأر. أوربان، رئيس الحكومة المعادي للهيمنة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، منزعج من نشاط الملياردير الأمريكي. قرَّر أوربان أن يغلق أبواب جامعة سوروس المسمَّاة «جامعة أوروبا الوسطى». إذا أردت أن تحمي بلادك من صندوق النقد، فعليك أن تحمي عقول شبابها أولًا من الأفكار الليبرالية الخبيثة، هكذا رأى أوربان الأمر؛ بينما رآه سوروس وشبابه الطريق الأسهل إلى السلطوية.
هذا الرجل نفسه هو من اختارته «فاينانشيال تايمز» شخصية العام 2018. الصحيفة العريقة رأت أن الرجل الذي أنفق معظم ثروته على منظمات المجتمع المدني بوصفه حامل لواء الديمقراطية الليبرالية على عاتقه وسط حصار الشعبويين. سوروس أيضًا هو الملياردير القريب من دوائر الحزب الديمقراطي وأحد أكبر ممولي الحزب وأجندته وبرامجه في الولايات المتحدة والعالم.
يهودي في عصر هتلر
ولد جورج شوارتز، جورج سوروس لاحقًا، في العاصمة المجرية بودابست عام 1930 لأسرة يهودية لم تكن متدينة كأغلب العائلات اليهودية الميسورة الحال في ذلك الوقت بالمجر، ولكن تيفادار والد جورج قام بتغيير اسم العائلة من شوارتز إلى سوروس عام 1936 لتجنب موجة التمييز ضد اليهود التي انتشرت في المجر حينذاك.
عاش سوروس طفولة هادئة حتى الحرب العالمية الثانية عندما اجتاح النازيون المجر، لتضطر عائلة سوروس إلى تزوير أوراق هويتها وانتحال هويات مسيحية للهرب من بطش النازيين باليهود.
دارت رحى الحرب في بودابست بين القوات النازية والسوفيتية التي انتصرت في نهاية المطاف، لتقع المجر في قبضتهم، ولكن بودابست قد حل بها الخراب والدمار، وباتت مدينة تسكنها الأشباح، وقررت أسرة سوروس الهجرة إلى بريطانيا عام 1947.
بدأ سوروس حياته في لندن بالتقدم إلى كلية لندن للاقتصاد، وهناك تعرَّف سوروس إلى معلمه كارل بوبر وتشكلت بينهما علاقة وطيدة سيكون لها بالغ الأثر في حياة سوروس بعد ذلك. تخرج سوروس في الكلية منها عام 1951، وحصل على درجة الماجستير في علوم الفلسفة عام 1954.
الرجل الذي كسر بنك إنجلترا
بعد تخرجه في كلية الاقتصاد، عمل سوروس كموظف في أحد البنوك البريطانية، ثم انتقل للعيش في الولايات المتحدة عام 1956، وعمل في مجال الأوراق المالية/البورصة. على مدى أكثر من 10 سنوات أمضاها سوروس بين شركات منطقة وول ستريت، استطاع أن يكتسب شهرة واسعة نظرًا لبراعته وتفوقه في عمله، لينتقل بعدها للعمل نائبًا لرئيس شركة «Arnhold» and «S. Bleichroeder».
أسس سوروس في أواخر الستينيات صندوق التحوط (hedge fund) «النسر المزدوج» لحساب الشركة التي يعمل بها برأس مال قدره 4 ملايين دولار، منها 250.000 دولار من ماله الشخصي. لكن الأموال الطائلة التي ربحها الصندوق بفضل مهارة سوروس شجَّعته على الاستقالة لبدء طموحه الشخصي عبر تأسيس صندوق التحوط «كوانتم» الذي بات واحدًا من أنجح صناديق التحوط في العالم عام 1992 عندما جمع هذا الصندوق أرباحًا قياسية قدرت بمليار دولار، متسببًا في انهيار بنك إنجلترا فيما عرف بعد باسم «الأربعاء الأسود».
راهن سوروس على عدم قدرة البنك المركزي البريطاني على تثبيت سعر صرف الجنيه الاسترليني أمام المارك الألماني لتنسحب بريطانيا من اتفاقية سعر الصرف الأوروبي الموحد، وهو ما تحقق بالفعل ليجني سوروس تلك الأموال الطائلة في يوم واحد ويصبح الرجل الأول في العالم في سوق الأوراق المالية.
تقدر ثروة سوروس الحالية بنحو 8 مليارات دولار ، ويحتل المرتبة الستين في قائمة فوربس لأغنى 400 رجل في العالم، ويقدر مجموع ما كسبه سوروس من أرباح في حياته بنحو 32 مليار دولار، أنفق منها ما يقدر بـ 18 مليار دولار على أعماله الخيرية ومنظمته «المجتمع المفتوح» ليصبح واحدًا من أهم الفاعلين السياسيين المؤثرين في العالم.
تلميذ بوبر المخلص
كان الفيلسوف النمساوي الشهير كارل بوبر يعمل أستاذًا للفلسفة في مدرسة لندن للاقتصاد. عندما دخلها عام 1947، كان بوبر قد انتهى لتوه من نشر كتابه الأهم والأشهر «المجتمع المفتوح وأعداؤه»؛ ذلك الكتاب الذي سيصبح فيما بعد أحد أهم النصوص التأسيسية للديمقراطية الليبرالية الغربية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
في كتابه حاول بوبر تفكيك الأسس الفلسفية التي تقوم عليها الفاشية والشيوعية التي رآها تتلخص في افتراض «حتمية تاريخية» ما، وقد استلهم بوبر من فلسفته في العلم مبدأ عدم اليقين ليبرهن على عدم عصمة البشر وعدم امتلاكه للحقيقة والمعرفة الكاملة التي لا يستطيعون إدراكها، ولذلك فإن العقائد الشيوعية والفاشية التي تزعم تأكيدها للحقيقة لا يمكنها تحقيق أفكارها بسوى مصادرة حريات الناس واضطهادهم وقمعهم بالقوة والإكراه، وكل المجتمعات التي تحكم بهذه الطريقة يسميها بوبر «المجتمع المغلق».
ضد ذلك، يدعو بوبر لما يسميه «المجتمع المفتوح» حيث يسمح لكل الناس بالبحث النقدي عن الحقيقة بلا مقدسات متوهمة، ويضمن لهم أعظم درجة ممكنة من حرية التفكير والتعبير، وأن يجد كل فرد قيمه وقناعته الخاصة في نظرته للعالم، في ظل مؤسسات تضمن لهم جميعًا التعايش بسلام وأمان واستيعاب أفكارهم المختلفة وتمثيل مصالحهم المتنوعة.
تأثر سوروس عميقًا بأفكار بوبر، وكتب مئات المقالات والمحاضرات وألف ما يقرب من 14 كتابًا لطرح أفكاره وتصوراته عن الليبرالية الديمقراطية وقيمها الكبرى، كحكم القانون والمؤسسية والفصل بين السلطات … وحرية الأسواق.
المجتمع المفتوح
جورج سوروس
بدأ سوروس أنشطته السياسية والخيرية عام 1979، بإنشاء مبادرة لتقديم المنح الدراسية للطلاب السود في جنوب أفريقيا الذين عانوا من نظام الفصل العنصري، ولكن اهتمام سورس الأكبر كان منصبًا على دول أوروبا الشرقية الخاضعة لسيطرة الاتحاد السوفيتي حيث كان سوروس وبوبر يعتقدان أن هذه المجتمعات هي النماذج الأكثر تعبيرًا عن المجتمعات المغلقة.
وقَّع سوروس عقدًا مع الأكاديمية المجرية للعلوم لتقديم المنح الدراسية لطلاب الأكاديمية، وبعدها افتتح سورس عشرات المكاتب في تشيكوسلوفاكيا وبولندا وبلغاريا، ومدَّ أنشطته لتشمل تقديم المساعدات المالية للمسارح والمكتبات والمدارس والناشطين السياسيين (للمفارقة، كان فيكتور أوربان واحدًا من الذين استفادوا من منح سوروس).
يقول سورس في كتابه «فتح النظام السوفيتي» (Opening the Soviet System) إنه يعتقد أنه ساعد في «هدم احتكار العقيدة في المجر من خلال توفير مصدر تمويلٍ بديلٍ، للأنشطة الثقافية والاجتماعية، الأمر الذي لعب دورًا حاسمًا في إحداث الانهيار الداخلي للشيوعية».
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي نشر سوروس كتابًا جديدًا بعنوان «ديمقراطية الاكتتاب» (Underwriting Democracy)، أشاد فيه بـ «مشروع مارشال» الذي ساعدت فيه الولايات المتحدة أوروبا على إعادة التعمير والبناء الاقتصادي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مؤكدًا ضرورة أن تستلهم الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ذلك النموذج مرة أخرى، وأن يقدموا المنح والمساعدات المالية الهائلة لدول أوروبا الشرقية ويعملوا على دمجها في السوق الأوروبية المشتركة وعلى تعزيز الروابط التعليمية والثقافية من أجل نشر قيم الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية في تلك الدول.
أعلن سوروس أنه سيكرس ثروته من أجل تلك الأهداف، فقام بإنشاء منظمة «المجتمع المفتوح» لينطلق سوروس من خلالها في نشر أفكاره وقيمه في أوروبا الشرقية والعالم بأكمله، حيث أنفق سوروس ما يقرب من 18 مليارًا منذ تأسيس المنظمة في برامج نشر الديمقراطية وتطوير التعليم والصحة ودمج المهاجرين، كما موَّل عديد المراصد الحقوقية ومنظمات العدالة وحماية حقوق الأقليات الدينية والعرقية والمثليين. ومن أبرز المنظمات التي يمولها سوروس منظمة «هيومان رايتس ووتش» و«الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية».
أزمة المجتمع المفتوح
يمثل جورج سوروس حالة غريبة ضمن طبقة أصحاب المليارات والثروات الطائلة الذين يتهرب معظمهم من المشاركة في الحياة المدنية أو يكتفي بعضهم بالمشاركة في بعض الأعمال الخيرية ودفع المال السياسي من أجل المصالح الشخصية الضيقة.
إننا إزاء مثقف حقيقي من طبقة رجال الأعمال، أنفق معظم ثروته في سبيل ما يعتقده من قيم وأفكار سادت في أوروبا والولايات المتحدة لعقود من الزمن. تخيل بعض المفكرين أن تلك الأفكار هي نهاية التاريخ، ثم ما لبثت أن انهارت تلك الأحلام سريعًا، واستفاقت على صعود تيارات اليمين المتطرف والشعبوية السياسية في المعاقل الكبرى لنظم الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة وأوروبا، وتمكن هذه التيارات من تحقيق انتصارات سياسية بحجم فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
والحق أن سوروس نفسه كان من أوائل المثقفين الذين استشرفوا هذه الأزمة وبحثوا عن جذورها منذ تسعينيات القرن الماضي عندما ألَّف كتابه «أزمة العولمة الرأسمالية: المجتمع المفتوح في خطر» الذي حذَّر فيه من خطر العولمة المفرطة والأصولية السوقية التي تضرُّ مجتمعاتها عبر القوانين التي تسمح بنقل رأس المال إلى أي مكان في العالم للهروب من الضرائب أو البحث عن أيادٍ عاملة رخيصة، وممارسات الإقراض الدولية غير السليمة التي تهدد استقرار الدول الاقتصادي.
حمَّل سوروس النخبة الأمريكية الصناعية المسئولية عن ذلك، حيث لم تكن هذه النخب تخدم سوى مصالحها الاقتصادية المباشرة والضيقة، فالرأسمال الغربي الذي انتقل إلى أوروبا الشرقية والعالم لم يستخدم لصالح بناء المؤسسات الديمقراطية وتقوية المجتمعات المحلية، وإنما ذهب إلى الصناعات والاستثمارات الربحية، الأمر الذي خلق طبقة من الأوليجاركيين المناهضين للديمقراطية نفسها في تلك الدول، وهي الطبقة التي ستقوِّض الديمقراطية فيما بعد.
يعلِّق سوروس على الأزمة التي تعيشها أوروبا والولايات المتحدة في حديث لصحيفة الجارديان قائلًا:
وفي نهاية حديثه، يقتبس سوروس مقولة مارتن لوثر كينج الشهيرة: «قوس الكون الأخلاقي طويل، لكنه ينحني نحو العدالة»، ويعلِّق: «لهذا قضيت حياتي بنشاط في محاولة لثني هذا القوس في اتجاه إيجابي، وسأترك ما قدمته للتاريخ ليحكم عليه».